الجمعة، 18 أبريل 2014

إقرأ حتى وإن كنت تغرق !



   في فنلندا، هناك نصبٌ في حديقة عامة كُتب عليه عبارة " إقرأ حتى وإن كنت تغرق" تم تصميمه على هيئة رجل يقرأ بكتاب وسط الماء، وهي فكرة لطيفة تشير الى أهمية القراءة والثقافة بشكل عام للمجتمعات، وكيف أن الدول الغربية مهتمة بتحفيز وحثّ شعوبها على القراءة، ووضع القراءة والمعرفة على قائمة أهم أولوياتها.

   من باب التذكير فقط أذكر أن أول كلمة نزلت من القرآن الكريم كانت كلمة "اقرأ"، يقول الله تعالى (اقرأ باسم ربك الذي خلق) وهذه اشارة جليلة لحرص الاسلام على جعل الفكر والثقافة السبيل الأول للايمان بالله، فالايمان الحقيقي لا يكون الا بالعلم وادراك مراد الله في الكون، والايمان الأعمى أو المتعصب ينمّ عن ضعف أو نقص في الايمان، ومن هنا تأتي عظمة المعجزة الكبرى لنبينا محمد "القرآن الكريم"، فالحرص على التديّن والتعمق في منهج الله يكون من خلال "القراءة" وتطوير أدواتها، وبدون اتقان مهارة القراءة تختل مفاهيم الايمان.

   لعل الشعوب العربية لا تقل اهتماماً بالقراءة عن باقي الشعوب الغربية، ولكن الفارق يمكن في اهتمام المؤسسات الحكومية والمدنية على رعاية الثقافة في المجتمعات، فمجتمعاتنا الشرقية والعربية خصوصاً تفتقد للمسة الرعاية والاهتمام هذه، مما يجعل تجربة القراءة والثقافة في مجتمعاتنا لا تعدو كونها اجتهادٌ شخصي للأفراد وللأُسَر، مما يجعلها عُرضة لكثير من النواقص والعيوب، ومنها حصر مفهوم القراءة في متابعة " الرواية العربية" وهذا خطأ جسيم تقع فيه فئة كبيرة من القُرّاء وخاصة الفتيات، فبرغم أهمية الرواية في شحذ الخيال وفتح باب التأمل والتفكير ، الا أنها لا تعدو كونها فصلاً واحداً من فصول القراءة والثقافة، فالاهتمام بالقراءة والثقافة يتعدى المجال الأدبي ليصل الى كافة مجالات الحياة العلمية والسياسية والمهنية والاجتماعية ومجالات تطوير الذات والتاريخ ...... الخ، وبقدر التنوع الذي يحرص عليه الشخص بانتقاء مصادر القراءة بقدر ما تتسع مداركه ويصبج قادراً على مواكبة الأحداث الجارية حوله، بل والتأثير في سيرها ولعل هذا هو الهدف الأسمى من القراءة.

      تتدرّج القراءة من قراءة بسيطة عابرة مثل قراءة الجريدة الرسمية، الى متابعة المقالات التحليلية والدراسات الاجتماعية ومن ثم الانطلاق نحو المزيد من القراءة التفصيلية للمواضيع التي يهتم بها الفرد، والتي عادةً ما تكون مرتبطة باهتماماته الخاصة سواءً المهنية أو السياسية أو اهتماماته الشخصية، ثم يأتي بعد ذلك تخصيص وقت للقراءة العامة بحيث لا يمضي يوم دون قراءة جزء من كتاب أو البحث عن موضوع أو قضية عامة والتعمق فيها، وأنا شخصيا أحبذ أن لا أركز على كتاب واحد حتى الانتهاء منه على عكس كثيرين، فأنا أبدأ بقراءة كتابين أو ثلاثة في مواضيع مختلفة، على أوقات موزعة خلال أيام الأسبوع حتى لا يتسلل الملل لي،  فأنا لست من الذين ينغمسون في القراءة وينهون قراءة الكتاب في وقت قياسي، أشعر أن القراءة البطيئة والمتمعنة وما يتبعها من تحليل لما قرأت والبحث بين السطور أهم من انجاز القراءة بحد ذاتها.

   أذكر أن مُدرّسة في معهد اللغات الامريكي نصحتني ذات يوم بأن أحمل معي كتاباً وأستغل الوقت "المستنزف" في المواصلات العامة بالقراءة، لم آخذ بنصيحتها بالطبع رغم اقتناعي بالفكرة، لأسباب تعود الى عدم توفر سبل الراحة في المواصلات العامة على عكس الحال في بلاد الغرب، ولكني أعجبت بالفكرة وأستوقفتني كثيراً وقتها، وعجبت من الاهتمام الكبير  لهذه المُدرّسة في القراءة واستغلال الوقت، لذا بدأت بتطبيق هذه الفكرة لاحقاً لاستغلال الوقت الضائع في غُرف الانتظار  وفي السفر وغيرها.

   الحياة البشرية عبارة عن دورة متكاملة، ونواميس الكون علمتنا أن الحياة كالعجلة تدور ولا تتوقف، كما أن العلم أثبت أن جسم الانسان يعتمد على دورات عدة مثل الدورة الدموية والتنفسية والهضمية، وكذلك هي القراءة، فهي بمثابة الغذاء الروحي الذي نعيش عليه، وكي تكتمل الدورة علينا أن "نهضم" هذا الغذاء ونستفيد منه ثم نعكسه على شؤون حياتنا، ومع اكتمال دورة القراءة سنساعد أنفسنا على التخلص من الأفكار السلبية الكامنة في نفوسنا واستبدالها بأفكار ايجابية مفيدة وممتعة، وهكذا دواليك، فالهدف هو أن نرقى بأنفسنا من خلال القراءة والرقي بمجتمعاتنا وصولاً الى تحقيق حياة أفضل لنا ولأبنائنا، وبدون هذا لا يكون هناك معنى للقراءة فالبشر لم يُخلقوا للتخزين والتكديس بل للتدوير .

  اقرأ حتى لو كنت تغرق، أعجبتني هذه العبارة ودفعتني للكتابة حال قراءتي لها، ولعلي أضيف تعديلاً لها أو بُعداً آخر بالربط بين الغرق والتوقف عن القراءة، فمفهوم القراءة يعتمد على التجدّد المستمر وعدم الركون، فالقراءة يجب أن تبقى مصاحبة لنا في شتى الأوقات وباختلاف أحوالنا وحتى في ذروة انشغالنا، وفي اللحظة التي نتوقف فيها عن القراءة "سنغرق" في آتون الحياة، وهذا ما سيحدث لنا لو توقفنا عن العوم في الماء ولو للحظة، لو سمح لي القائمون على هذا التمثال لوضعت عليه عبارة " اقرأ حتى لا تغرق ! "

  هذه دعوة لجعل القراءة نشاطاً يومياً، واضعين في اعتبارنا أنها ليست هدفاً في ذاتها فالقراءة جزءٌ من دورة الحياة ولا تكتمل بذاتها.


أيمن أبولبن
10-4-2014






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق