لا
يضاهي حياة الانسان أي شيء في هذه الدنيا، ولذلك حرصت الأديان على حُرمة قتل
الانسان لأخيه الانسان، يقول الله تعالى (وَمَن
يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ
اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا). لطالما
تساءلتُ بيني وبين نفسي ما قيمة الانسان؟ ما الذي يزيد من قيمة الانسان في أعين
الآخرين، ويجعله يحتل مكانة مرموقة بين الناس؟ هل هي انعكاس لجوهر هذا الانسان وما
يحمله من أفكار ومبادىء سامية، ومُثُل عليا، أم هي المكانة الاجتماعية المرتبطة
بالحسب والنسب والمال والجاه؟ وهل قيمة الانسان في الأديان قيمة مجردة لكونه يحمل
السر الآلهي بداخله؟ وهذا التساؤل بدوره كان يقفز
بي الى تساؤلات أكثر غموضاً وحيرة، ما هي قيمة الانسان عند ذات الانسان؟ هل
هناك ما يفوقها؟! كيف لشخص مثل نيلسون مانديلا أن يُضيّع شباب عمره في زنزانة
صغيرة من أجل وطن؟ كيف لشخص مثل مارتن لوثر كينج أن يدفع حياته ثمناً من أجل
المطالبة بالحرية والعدل والمساواة لبني جنسه؟ كيف لشخص مثل عمر المختار أن يتحدى
دولة عظمى ويستقبل الموت ببسالة ويتحدى جلاّده؟ كيف لطفل فلسطيني أن يواجه دبابةً
بحجر؟! ما الذي يدفع الانسان للتضحية بأغلى ما يملك من أجل قضية يؤمن بها؟
لا شك بأن للانسان قيمة
عظمى لكونه انساناً أولاً وقبل كل شيء بغض النظر عن جنسه ولونه وعرقه ودينه أو أي
شيء آخر، ولكن قيمة الانسان في النهاية هي مُحصلة نهائية لما يحمله ويطبقه من
أفكار ومبادىء سامية ومُثُل عليا، وتتعاظم بما يمثله من قيم حضارية وبقدر تاثيره
في المجتمع وفي الحضارة الانسانية ككل، وفي هذا تفاوت كبير بين البشر، فالانسان
"الخالي" من الوعي الايماني انما مثَلُهُ
كقوله تعالى (كمثل الحمار يحمل أسفارا)،
والانسان "الخالي"
من المبادىء والقيم العليا انما مثَلُهُ كما قال الشاعر حسان بن ثابت
لا بأسَ بالقومِ من طولٍ
ومن عظمٍ جسمُ البغالِ
وأحلامُ العصافيرِ
فالانسان النبيل الفاضل هو من يكون تعامله انعكاسٌ لأفكاره
ومبادئه، هو من يبذل كل ما يستطيع لتطبيق ونشر هذه المبادىء، وهو من يبذل كل ما
يملك في هذه الدنيا مقابل أن تعيش مبادئه التي يناضل من أجلها، وهنا تكمن الراحة
النفسية والحياة الطيبة، فمن يعيش من أجل قضية ما ويكرس ذاته من أجلها يعش سعيداً
متوازناً منفتحاً على الآخر وعلى الدنيا بأسرها، ويرى أن عمره طال أو قصر ما
هو الا جزءٌ يسير من تاريخ البشرية، فيكون
حرصه شديداً لأن يجعل لحياته معنىً ولموته سمواً، فلا يتردد أبداً بأن يضحي بحياته
من أجل قضيته التي عاش من أجلها، أن يضحي بروحه من أجلها، بينما يُشفق كل انسان
مجرّد من هذه المبادىء على بذل أي شيء غالٍ عليه، ويفضل أن يتخلى عن أي مبدأ أو
خلق فضيل على أن يتخلى عن توافه هذه الدنيا، فكيف اذا وجب عليه الاختيار بين
الحياة - على تفاهة عيشه - أو الموت والتضحية من أجل الآخرين، أو من أجل الأرض
والوطن، أو من أجل قيم المجتمع!!
هذا ما يقوله لنا التاريخ،
وهذا ما تعلمناه من نضال العظماء على مر التاريخ، وهذا ما تثبته المقاومة
الفلسطينية مرةً أخرى، مجرد نظرة متمعنة لما يحصل في غزة، والمقارنة بين إقبال مُقاتلي
كتائب القسام وجُبن جنود الاحتلال يثبت هذه الحقيقة، ليس هذا فحسب، بل ان أي
مُتابع للأحداث سيدرك أن النصر في النهاية سيكون لأبطال المقاومة مهما طال الزمان
أو قصر، ومهما تفاوتت موازين القوى أو موازين التكنولوجيا والتقدم العلمي،
فالتاريخ يعلمنا أن النصر لمن يملك الارادة، ولمن يسعى حثيثاً لتحقيق أهدافه، وليس
النصر بالعدة والعتاد.
عمّاذا يقاتل هذا
الفلسطيني؟! سؤال تطرحه المجتمعات الغربية، ما الذي يدفعه الى بذل روحه في عملية
فدائية؟ وما الذي يدفع أحد المواطنين لتقبيل جبين ابنه الشهيد والابتسامة تعلو
وجهه؟! ما الذي يدفع مواطنة فلسطينية قد دمر منزلها للتو من الهتاف للمقاومة؟!
لسان حال كل فلسطيني
يقول : الانسان يموت ويأتي غيره، والبيوت تُهدم ثم يعاد إعمارها، ولكن الوطن يبقى
وذاكرة المكان تبقى، ذاكرة المكان بما تحمله من خصوصية لكل من عاشها هي أغلى وأثمن
من أي انسان، وليس هذا انتقاصاً من غلاوة وقيمة الانسان، ولا انكاراً للحرقة التي
تعتصر القلوب لفقدان انسان عزيز أو مسكن كان يلم شمل العائلة.
ذاكرة
المكان هذه، انتقلت عبر الجينات الوراثية من جيل الى جيل، من جيل ثورة البراق الى
جيل الثورة الفلسطينية الكبرى الى جيل النكبة فالنكسة الى أبناء العاصفة ثم الى
جيل الانتفاضة و أبناء غزة، فالفلسطيني حينما يولد، يأتي الى هذه الدنيا وفي
ذاكرته تاريخ فلسطين ورائحة ترابها من حيث لا يشعر، حتى وان ولد في أقاصي الأرض. ذاكرة
المكان هي من تضخ الدماء في عروق هذا الفلسطيني وتنثر رائحة الوطن مع أنفاسه،
يدرك الفلسطيني اليوم
أكثر من أي وقت مضى أنه يعيش من أجل رسالة وأنه وما يملك فداءٌ لهذه الرسالة، ابن
فلسطين، حامل ذاكرة مكانها، هو من سيحمي هذه الأرض ويُعيدها سيرتها الأولى، ولا
أحد سواه، أما القادم من وراء البحار فله ذاكرة مكان لا تخص فلسطين.
أيمن أبولبن
08-08-2014
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق