الثلاثاء، 16 سبتمبر 2014

ثورات الربيع العربي وأزمة التوقعات المتزايدة



     أثناء حكم الرئيس الأمريكي "جورج كيندي" في الستينات من القرن الماضي، أُعطيت الأقليات العرقية في الولايات المتحدة حقوقاً أكثر من أي وقت مضى، بعد رحلة كفاح طويلة ضد قوانين التمييز والعنصرية، ونتيجة لذلك طفت على السطح حالات من الغضب والاضطرابات والعنف، لقد انطلقت فجأة كل المشاعر المكبوتة في داخل هذه الأقليات، مما أدخل البلاد في موجة عارمة من الاضطرابات والعنف المتبادل، لقد بدا واضحاً أن مشاكل الماضي التي لم تُحل قفزت الى الواجهة من جديد.

   قام علماء الاجتماع بدراسة هذه الظاهرة، وأسموها " أزمة التوقعات المتزايدة"، وهي الحالة التي تصيب المجتمع حين تلوح له فرصة التعبير عن مشاعره المدفونة بعد فترة طويلة من القمع والكبت، وهذا ما يحصل تماماً في مجتمعاتنا العربية بعد اندلاع ثورات الربيع العربي وما صاحبها من فوضى عارمة وانفلات في المشاعر الدفينة والمحبوسة. وأنا هنا أتحدث عن حالات العنف المجتمعي ولا أتحدث عن ظاهرة الجماعات المتطرفة والارهابية، فذلك موضوع آخر يحمل في طياته أبعاداً أخرى.

   مخطىء من يظن أن ظاهرة العنف المتزايد الذي تعاني منه مجتمعاتنا هي ظاهرة دخيلة أو مستحدثة، بل هي حالة مُتأصلة والذي تغير هو توزيع الأدوار فقط أو  بالأحرى تبادل الأدوار في معظم الحالات، كما أن حالات التمرد والعصيان ضد كافة أشكال السلطة ما هي سوى ردة فعل عكسية لسنوات الخنوع والذل التي عاشتها الشعوب العربية في ظل حكم الحزب الواحد والجريدة الواحدة والصوت الواحد، أما حالات التناحر السياسي والحرب الضروس التي تخوضها الأحزاب السياسية من أقصى اليمين الى أقصى اليسار للاستئثار بالسلطة، فما هي سوى نتاج طبيعي لحالة التهميش التى عاشتها هذه الأحزاب خلال العقود الماضية.

  وهنا يتبادر الى الأذهان سؤال مهم، هل هذا يعني أننا ندور في حلقة مُفرغة، وأن دوامة العنف هذه ستستمر الى ما لا نهاية ؟!، وكيف هو السبيل للخروج من عنق الزجاجة، دعونا نعود الى أزمة الأقليات العرقية، صحيح أن هذه الأزمة استمرت لعدة سنوات وتواصلت الى عهد الرئيس "ليندون جونسون" ولكنها في النهاية انتهت، ولم يعد لها أي أثر، لقد تم تجاوز هذه الأزمة باعطاء المزيد من الحريات ورفع سقف الآمال والطموحات، وترسيخ مبادىء المساواة والعدالة الاجتماعية، مع تحمل المجتمع بكافة أطيافه مسؤولية الوصول الى بر الأمان، لم تحصل سوى ردة فعل محصورة للأغلبية، وبدورها استوعبت الأقليات حالة "التنفيس" التي يعيشونها وأرتقوا بأنفسهم فوق مستوى الأحداث وما لبثوا أن عادوا للانصهار في المجتمع من جديد، ليتمتعوا بالحرية التي نالوها بعد صراع طويل.

  يقول علماء النفس أن الانسان حين يتعرض لأزمات وضغوطات نفسية، وحين يجد صعوبة في الموازنة بين الرغبات الداخلية والمُحدّدات الخارجية، يقوم بتخزين هذه المشاعر المكبوتة في منطقة " اللاوعي" وحين تحين له الفرصة يقوم بالتعبير عن هذه المشاعر المكبوتة لا  شعورياً أو بطريقة لا ارادية، والطريقة الوحيدة للتخلص من هذه المشاعر ومعالجتها، هي محاولة استحضارها مجدداً ومواجهتها ومن ثم التخلص منها. ما يحدث حالياً في مجتمعاتنا لا يعدو كونه حالة تقمّص لشخصية الجلاّد التي عانينا منها جميعاً، ما تلبث أن تخبو وتزول بمجرد مواجهتنا الجريئة والصريحة لأنفسنا، واعترافنا بكل مشاكل الماضي وترسباته، وعزمنا على المضي قدماً بالتسامي فوق جراح الماضي، أملاً في مستقبل مشرق، وغد أفضل لأبنائنا، بعد أن نتجاوز حالة الانسداد الحضاري والأخلاقي التي نعاني منها حالياً.

  


أيمن أبولبن
09-09-2014







الثلاثاء، 12 أغسطس 2014

ذاكرة المكان


  لا يضاهي حياة الانسان أي شيء في هذه الدنيا، ولذلك حرصت الأديان على حُرمة قتل الانسان لأخيه الانسان، يقول الله تعالى (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا). لطالما تساءلتُ بيني وبين نفسي ما قيمة الانسان؟ ما الذي يزيد من قيمة الانسان في أعين الآخرين، ويجعله يحتل مكانة مرموقة بين الناس؟ هل هي انعكاس لجوهر هذا الانسان وما يحمله من أفكار ومبادىء سامية، ومُثُل عليا، أم هي المكانة الاجتماعية المرتبطة بالحسب والنسب والمال والجاه؟ وهل قيمة الانسان في الأديان قيمة مجردة لكونه يحمل السر الآلهي بداخله؟ وهذا التساؤل بدوره كان يقفز  بي الى تساؤلات أكثر غموضاً وحيرة، ما هي قيمة الانسان عند ذات الانسان؟ هل هناك ما يفوقها؟! كيف لشخص مثل نيلسون مانديلا أن يُضيّع شباب عمره في زنزانة صغيرة من أجل وطن؟ كيف لشخص مثل مارتن لوثر كينج أن يدفع حياته ثمناً من أجل المطالبة بالحرية والعدل والمساواة لبني جنسه؟ كيف لشخص مثل عمر المختار أن يتحدى دولة عظمى ويستقبل الموت ببسالة ويتحدى جلاّده؟ كيف لطفل فلسطيني أن يواجه دبابةً بحجر؟! ما الذي يدفع الانسان للتضحية بأغلى ما يملك من أجل قضية يؤمن بها؟

   لا شك بأن للانسان قيمة عظمى لكونه انساناً أولاً وقبل كل شيء بغض النظر عن جنسه ولونه وعرقه ودينه أو أي شيء آخر، ولكن قيمة الانسان في النهاية هي مُحصلة نهائية لما يحمله ويطبقه من أفكار ومبادىء سامية ومُثُل عليا، وتتعاظم بما يمثله من قيم حضارية وبقدر تاثيره في المجتمع وفي الحضارة الانسانية ككل، وفي هذا تفاوت كبير بين البشر، فالانسان "الخالي" من الوعي الايماني انما مثَلُهُ كقوله تعالى (كمثل الحمار يحمل أسفارا)، والانسان "الخالي" من المبادىء والقيم العليا انما مثَلُهُ كما قال الشاعر  حسان بن ثابت

لا بأسَ بالقومِ من طولٍ ومن عظمٍ                  جسمُ البغالِ وأحلامُ العصافيرِ

فالانسان النبيل الفاضل هو من يكون تعامله انعكاسٌ لأفكاره ومبادئه، هو من يبذل كل ما يستطيع لتطبيق ونشر هذه المبادىء، وهو من يبذل كل ما يملك في هذه الدنيا مقابل أن تعيش مبادئه التي يناضل من أجلها، وهنا تكمن الراحة النفسية والحياة الطيبة، فمن يعيش من أجل قضية ما ويكرس ذاته من أجلها يعش سعيداً متوازناً منفتحاً على الآخر وعلى الدنيا بأسرها، ويرى أن عمره طال أو قصر ما هو  الا جزءٌ يسير من تاريخ البشرية، فيكون حرصه شديداً لأن يجعل لحياته معنىً ولموته سمواً، فلا يتردد أبداً بأن يضحي بحياته من أجل قضيته التي عاش من أجلها، أن يضحي بروحه من أجلها، بينما يُشفق كل انسان مجرّد من هذه المبادىء على بذل أي شيء غالٍ عليه، ويفضل أن يتخلى عن أي مبدأ أو خلق فضيل على أن يتخلى عن توافه هذه الدنيا، فكيف اذا وجب عليه الاختيار بين الحياة - على تفاهة عيشه - أو الموت والتضحية من أجل الآخرين، أو من أجل الأرض والوطن، أو من أجل قيم المجتمع!!
 
 هذا ما يقوله لنا التاريخ، وهذا ما تعلمناه من نضال العظماء على مر التاريخ، وهذا ما تثبته المقاومة الفلسطينية مرةً أخرى، مجرد نظرة متمعنة لما يحصل في غزة، والمقارنة بين إقبال مُقاتلي كتائب القسام وجُبن جنود الاحتلال يثبت هذه الحقيقة، ليس هذا فحسب، بل ان أي مُتابع للأحداث سيدرك أن النصر في النهاية سيكون لأبطال المقاومة مهما طال الزمان أو قصر، ومهما تفاوتت موازين القوى أو موازين التكنولوجيا والتقدم العلمي، فالتاريخ يعلمنا أن النصر لمن يملك الارادة، ولمن يسعى حثيثاً لتحقيق أهدافه، وليس النصر بالعدة والعتاد.

   عمّاذا يقاتل هذا الفلسطيني؟! سؤال تطرحه المجتمعات الغربية، ما الذي يدفعه الى بذل روحه في عملية فدائية؟ وما الذي يدفع أحد المواطنين لتقبيل جبين ابنه الشهيد والابتسامة تعلو وجهه؟! ما الذي يدفع مواطنة فلسطينية قد دمر منزلها للتو من الهتاف للمقاومة؟!
   لسان حال كل فلسطيني يقول : الانسان يموت ويأتي غيره، والبيوت تُهدم ثم يعاد إعمارها، ولكن الوطن يبقى وذاكرة المكان تبقى، ذاكرة المكان بما تحمله من خصوصية لكل من عاشها هي أغلى وأثمن من أي انسان، وليس هذا انتقاصاً من غلاوة وقيمة الانسان، ولا انكاراً للحرقة التي تعتصر القلوب لفقدان انسان عزيز أو مسكن كان يلم شمل العائلة.
    ذاكرة المكان هذه، انتقلت عبر الجينات الوراثية من جيل الى جيل، من جيل ثورة البراق الى جيل الثورة الفلسطينية الكبرى الى جيل النكبة فالنكسة الى أبناء العاصفة ثم الى جيل الانتفاضة و أبناء غزة، فالفلسطيني حينما يولد، يأتي الى هذه الدنيا وفي ذاكرته تاريخ فلسطين ورائحة ترابها من حيث لا يشعر، حتى وان ولد في أقاصي الأرض. ذاكرة المكان هي من تضخ الدماء في عروق هذا الفلسطيني وتنثر رائحة الوطن مع أنفاسه،

  يدرك الفلسطيني اليوم أكثر من أي وقت مضى أنه يعيش من أجل رسالة وأنه وما يملك فداءٌ لهذه الرسالة، ابن فلسطين، حامل ذاكرة مكانها، هو من سيحمي هذه الأرض ويُعيدها سيرتها الأولى، ولا أحد سواه، أما القادم من وراء البحار فله ذاكرة مكان لا تخص فلسطين.

أيمن أبولبن
08-08-2014









الأربعاء، 11 يونيو 2014

هل بتنا بحاجة الى حركة تنوير عربية؟




  عانت أوروباً قديماً من التطرف الديني ومن تحكّم الكنيسة في الشؤون العامة للدولة، والذي وصل ذروته مع انشاء الكنيسة الكاثوليكية لما يُسمّى ب"محاكم التفتيش " التي راح ضحيتها عشرات الألوف على رأسهم عدد كبير من الفلاسفة ودعاة الحداثة الدينية، وأمتد الصراع بين الظلاميين وحركات التنوير الى ما يزيد عن قرنين من الزمان لغاية انطلاق الثورة الفرنسية والتي كانت المعركة الفاصلة التي جيّرت الأمور لصالح الحداثيين وحركة التنوير الفكري، ومما يذكر أن الثورة الفرنسية استمرت لما يزيد عن عشر  سنوات وسقط فيها ما يزيد عن ثلاثين الف ضحية، وشهدت مدّاً وجزراً بين الثورة والثورة المُضادة،

   في نهاية الأمر وصلت أوروبا الى مُبتغاها بوضع حد لما يُعرف بمرحلة "الحُكم المُطلق" وتحرّرت من قيود الكنيسة ثم انطلقت جاهدة في رحلة البحث عن التحضر والمدنيّة أملاً في تحقيق الحرية والعدالة لمواطنيها وفصل الدين عن السياسة، والنتيجة هي ما نراها الآن من ازدهار وتطور على جميع الأصعدة ، أو كما قال شيخنا الجليل "محمد عبده" (وجدتُ في الغرب اسلام بلا مسلمين)، فجميع الشعارات النبيلة التي يدعو الاسلام الى تحقيقها موجودة بالفعل ولكن دون مسلمين.

  من الطبيعي لأي باحث في قضية الساعة "الربيع العربي" أن يسترجع ما مرت به أوروبا في آتون رحلتها في البحث عن هويتها الفكرية، ومقارنته بما نمر به الآن في عالمنا العربي في ظل الثورات العربية، ولكن من الخطأ الاعتقاد أننا نستطيع أن نبني نهضتنا بناءً على تجارب الآخرين حتى لو كانت ناجحة ومُبهرة، فالاختلافات بيننا كبيرة وعميقة، فالثورات العربية انطلقت نتيجة أزمات تتعلق بالظروف الاقتصادية الصعبة التي تعيشها شعوب المنطقة عدا عن الظلم والاستبداد الذي تعرضت له هذه الشعوب باسم الوطنية تارة والقومية العربية تارة أخرى، كما أنه لم يسبق الثورات العربية ثورة فلسفية كما كان الحال في أوروبا ولم يكن هناك أي صراع حضاري بين المجتمع والسلطة الدينية كما كان الوضع في أوروبا،

 من الملاحظ في الفترة الأخيرة، تنامي تيار يساري مُتطرّف في منطقتنا العربية، في محاولة لمُحاكاة حركة التنوير الاوروبية بالدعوة الى الحداثة والتنوير الفكري في مواجهة التطرف الديني، بمعنى آخر محاولة تكرار الثورة التنويرية في أوروبا والانسلاخ من كافة الروابط الدينية تحت شعار " لا يوجد تقدم فكري الا من خلال هدم كافة أشكال التديّن وبناء دولة مدنية تحترم حرية الأفراد من منظور انساني بحت "، ومن سخرية القدر، أن يتحالف هذا التيار مع الحُكم الديكتاتوري البوليسي في مواجهة الاسلام السياسي كما هو حاصل في مصر وفي سوريا - مع بعض الاختلافات هنا وهناك – مما أدى في النهاية الى انحسار الثورة الشعبية الحقيقية واختزال مطالبها الجوهرية الأساسية في هذين البلدين،
   لا بد من الاعتراف بأننا بحاجة الى مراجعة عقيدتنا وازالة كل الشوائب التي تراكمت عليها خلال قرون من الزمن، وأننا في أشد الحاجة الى اعادة تشكيل المفاهيم الدينية لدينا واعادة صياغتها بشكل حضاري معاصر يضمن في النهاية الفصل بين جوهر الدين و قشوره الظاهرية، ولكن الهدف النهائي من هذا هو التجديد والوصول الى منهج اسلامي وسطي تنويري معتدل يضم كافة الطوائف على اختلافاتها ويضمن المواطنة للجميع على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم ودياناتهم وانتماءاتهم، وليس خلع عباءة الدين والتديّن كما حصل في أوروبا.

المنهج الديني الوسطي والاسلام السمح هو من سيقف في وجه التطرف الديني، وليس المنهج العلماني اليساري الذي يدعو الى التحلل من "قيود" الدين لمواكبة العصر، التعصب الديني يتم القضاء عليه بالفكر وبالاعتدال وبانتهاج سنة الرسول صلى الله عليه وسلم التي تعتمد على الوسطية يقول الله تعالى  ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) ،أما محاولة تجريد الدين من جوهره وانتاج دين "مودرن" يتلاءم مع تطلعاتنا وأهوائنا البشرية، فهو كمن يحاول أن يصب النار على الزيت.
  
بالنظر الى النتائج التي آلت لها الثورات العربية ، يبدو جلياً أننا على أعتاب ثورة فكرية عاصفة من أقصى اليمين الى أقصى اليسار ، الى جانب صراعنا المرير ضد رموز الظلم والاستبداد في المنطقة، واذا أردنا أن نعبر الى بر الأمان فعلينا أن نخوض هذه المعركة بأنفسنا وننتصر بها، ولا سبيل لهذا سوى بتحقيق غايات الاسلام العليا المتمثلة باعتدال المنهج ونشر العدل والمساواة وتحقيق العدل والتحلي بالأخلاق الحميدة، والحرص على بناء المجتمع، ولن تتحقق هذه الغايات ان لم تنبع من داخلنا نحن الأفراد، وتنعكس بعد ذلك على مجتمعاتنا.

  لسنا بحاجة الى حركة تنوير أوروبية، بقدر ما نحن بحاجة الى ثورة تصحيح داخلية في المفاهيم الدينية تُفضي الى نبذ التعصب والتشدد الديني، بالاضافة الى نبذ الارهاب والتطرف الديني مع التمسك بثوابت الدين وجوهره.

أيمن أبولبن

31-5-2014

السبت، 31 مايو 2014

دَوْر السينما في تصحيح المفاهيم (العُبودية أُنموذجاً )



   أنتجت السينما الأمريكية خلال العام الماضي فيلمين مهمين يستعرضان قضية العبودية في امريكا، الفيلم الأول كان ( الخادم  The Butler) تلاه فيلم ( 12 عام من العبودية 12 Years a Slave  ) والذي نال شهرة واسعة نتيجة حصوله على أهم جائزة للأوسكار (جائزة أفضل فيلم). عدة قواسم مشتركة بين الفيلمين أهمها الاعتماد على قصة حقيقية وتحويل الرواية الأدبية الى فيلم سينمائي بنجاح فني باهر، بالاضافة الى القاء الضوء على حقبة سوداء في التاريخ الأمريكي، أستمرت ذيولها لقرن من الزمان.

   الاختلاف الرئيسي بينهما يكمن في أن فيلم "الخادم" يصحبنا في رحلة طويلة تمتد من بدايات العبودية في زمن الاقطاعيين وصولاً الى تتويج باراك اوباما كأول رئيس أسود مُنتخب في البلاد، مع القاء الضوء على المحطات الرئيسية لهذه القضية على امتداد التاريخ الأمريكي وخصوصاً مرحلة العنصرية ضد السود، في حين أن الفيلم المفضل لدى النقّاد هذا العام (12 عام من العبودية) يركز على مرحلة العبودية في منتصف القرن التاسع عشر من خلال عرض قصة كفاح بطل الفيلم (مؤلف الرواية الأصلية) والمعاناة التي عاشها السود في تلك المرحلة.

  بعيداً عن النجاح الفني والتألق الذي تمتع به الفيلمان فان اللافت هو جرأة السينما الأمريكية عموماً في طرح أزمات ومشكلات المجتمع ومناقشة قضاياه بكل موضوعية وشفافية وبحياد تام. صحيح أن الولايات المتحدة ما زالت تعاني الكثير من المشاكل سواءً على صعيد التفكك الأسري أوالتباعد بين خطوط العرقيات المختلفة داخل مجتمعاتها، أو حتى على الصعيد الفكري والأخلاقي، بالاضافة الى التحديات الكبيرة التي تواجهها على المستويين الاقتصادي والسياسي، مما يشير الى أنها ليست أنموذجاً للمدينة الفاضلة بالتأكيد، ولكن بالرغم من كل هذا علينا أن نعترف ونشيد بقدرتها على مواجهة مشكلاتها، في الوقت الذي ما زالت مجتمعاتنا الشرقية تعاني فيه من قصور شديد في هذه الناحية،

    من المعروف أن تحديد المشكلة والوقوف على أسبابها هو نصف الحل، ويبدو أننا ما زلنا نعاني من مشكلة أساسية وهي عدم قدرتنا على مواجهة مشكلاتنا والاعتراف بأخطائنا وقصورنا، سواءً على مستوى الأفراد أو المجتمعات أو حتى القيادات والنخب السياسية، ونعتقد أننا اذا تجاهلنا المشكلة فأنها ستندثر وتنتهي بالتقادم، وهذا خطأ أعظم من الوقوع في المشكلة بحد ذاته !! فبعد أن حبانا الله بالاسلام الذي عالج كل مشاكلنا الدنيوية والروحانية (ومن ضمنها العبودية) ودفع بالأمة الاسلامية لتتبوأ صدارة الأمم المتحضرة وتقود هذا العالم، من الواضح أننا فشلنا في التعامل مع المشكلات التي طفت على السطح بعد ذلك وانزلقنا في مستنقع الخلافات، لنقبع في مؤخرة قائمة الأمم، ونتصدر قائمة الأمم "المُتخلفة".

  في الوقت الذي تتعافى فيه المجتمعات الغربية من مشكلاتها المزمنة وتغسل وسخها رويداً رويداً، نقف نحن مكتوفي الأيدي مُكتفين بترديد شعارات عن المثالية، وحين يتطلب الأمر نغوص في أعماق تاريخنا العريق كي نتلذذ بريادتنا للأمم ونثبت أننا الأفضل والأحسن، والأهم من ذلك أننا على النهج السليم في حين أن الغرب باع آخرته وأشترى دنياه !!

   مجموعة كبيرة من التناقضات التي تعيشها مجتمعاتنا، وفجوة حضارية هائلة تفصل بيننا وبين العالم الغربي، وما زلنا غير قادرين على مواجهة أنفسنا وتحديد مشكلاتنا، بل حتى الحديث عنها والبوح بها. لقد ذُهلنا جميعاً خلال السنوات الأخيرة من مدى تورطنا في أزمات ومشكلات عويصة تكاد تكون عصيّة على الحل وتحتاج على ما يبدو الى عقود من الزمن للتخلص منها، وعلى رأس هذه المشاكل، الطائفية والتطرف الديني بل وحتى الفكري، فعالمنا العربي من أقصى الشرق الى أقصى الغرب يعج بالاقتتال الطائفي والاختلافات الفكرية والحزبية، وعلى سبيل المثال لا الحصر ما تشهده الساحة العربية من مناحرات وتجاذبات بين سُنّي و شيعي، مُسلم و قبطي، مواطن و أجنبي، عربي و أمازيغي، اخونجي وعلماني وقس على ذلك. ولو قامت السينما العربية بعرض شفّاف لأحدى هذه القضايا لقامت حروب ولشُرّدت طوائف.

     لا حل لمشكلاتنا بدون ان نعترف بها أولاً وبفشلنا في التعامل معها ومن ثم وضع الحلول لها، وهذا ليس مقتصر على الحكومات أو المُفكرين والمثقفين فقط بل هو واجبٌ على المجتمع ككل. مع الاعتراف بأن الرموز الفكرية وأصحاب القرار لهم اليد الطولى في حل مشاكل المجتمعات المُزمنة، فلم يكن بالامكان القضاء على مشكلة العبودية لولا جرأة الرئيس لينكولن وقيامه بتعديل الدستور والغاء كافة قوانين العبودية رغم المعارضة الكبيرة التي واجهها، ولولا قرار الرئيس كندي بالغاء كافة قوانين التمييز العنصري رغم اعتراض رموز المجتمع آنذاك، دون أن ننسى الدور الذي قام به المفكرون من أمثال مارتن لوثر كينج في النضال من أجل نيل الحرية والمساواة، ومن المؤسف أن جميع من ذكرت دفعوا حياتهم ثمناً لقيادتهم لثورة "التغيير" في مجتمعاتهم!!
 
أختم حديثي بحوار تضمّنه فيلم ( 12 عام من العبودية ) حيث ينتقد أحد الأشخاص (البيض) الظروف المعيشية للعمّال (العبيد) في احدى المزارع فيرد عليه صاحب المزرعة بأن هؤلاء ليسوا عُمّالا أو مُستأجرين، بل هم جزء من أملاكه بعد أن دفع ثمنهم حسب القانون، فيرد عليه: القوانين تتغير بينما الحقيقة والقيم المطلقة لا تتغير، ماذا لو استطاع السود أن يتحكموا في القوانين وجعلوا من البيض عبيداً لهم ؟! ما هو حق وصواب فهو حق وصواب للجميع وليس لفئة دون غيرها، والحق الذي أراه أن البيض والسود متساوون أمام الله.

صحيح أننا لم نعش في مجتمعاتنا الشرقية تفرقة بين أبيض وأسود، ولكننا نعيش تفرقة من نوع آخر، لقد بدّلنا الكلمات ولم نحل المشكلة، ولا أرى حلاً لمشكلاتنا دون أن نواجهها ونقود ثورة تغيير حقيقية في مفاهيمنا.

أيمن أبولبن
5-5-2014


الأحد، 11 مايو 2014

خربشات على صفحات التاريخ

خربشات على صفحات التاريخ

   خلال عام 2013 دخلت الثورة السورية نفقاً مُظلماً مع دخول الجماعات المُتطرفة ساحة الصراع هناك قابله أيضاً مُشاركة ميليشيات حزب الله في الصراع الى جانب القوات النظامية، ونتيجة لذلك تضاعفت مأساة الشعب السوري حيث أمسى بين فكّي كماشة، النظام السوري من جهة، وبطش الجماعات المّتطرفة من جهة أخرى. والرابح الوحيد من هذا المنحنى الخطير الذي اتخذته الأحداث، كان النظام السوري.  

   من يقرأ الأحداث بعمق ولا يكتفي بمتابعة ما يطفو على السطح، يسهل عليه تحليل الأحداث واستنتاج أن النظام السوري كان يهدف منذ البداية الى جر الثورة السورية "السلميّة" الى فخ "تسليح المُعارضة" ومن ثم فتح الباب على مصراعيه للاقتتال الطائفي، ولا يخفى على متابعي الأحداث عن كثب، العلاقة المشبوهة التي تربط النظام بأكبر تنظيم متطرف في المنطقة (داعش) والذي يعيث في الأرض الفساد، وأكبر دليل على هذه العلاقة هو التنسيق الأمني الحاصل بين الطرفين على الأرض، وعدم دخولهما في أي مواجهة مباشرة.

   عدا عن الصاق تهمة الارهاب بالمعارضة، فقد استطاع النظام السوري نقل المعركة من ساحة الصراع السياسي -التي يعلم جيداً أنه سيفشل فيها- الى ساحة اقتتال يجيد التعامل معها جيداً، بل وبامكانه التحكم في ادارة دفة الصراع فيها، وهذا ما مكّنه من ايهام البسطاء أن النظام السوري على كل علاّته أرحم بكثير من هؤلاء المتطرفين وأن صموده في المعركة هو أفضل ما يمكن أن يتمناه الشعب السوري في هذه المرحلة. بعد أن كان اسقاط النظام مطلباً شرعياً للشعب السوري بل مطلباً جماهيرياً لمعظم الشعوب العربية.

  يقول المفكر والفيلسوف الألماني "هيغل" أن العالم يسير الى الأفضل وأن عجلة التاريخ لن تعود أبداً الى الوراء، وهذا ما لا يدركه النظام السوري، الذي ما زال حتى الآن يراهن على قدرته على اعادة عقارب الساعة الى ما قبل الربيع العربي وأنه بالامكان منع احجار الدومينو  من السقوط المتوالي. النظام السوري يراهن على أن التاريخ سينبهر من وقع الأحداث اليومية المتلاحقة على الساحة السورية وسينهمك في تغطية التفاصيل الصغيرة ويعجز بالتالي عن ادراك الحقيقة الكامنة تحت السطح، تلك الحقيقة التي تُدين النظام السوري في كل ما يجري على الساحة السورية. وتثبت أن علاقته بالارهاب علاقة أزلية متجدّدة.

    التاريخ سيذكر –رغم أنف النظام- أن "خربشات" أطفال على جدران درعا هزّت عرش النظام السوري فارتجف ولم يجد أمامه سوى لغة البطش والقبضة الأمنية التي لا يُجيد غيرها، التاريخ سيذكر أن أول ضحايا المظاهرات السلمية كان طفلاُ لا يتجاوز عمره ثلاثة عشر ربيعاً "حمزة الخطيب" وأن الأمن السوري أراد أن يجعل منه عبرةً لمن يعتبر فقام بالتمثيل في جثته، حيث قطع عضوه التناسلي، كما سيذكر التاريخ أيضاً حادثة ذبح "إبراهيم قاشوش" (مُغني الثورة السورية) واقتلاع حنجرته ثم القاء جثته في نهر العاصي، وسيذكر أيضاً كسر أصابع علي فرزات (الرسّام المناهض للنظام)، واقتلاع عين مصور مظاهرات حمص. فمن هو الارهابي الأول في سوريا، ومن زرع بذور الارهاب في المنطقة، وسعى لحصد ثمارها ؟!

التاريخ سيحكم على النظام السوري ولن يجامله كما يفعل كثيرون، لن يلتفت التاريخ الى ارهاصات نظرية المؤامرة، ولن يتمكن الفيتو الروسي ولا الدعم الايراني ولا ميليشيات حزب الله من وقف عجلة التاريخ ولا تغيير نواميس الكون، وأقصى ما يمكن فعله هؤلاء هو تأخير عجلة الأحداث لبعض الوقت. يقول الله تعالى : (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين).

   العالم يحكمه العقل والمنطق والحق في النهاية، على الرغم من المظاهر الخادعة التي توحي أن الطغاة والاقطاعيين والفاسدين يتسيّدون هذا العالم، ومن يشك في هذا، فعليه مراجعة التاريخ جيداً والنظر بعين ثاقبة الى حركة التاريخ العميقة بعد ازالة القشور السطحيّة. عندها سيدرك أن هؤلاء لا يَعدون كونهم ممثلي كومبارس يؤدون أدواراً "قذرة" كي يسطع نجم الممثل الأول الذي يلعب دور البطولة ويتصدر صفحات التاريخ.

أيمن أبولبن
25-4-2014





الأربعاء، 23 أبريل 2014

قصص من الواقع (3)

قصة فاطمة

      لي صديقٌ عزيز، زميلُ دراسة قديم وعشرة عمر، تربينا سويّةً؛ كان رفيقي في شلّة الحارة، وفي صف المدرسة، وعندما نقع في المحظور كنا نتشارك في تلقّي "علقة ساخنة" أو "دش بهدلة"، كنت أعتبره واحداً من أهلي وهو كذلك. كبُرنا وكَبُرت أحلامُنا معاً، سرقتنا الدنيا من بعضنا وأصبحت لقاءاتنا متباعدة ومتفرقة، هاتفني قبل فترة وطلب مني أن أزوره، أحسست من صوته أن شيئا جللاً قد حدث.

   ذهبت لزيارته فوجدته كئيباً وحزيناً، قدّم لي كأساً من الشاي، وبدأ ينفث دخانه في أرجاء الغرفة، وبدون أن أسأله بادرني بالحديث، أختي فاطمة يا صديقي، قلت له ما بها فاطمة، قال حالها لا يسر عدو ولا صديق، هل تعلم ماذا صنع بها زوجها ؟ تبادرت الى ذهني ذكرياتها السيئة مع زوجها، وعاد لي شعور الحسرة على ارتباط مصير انسانة نقية مثل فاطمة بمصير شخص سيء الطباع وعديم الأخلاق مثل زوجها، قلت له أعلم بعض الأشياء من بعيد ولكن حدّثني ما الذي حصل؟

   أخذ نفساً عميقا من سيجارته، و نفث دخانها وكأنه يحاول أن يخرج كل المآسي الكاتمة على صدره، زوجها "ليث" يا عزيزي يلعب القمار ويشرب الخمر؛ يقضي ليله الطويل في دور الملاهي وفي أحضان الراقصات، فقدَ عمله نتيجة تسيّبه، وأصبح يعتمد على راتب فاطمة، ليس هذا وحسب، بل انه أخرج ابناءه من المدرسة كي يعملوا ويأتوا له بالمال، ويبدو أن ابنه الكبير "علي" ذو حظوة كبيرة عنده، فهو "الرجل الثاني" في المنزل، وهو الناقل الرسمي لتفاصيل ما يجري في غياب الوالد، والنتيجة الآن أن هناك حلفين في البيت، حلف الأب والأبن الأكبر، وحلف فاطمة والأولاد الصغار.

  بدا صديقي وكأنه يتحدث الى نفسه، عيونه تدور في أرجاء الغرفة، دون أن يوجهها صوبي، ثم استرسل في حديثه قائلاً : يقضي ليث نهاره في البيت وهو يغط في النوم، يصحو مع نهاية النهار، فيعتدي على فاطمة بالضرب والشتم، يعنّف أولاده الصغار كي يشعر برجولته، يأخذ ما بحوزتهم من أموال ويتقسامها مع ابنه الكبير، ثم يغادر الى حيث يجد متعته، يعود مع وقت الفجر، ليعيد نفس الكرة مع زوجته وأولاده وهكذا دواليك .

  أطبق الصمت علي، بينما أشعل صديقي سيجارته الثانية، وأردف قائلاً، مؤخراً علمتُ بأنه يعاقب من يعصي أوامره من أولاده بحبسهم في غرفهم وابقائهم دون طعام أو شراب ليوم كامل، ثم يفرج عنهم بعد أن يجعلهم يقبًلون حذاءه ويقدّموا له بعض الرقصات التي تسعده، ثم يطلب منهم أن يهتفوا باسمه ويمجدوه ويقدسوه!!

  انتفضت من مكاني لا شعورياً وصرخت قائلاً هذا غير معقول، هذا انسان مريض، مختل عقلياً !!! وماذا أنت فاعل ؟ هل فكرت أن تلجأ الى الشرطة ؟

  قال لي ببرودة أعصاب يُحسد عليها اجلس ...اجلس !

استطردت في فورة الغضب وكأني لم أسمع ما يقول:

   لو ذهبت الى أي قاضي سيحكم لك بطلاقها منه؟! ولو لجأت الى عشيرتك لأقتصوا منه، يا أخي تحلّى ببعض النخوة ودافع عن أختك، ضع له حداً، خذ فاطمة وأولادها بالقوة، أحضرهم ليعيشوا عندك، ألست مسؤولاً عنهم ؟!  

  أشار لي بالهدوء، وأشعل سيجارة جديدة؛ أحسست أن بالوناً كان منفوخاً في صدري ثم انفجر فجأة فبات قلبي خاوياً. ما أعتدت منك هذا اللين والترفق، ما الموضوع ؟!

    هل تريدني أن أطلقها منه؟ لنفترض جدلاً ان هذا حصل، ماذا سيكون مصير فاطمة وأولادها ؟ ألا تعلم نظرة المجتمع للمرأة المطلقة ؟! من سيعولها ويعول أبناءها وأنت تعلم بحالي ؟! أنا لن أعيش لهم للأبد، ماذا سيكون مصيرهم من بعدي ؟

   قلت له يا أخي ضع ثقتك في الله، ولن يخيب ظنك أبداً، سيكون لها نصيب مع من يقدرها ويحسن اليها باذن الله، على الأقل اعطها فرصة أن تختار وتعش حياتها.

   هل تضمن لي أن القادم أفضل من حاضرها ؟! ثم ألا تذكر أبناء عمومتي وعداءهم الشديد لنا، بسبب الخلاف القائم حول قضية الارث ؟! أنا واثق أنهم سيستغلون الفرصة وسيمارسوا ألاعيبهم كي تتزوج من أحد معارفهم ثم يجبروها على التنازل عن حقوقها ويرموها في الشارع، أقسم لك أن ما يحصل لفاطمة الآن هو أهون علي من أن تصبح لعبة هي وأولادها في يد ابناء عمومتي.

  عندها فقدت السيطرة على أعصابي وأنفجرت في وجهه، بأي منطق تتكلم؟! وأية أنانية تلك التي تعتمل في صدرك، بأي حق تقوم بتحديد مصير فاطمة كما يروق لك، ومن أعطاك الحق لتحكم على مستقبلها وقدرها ثم تقول انه سيكون أسوأ من حاضرها !! اذا كنت تتحدث عن المنطق والصواب، فأختك فاطمة الآن تعيش في جحيم والأولى بك أن تفكر في تخليصها منه، وبعد ذلك يكون لكل حادث حديث، أما أن تتركها تواجه مصيرها مع شخص تجرّد من كل معاني الانسانية بحجة الخوف من المستقبل ومن كيد أبناء العمومة فهذا عذر أقبح من ذنب!!

   تركته جالساً وهممت بالمغادرة ثم عدت أدراجي وكأني لم أشف غليلي بعد، قلت له أتعلم ؟! أنا بالفعل غير قادر على تصور أن فاطمة الآن قد تكون محبوسة أو قد تكون تداوي جراحها أو تضمد جراح أبناءها في هذه اللحظة بالذات ، بينما أنت جالس هنا تشرب الشاي وتدخن سيجارتك، وفوق هذا كله تحاول ايجاد الأعذار على نكوصك ونقص رجولتك !!

  توجهت الى الباب وعندما أصبحت على عتبة داره، التفت اليه قائلاً : أشعر بالخجل منك ومن تصرفاتك، وأبرأ الى الله منك !!

   عدتُ الى منزلي، واستلقيت في فراشي، ولكني عبثاً حاولت النوم، كلما غفوتُ أيقظتني صرخة فاطمة واستجداء صغارها، فلم أجد بُداً من مغادرة الفراش؛ جلست أشاهد التلفاز، وأتنقل بين البرامج، استوقفني برنامج حواري يتحدث عن مأساة سوريا، وللصدفة كان هناك أحد القومجيون العرب، الذي يروّج لنظرية المؤامرة – كما يفهمها هو - ويتحدث عن المستقبل المجهول لسوريا اذا ما سقط نظام الأسد، ثم أنهى مداخلته قائلاً  "أنا لا أساند الطغيان ولكني أقف ضد المخطط الامريكي الامبريالي في المنطقة التي تسانده دول الخليج !!" فما كان مني الا أن صنعت كأس شاي، وأشعلت سيجارتي، ثم جلست أنفث دخانها في أرجاء الغرفة !!!

   أيمن أبولبن 
18-4-2014


الجمعة، 18 أبريل 2014

إقرأ حتى وإن كنت تغرق !



   في فنلندا، هناك نصبٌ في حديقة عامة كُتب عليه عبارة " إقرأ حتى وإن كنت تغرق" تم تصميمه على هيئة رجل يقرأ بكتاب وسط الماء، وهي فكرة لطيفة تشير الى أهمية القراءة والثقافة بشكل عام للمجتمعات، وكيف أن الدول الغربية مهتمة بتحفيز وحثّ شعوبها على القراءة، ووضع القراءة والمعرفة على قائمة أهم أولوياتها.

   من باب التذكير فقط أذكر أن أول كلمة نزلت من القرآن الكريم كانت كلمة "اقرأ"، يقول الله تعالى (اقرأ باسم ربك الذي خلق) وهذه اشارة جليلة لحرص الاسلام على جعل الفكر والثقافة السبيل الأول للايمان بالله، فالايمان الحقيقي لا يكون الا بالعلم وادراك مراد الله في الكون، والايمان الأعمى أو المتعصب ينمّ عن ضعف أو نقص في الايمان، ومن هنا تأتي عظمة المعجزة الكبرى لنبينا محمد "القرآن الكريم"، فالحرص على التديّن والتعمق في منهج الله يكون من خلال "القراءة" وتطوير أدواتها، وبدون اتقان مهارة القراءة تختل مفاهيم الايمان.

   لعل الشعوب العربية لا تقل اهتماماً بالقراءة عن باقي الشعوب الغربية، ولكن الفارق يمكن في اهتمام المؤسسات الحكومية والمدنية على رعاية الثقافة في المجتمعات، فمجتمعاتنا الشرقية والعربية خصوصاً تفتقد للمسة الرعاية والاهتمام هذه، مما يجعل تجربة القراءة والثقافة في مجتمعاتنا لا تعدو كونها اجتهادٌ شخصي للأفراد وللأُسَر، مما يجعلها عُرضة لكثير من النواقص والعيوب، ومنها حصر مفهوم القراءة في متابعة " الرواية العربية" وهذا خطأ جسيم تقع فيه فئة كبيرة من القُرّاء وخاصة الفتيات، فبرغم أهمية الرواية في شحذ الخيال وفتح باب التأمل والتفكير ، الا أنها لا تعدو كونها فصلاً واحداً من فصول القراءة والثقافة، فالاهتمام بالقراءة والثقافة يتعدى المجال الأدبي ليصل الى كافة مجالات الحياة العلمية والسياسية والمهنية والاجتماعية ومجالات تطوير الذات والتاريخ ...... الخ، وبقدر التنوع الذي يحرص عليه الشخص بانتقاء مصادر القراءة بقدر ما تتسع مداركه ويصبج قادراً على مواكبة الأحداث الجارية حوله، بل والتأثير في سيرها ولعل هذا هو الهدف الأسمى من القراءة.

      تتدرّج القراءة من قراءة بسيطة عابرة مثل قراءة الجريدة الرسمية، الى متابعة المقالات التحليلية والدراسات الاجتماعية ومن ثم الانطلاق نحو المزيد من القراءة التفصيلية للمواضيع التي يهتم بها الفرد، والتي عادةً ما تكون مرتبطة باهتماماته الخاصة سواءً المهنية أو السياسية أو اهتماماته الشخصية، ثم يأتي بعد ذلك تخصيص وقت للقراءة العامة بحيث لا يمضي يوم دون قراءة جزء من كتاب أو البحث عن موضوع أو قضية عامة والتعمق فيها، وأنا شخصيا أحبذ أن لا أركز على كتاب واحد حتى الانتهاء منه على عكس كثيرين، فأنا أبدأ بقراءة كتابين أو ثلاثة في مواضيع مختلفة، على أوقات موزعة خلال أيام الأسبوع حتى لا يتسلل الملل لي،  فأنا لست من الذين ينغمسون في القراءة وينهون قراءة الكتاب في وقت قياسي، أشعر أن القراءة البطيئة والمتمعنة وما يتبعها من تحليل لما قرأت والبحث بين السطور أهم من انجاز القراءة بحد ذاتها.

   أذكر أن مُدرّسة في معهد اللغات الامريكي نصحتني ذات يوم بأن أحمل معي كتاباً وأستغل الوقت "المستنزف" في المواصلات العامة بالقراءة، لم آخذ بنصيحتها بالطبع رغم اقتناعي بالفكرة، لأسباب تعود الى عدم توفر سبل الراحة في المواصلات العامة على عكس الحال في بلاد الغرب، ولكني أعجبت بالفكرة وأستوقفتني كثيراً وقتها، وعجبت من الاهتمام الكبير  لهذه المُدرّسة في القراءة واستغلال الوقت، لذا بدأت بتطبيق هذه الفكرة لاحقاً لاستغلال الوقت الضائع في غُرف الانتظار  وفي السفر وغيرها.

   الحياة البشرية عبارة عن دورة متكاملة، ونواميس الكون علمتنا أن الحياة كالعجلة تدور ولا تتوقف، كما أن العلم أثبت أن جسم الانسان يعتمد على دورات عدة مثل الدورة الدموية والتنفسية والهضمية، وكذلك هي القراءة، فهي بمثابة الغذاء الروحي الذي نعيش عليه، وكي تكتمل الدورة علينا أن "نهضم" هذا الغذاء ونستفيد منه ثم نعكسه على شؤون حياتنا، ومع اكتمال دورة القراءة سنساعد أنفسنا على التخلص من الأفكار السلبية الكامنة في نفوسنا واستبدالها بأفكار ايجابية مفيدة وممتعة، وهكذا دواليك، فالهدف هو أن نرقى بأنفسنا من خلال القراءة والرقي بمجتمعاتنا وصولاً الى تحقيق حياة أفضل لنا ولأبنائنا، وبدون هذا لا يكون هناك معنى للقراءة فالبشر لم يُخلقوا للتخزين والتكديس بل للتدوير .

  اقرأ حتى لو كنت تغرق، أعجبتني هذه العبارة ودفعتني للكتابة حال قراءتي لها، ولعلي أضيف تعديلاً لها أو بُعداً آخر بالربط بين الغرق والتوقف عن القراءة، فمفهوم القراءة يعتمد على التجدّد المستمر وعدم الركون، فالقراءة يجب أن تبقى مصاحبة لنا في شتى الأوقات وباختلاف أحوالنا وحتى في ذروة انشغالنا، وفي اللحظة التي نتوقف فيها عن القراءة "سنغرق" في آتون الحياة، وهذا ما سيحدث لنا لو توقفنا عن العوم في الماء ولو للحظة، لو سمح لي القائمون على هذا التمثال لوضعت عليه عبارة " اقرأ حتى لا تغرق ! "

  هذه دعوة لجعل القراءة نشاطاً يومياً، واضعين في اعتبارنا أنها ليست هدفاً في ذاتها فالقراءة جزءٌ من دورة الحياة ولا تكتمل بذاتها.


أيمن أبولبن
10-4-2014