الاثنين، 5 مارس 2018

رواية (أولاد الغيتو)


ترنيمات حزينة على إيقاعات صمت الضحايا



في رواية اسمي آدم-أولاد الغيتو اعتمد الكاتب والأديب اللبناني "الياس خوري" على أسلوب أدبي لافت ومميز ليس كغيره من أدب الروايات الذي اعتدنا عليه، فهو في البداية يدفع بنفسه خارج إطار الرواية أو لنقل إنه يُسقط سياسة "النأي بالنفس" على روايته، لتصبح ملكاً للقارئ وليس للمؤلف، تاركاً القارئ في مواجهة ما يشبه العصف الذهني أو التفكير بصوت عالٍ، بعيداً عن قالب الرواية الكلاسيكية التي تعتمد على شخصيات محددة تعيش في بيئة درامية مشتركة، وتربطهم خطوط درامية متجانسة.
كان مفاجئاً عدم فوز هذه الرواية بجائزة أفضل رواية في مسابقة البوكر العربية 2017. لست ناقداً فنيّاً، ولكني شخصياً أقول إنها تستحق الجائزة، خصوصاً بعد قراءتي لروايات القائمة القصيرة للجائزة العام الماضي.

تبدأ الرواية بإقحام شخصية المؤلف نفسه في الأحداث ومواجهته لآدم الكاتب "المُفترض" للرواية، وتبدأ الحكاية بخلاف بينهما في وجهات النظر، ينتهي بحصول المؤلف "خوري" على مخطوط هذه الرواية وقراره نشرها كما هي بعد انتحار صاحبها الأصلي "آدم" (مجهول الهوية)!

للوهلة الأولى تبدو نصوص الرواية متباعدة، مجموعة من الأفكار والقصص لشخصٍ فاقدٍ للهوية، يتحدث مع نفسه بصوتٍ عال، يجترح الذكريات ويجتر المشاعر السلبية ثم يبحر الى الماضي السحيق ويستخرج من أعماق الذكريات اوجاعه ومأساته التي يتضح في النهاية انها مأساة شعب بأكمله، بل إنها مأساة الإنسانية جمعاء.
رواية لا تشبه باقي الروايات، ولا هي سيرة شخصية كذلك، بل إنها أقرب ما تكون إلى مُدوّنة لكاتبٍ قرر أن يضع حداً لحياته، ولكنه قبل أن يُقدم على ذلك كان عليه أن يعترف بكل ما كبته أو عجز عن البوح به، وبعد ان أتم اعترافه الأخير، أوصى بحرق كل ما كتب لأنه لا يستحق النشر!

يأخذنا الكاتب في البداية الى رحلة عبر التاريخ مع حكاية الشاعر "وضّاح اليمن"، الذي يقع في عشق فتاة تدعى "روضة"، ما يلبث أن يصيبها الجذام وتُعزل في وادي المجذومين، وحين يتسلل لذلك الوادي (المعزول جبرياً) لرؤيتها، يتفاجأ بحالها البئيسة مع المرض ولا يستطع تحمل ذلك المنظر، فيتجاهل معاناتها ونداءاتها ويتركها ويرحل بعيداً، لتحلّ عليه لعنتها فتصيبه "لوثة الجنون" ويتيه في الأرض ولكنه يؤلّف فيها أجمل الأشعار وينشد في حبها أجمل القصائد، فيذيع صيته، وتدخل "روضة" التاريخ من أوسع ابوابه.
ثم يقوده القدر لعشق زوجة الخليفة "الوليد بن عبد الملك" التي تُخفيه في جناح قصرها داخل صندوق، وحين يشي به أحد الحراس، يقرر الخليفة دفن الصندوق بما فيه للقضاء على الفتنة دون أن يكشف ما في داخل الصندوق، فإن كانت الوشاية صحيحة مات العاشق وان كَذُبت لن يضر دفن صندوق!

وهنا يسقط الكاتب مأساة رواية غسان كنفاني "رجال في الشمس" على قصة وضاح اليمن، ويطرح السؤال الذي ما زال يحيّرنا الى اليوم: (لماذا لم يدقّوا جدران الخزّان؟!) لماذا تعمّد وضاح اليمن السكوت وإخفاء وجوده في الصندوق، وقَبِلَ أن يكون شهيد العشق داخل ما أصبح يعرف ب (صندوق الحب) ؟! هل هو إخلاصه لزوجة الوليد أم تكفيراً عن مغادرته روضة وهي تحتضر، أم استسلاماً للموت الذي لا مفر منه!

تبدو هذه القصة معزولة ظاهرياً عن الرواية الأساسية عن أهل الغيتو، سكان مدينة اللد الفلسطينية، الذين حبسهم جيش الاحتلال داخل الأسلاك الشائكة في مدينتهم المدمرة ثم أجبرهم على تنظيف المدينة من الجثث، وتفريغ البيوت من أثاثها ومقتنياتها، وحصد محاصيل مزارعهم لصالح خزينة دولة الاحتلال، وخلال تلك المحنة اضطروا للمحافظة على حيواتهم وتدبير أمور معيشتهم في ظل عزلة تامة عن العالم الخارجي.

ولكن المتمعن في الصورة، يرى ان أهل اللد (مثلهم مثل من عايش مأساة فلسطين عامة) كانوا يُساقون الى الموت وهم يعلمون ذلك جيداً، ولكنهم فقدوا الأمل وانعدمت البدائل وتبخّرت فرص الحياة أمامهم، فاختاروا الرحيل بهدوء وصمت عميقين، إنه إيقاع صمت الضحايا!
والذين عاشوا منهم، عاشوا عبيداً للذاكرة، حيث كان عليهم أن يتأقلموا مع العيش داخل ذاكرتهم، التي أصبحت بديلاً عن الواقع، محاولين التمسك بآخر خيط يربطهم بالوطن، وعبير ذكرياتهم، فأصبحوا في النهاية محبوسين داخل ذلك الصندوق، صندوق الخوف أو صندوق الذاكرة، داخل ذلك الغيتو، أو حتى داخل خزّان الماء في رواية غسان كنفاني، سمّه ما شئت!

((أنا ككل الفلسطينيين الذين فقدوا كل شيء حين فقدوا وطنهم، لا أرمي أي شيء له علاقة بالذاكرة الهاربة، فنحن عبيد ذاكرتنا. الذاكرة جرحٌ في الروح لا يندمل، عليك التأقلم مع صديده الذي ينزّ من شقوقه المفتوحة))

الأقسى من الموت أن تعيش الغربة داخل الوطن، فمن نجى من مذبحة اللد، تم تجريده من كل حقوق المواطنة، مع الاستمرار في العيش داخل الأسلاك الشائكة، داخل قفص الغيتو، وكان على هؤلاء الناجين التعايش مع حقيقة أنهم وجميع ما يملكون قد أصبحوا جزءا من دولة الاحتلال.

((حاولت أن أشرح له وأنا أتأتئ من الرهبة أن هذه الطاولة صنعها أبي بيديه ووضعناها في غرفة الطعام وهي مصنوعة من خشب زيتونةٍ مُعمّرة يَبِست في حَقْلنا، وأبي أراد لهذه الزيتونة أن ترافقنا طوال العمر لأن رائحة خشب الزيتون تفحّ منها....الرائحة يا سيدي، هذه رائحتنا وأنتم سرقتم رائحة أبي!)) 

يأتي الكاتب في الرواية على "مسيرة الموت" في اليوم الأخير من مذبحة صبرا وشاتيلا، ويقول على لسان أحد الناجين منها: (كانت مسيرة تصفيق وهتاف وقتل.. أجبرونا على التوقف وسمعنا مُكبّر الصوت يأمرنا بالرقص "ارقصوا يا أولاد الش***" لم يتحرك أحد أو يصدر صوت...
 ... وجدت نفسي أرقص، لا تسألني كم من الوقت رقصنا لأنني لا أعرف، فالوقت لا يختفي الا في لحظتين، الرقص والموت، فكيف إذا اجتمعتا !!
... هنا مات كل الناس، كل البشرية ماتت في لحظة الرقص تلك!)

الموت في هذه الرواية ليس كباقي الموت الذي نعرفه، إنه موت يمتزج بساديّة القاتل، ورفض القتيل أن يُقتل، بل يقرّر أن يموت هو!

((ربما كانت بلاغة الموت الكبرى أن أبطاله لا يستطيعون روايته))
((فيك تتخيل: منعونا نبكي! هل سمعت بجيش احتلال يمنع ضحاياه من البكاء؟
نحن مُنعنا من البكاء، وحين لا يعود باستطاعتك أن تبكي، خوفاً من أن تُقتل، يصير الكلام بلا معنى!))
  
لعل هاتين العبارتين تُلخّصان ما أراد الكاتب أن يقوله في الرواية، لقد حاول أن يستنطق الموت ويجعله يروي حكاية ضحاياه، كي يحرّرهم ويستطيعوا بعدها أن يبكوا بحرية أن يتحدثوا دون خوف من أن يموتوا ثانية، أن يدقّوا جدران الخزان، ويكسروا صندوق الخوف!

 أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
4-3-2018


السبت، 3 مارس 2018

البيانات الضخمة Big Data


نسمع كثيراً عن مصطلح “Big data” وأن المستقبل القريب سيشهد اعتماداً متزايداً على هذا الفرع من علوم التكنولوجيا، ولكن معظمنا لا يدرك حقيقةً، ما المقصود بهذا المصطلح، وتأثيره على حياتنا العملية.

منذ بدء انتشار تكنولوجيا المعلومات، واستخدام الحاسبات الالكترونية على الصعيدين المهني والشخصي، ازداد عدد التطبيقات الذكية المُستخدمة في العالم أجمع، وأصبح حجم المعاملات والبيانات المتداولة في المؤسسات والشركات يزداد ضخامةً، ولك أن تتخيل حجم التخزين المطلوب لاستيعاب هذا الكم من البيانات الضخمة أو “Big data”، مما استدعى استحداث أدوات وتطبيقات تقوم بتحليل هذه البيانات واستخلاص النتائج ثم ربط هذه النتائج أو "خلاصة المعلومات" لتقديم معلومة مفيدة للجهات المعنية، أو للتنبؤ بأحداث مستقبلية أو لتوجيه الاهتمام نحو قضية ما.

ولنضرب مثالاً على ذلك، يختص في الصحافة الاستقصائية، إن حجم الملفات الضخمة التي تتاح لأحد الصحفيين حول قضية ما، يستلزم تكريس فريقٍ متخصصٍ لقراءة هذه الملفات واستخراج النتائج منها ثم ربط المعلومات بعضها ببعض لخدمة قضية عامة تهمّ المجتمع بحيث يتم عرضها بشكل قانوني ومنطقي.
وتنبع أهمية وجود أدوات تحليل لما يعرف ب “Big data” بطرح بديل عملي وسريع بل ودقيق وذلك بتحميل هذه الملفات على سيرفر واحد والقيام بعملية تحليل لهذه البيانات من خلال أحد تطبيقات تحليل البيانات، ومن ثم تزويد المستخدم بدليل أو فهرس يضم الموضوعات المتضمنة في هذه الملفات كي يقوم هذا المستخدم بالولوج الى المواضيع التي يرغب بالحصول على معلومات عنها مباشرة، حيث يحتوي هذا الفهرس على كلمات وعناوين استدلالية (مشابه لما نراه من هاشتاغات على شبكات التواصل) مما يسهل عملية البحث والاستقصاء.

تخيلوا مثلاً حجم الملفات التي أتاحتها لنا تسريبات ويكيليكس، أو قضية أوراق بنما.... الخ وكم من الجهد الذي يلزم للبحث والاستقصاء فيها.
تحليل البيانات ما زال في بداية التطور، ويستخدم الآن في قضايا البيئة والتنبؤات الجوية، ومختلف العلوم، كما تستخدمه أجهزة المخابرات وأمن المعلومات، بالإضافة الى المؤسسات المهتمة بالدراسات والاستقصاء، ومن المتوقع ان يزداد الاهتمام به وأن تزداد كفاءة تحليل البيانات وربط النتائج بعضها ببعض في المستقبل العاجل، بحيث يتم استحداث فرع خاص لهذا النوع من العلوم.

أيمن يوسف أبولبن

2-3-2018

الثلاثاء، 30 يناير 2018

سطو "مُشلّح"!







صدق المثل القائل (شرُّ البليّة ما يُضحك)، فعندما يُصاب الإنسان بالأرق والقلق، ويشعر بالغمّ والهمّ لمُصابٍ أصابه، يكون حينها في طور التفاعل مع مشكلته وبلواه، باحثاً عن مخرج مؤقت، أو حلٍّ دائم، ولكن حين يصل هذا الإنسان إلى مرحلة السخرية من واقعه والضحك على مصائبه، بل وإطلاق النكت، فإنه يكون قد تخطّى مرحلة التفاعل والبحث عن الحلول، وانتقل الى مرحلة اليأس من التغيير، ثم لم يجد سبيلاً سوى التعايش مع واقعه والقبول به، بل التخفيف من وطأته بالسخرية والضحك على الذات، بعد أن يكون قد رفعَ الراية البيضاء!

لم يكن تفاعل الأردنيين الساخر مع واقعة السطو المُسلّح على أحد المصارف في منطقة عبدون، وما تلاها من واقعة مشابهة في منطقة الوحدات، من باب التعاطف مع السارق أو قبولاً بمنطق البلطجة والتهديد بالسلاح وسرقة مال الغير، فهذه ليست من أخلاقنا ولا شيمنا، ولكنه يندرج تحت إطار تخفيف وطأة الواقع بإسقاط بعضٍ من الكوميديا السوداء عليه، ومن استنتج غير هذا فقد أخطأ في التحليل، فهي ليست محاولة "سَمِجة" لخفّة الدم، ولا تعاطفٍ مع السارق كما أراد البعض أن يصوّره (بل ربما آثر تصويره كذلك)؛ لقد ضاق الشعب الأردني ذرعاً بالواقع المعيشي الصعب، وبتكرار سماع نفس الوعود من المسؤولين بتطبيق حزمة من الإصلاحات لإنعاش اقتصاد البلد وتحسين مستوى المعيشة، والتي سرعان ما ينتهي بها المطاف الى مجرد وسيلة جديدة للجباية من المواطن الغلبان الذي تقتصّ الحكومات المتعاقبة من جيبه ومصدر رزقه لحل المشكلات التي فشل المسؤولون من أهل الاختصاص في إيجاد حلول لها (رغم أن واجبهم الوظيفي هو إيجاد تلك الحلول)، ولم يتبق في ظنّي سوى أن تقتطع الحكومة جزءاً من لحم ودم المواطن مثلما فعل أو كاد يفعل "تاجر البندقية" المُرابي اليهودي!

لقد رأى المواطن الأردني في السارق الذي حاول السطو على البنك رجلاً فاشلاً يصلح للسخرية لأنه اقتحم مجال السرقة دون إعداد أو تخطيط بل إنه لم يحاول تغطية وجهه معتقداً بأنه سينضم فوراً الى قائمة الأغنياء وأبناء الطبقة المخمليّة، وكأنه شاهد للتو فيلما هندياً عن سرقة البنوك وظن أنها أسهل طريقة للكسب.
وفي نفس الوقت تندّر معظم المواطنين على المفارقة الكبيرة بين هذا السارق "السنفور أو المبتدئ" وحال حيتان البلد الذين لم تسلم منهم قصعةٌ أو باب رزق أو مجال استثمار ولم يحصل أن قُبض على أحدهم، ولم يسبق أن أُعلن عن اقتصاص العدالة منهم أو استرجاع أموال البلد المنهوبة رغم الإعلان عن العديد من السرقات والتجاوزات والتحايل الضريبي من قبل مسؤولي الحكومة أنفسهم، ففي الوقت الذي تحوّل فيه هؤلاء السارقين الى أشباح لا ترصدهم الكاميرات ولا الرادارات، تم القبض على هذا السارق خلال ساعة واحدة واسترجاع المبلغ المسروق. ألا يدعو هذا الى السخرية!

هناك نقطة مهمة في رأيي غابت عن المسؤولين والمُحلّلين الذين تناولوا موجة السخرية، وهي صورة البنوك التي بدأت ترتبط في مخيّلة المواطن الأردني بأدوات الدَيْن، أو لنقل أنها ترسّخت في عقله اللاواعي كأداة للجباية وتحصيل الأموال بأي طريقة كانت حتى لو كانت غير مُسوّغة أو مقبولة من العملاء، تماماً كالحكومات المتعاقبة، فالمواطن اليوم يشعر أنه ليس مستهدفاً لتحصيل الأموال من قبل الحكومة فقط، بل ومن قبل الشركات الخاصة، البنوك وشركات الاتصالات وغيرها، لذا لم تعد هذه المؤسسات تمثل داعماً للنشاط الاقتصادي أو رافداً للمجتمع المحلي (على الأقل في ذهن المواطن) بل أصبحت تُعنى بتحصيل الأموال وتحقيق أرباح خيالية على حساب خدمة المواطن والمجتمع بل ودون تقديم خدمة ذات مستوى عال ومنافس.
 لذلك رأينا أن تعامل البعض مع حالة السطو على البنوك جاء مختلفاً تماماً عن حالات أخرى مشابهة، لأن المواطن "لا شعورياً" يتعامل مع البنوك كواجهة تُخفي وراءها جشع أصحاب الأموال، وتتحيّن الفرص لفرض العمولات والغرامات والفوائد المُبالغ بها، على حساب العميل، الذي يُفترض في الأساس أن يُقدّم البنك له التسهيلات والخدمات التجارية وأن يحرص على مصالحه كشريك في العملية، وليس بصفته مُستهدفاً.

لقد طبّقت الحكومات الأردنية توصيات صندوق النقد والبنك الدوليين وعملت على خصخصة المال العام وثروات البلد منذ عام 2011 إلى يومنا هذا بحُجّة تحسين إدارة الثروات وزيادة الأرباح مع تخفيض الإنفاق الحكومي، ولكن الحقيقة أن كل هذه الخطوات عادت بفائدة على مجموعة صغيرة من المتنفذين وأصحاب رؤوس الأموال فيما أضرّت بالمصالح العامة وأثّرت مباشرة على الطبقات الفقيرة والمتوسطة، كما ترافقت هذه الخطوات بشبهات فساد كثيرة، وأدّت في النهاية إلى ازدياد الهُوّة بين الفقير والغني.
المُفارقة هنا، أن الدَيْن العام ما زال في ازدياد، والضرائب إلى ارتفاع، في حين يهوي مستوى دخل الفرد الى الحضيض، رغم كل تلك الإجراءات التصحيحية القاسية، التي لا يدفع ثمنها سوى المواطن البسيط!


إن موجة السخرية التي ترافقت مع عمليات السطو لا يوجد لها سوى تفسير واحدٌ وهو مخيفٌ لمن يعتبر: لقد يأسَ المواطن من تغيير الأحوال رغم كل المسيرات والاعتراضات والمظاهرات، ورغم كل الوعود الإصلاحية وتغيير الحكومات وتعديل قانون الانتخاب، وحزمات الإصلاح السياسي والاقتصادي وأوراق العمل وضجيج المؤتمرات، بل رغم كل النداءات والاستغاثات والاختلاجات والعبرات والتنهدات، فهل من مُدّكر؟!

أخيراً، خطر لي وأنا أكتب هذه السطور، أحد مشاهد مسرحية "غُربة" حين يتسامر "غوّار الطوشة" مع موظف الاستقبال في "الأوتيل" الذي ينزل فيه، ويتبادلان بثّ الشكوى والهموم، فيقفُ الموظف مستعرضاً "البالطو" الطويل الذي يرتديه ويسألُ نديمَه: ألم تسأل نفسك يوماً لماذا أرتدي هذا "البالطو" الطويل، في كل يوم، صيفاً شتاءً؟! ألبسه كي أستر الخِرَقَ الرثّة والممزقة التي أخفيها تحته، والتي أبدو فيها مشرّداً شبه عارٍ!


الحكومة من جهتها تُصرّ على رؤية المواطن الأردني، مرتدياً "البالطو" الطويل وربطة العنق، وترفض الاعتراف بالمواطن "المُسخّم" (ما في أردنيين مسخّمين) قال رئيس الوزراء قبل أيام، في حين يخجل المواطن من خلع "البالطو"، ويؤثر أن يُخفي "المواطن المُشلّح". وإني أخشى أن يهرب ذلك "المُشلّح" من صاحبه ومن الحكومة، ويصبح خارج نطاق السيطرة!

أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن

29-1-2018

الأحد، 21 يناير 2018

وصفة الأسواق الحرة ل "ميلتون فريدمان"



بمناسبة رفع الضرائب والاجراءات الاقتصادية الجديدة في المنطقة (مؤخراً في الأردن وتونس)، علينا أن نعي أن هذه المجموعة من الاجراءات أو حزمة التعديلات الاقتصادية هي وصفة جاهزة تم اعتمادها من قبل المحافظين الجدد وأذرعته (صندوق النقد، والبنك الدولي) وتعميمها على جميع بلاد العالم الثالث، وهي تعتمد في الأساس على أطروحة فريدمان في كتابه الأكثر شعبية "الرأسمالية والحرية" لقواعد السوق الحرة العالمية:
أولا (حرية السوق): على الحكومات أن تُلغي جميع القواعد والأنظمة التي تعرقل تراكم الأرباح.
ثانياً (الخصخصة): عليها أن تبيع أي أصول تملكها، لشركات قادرة على إدارتها وجني أرباح منها.
ثالثا (الحد من الانفاق الحكومي): عليها أن تحدّ من تمويل البرامج الاجتماعية.
وفي تفاصيل الإجراءات، ورد أيضاً:
الضرائب: يجب فرض الضريبة الثابتة نفسها على كل من الغني والفقير.
حرية التجارة: يجب أن تتمتع الشركات بحرية بيع منتجاتها في أي مكان تختاره في العالم.
التنافس في السوق: على الحكومات ألا تبذل أي جهد في حماية الصناعات أو الملكية المحلية، فضلا عن أنه لا يجب أن يكون هناك حد أدنى للأجور.
الخصخصة: يجب أن تشمل اجراءات الخصخصة برامج الرعاية الصحية وخدمة البريد والتعليم والتقاعد وحتى المنتزهات الوطنية.
وهذه الوصفة من الاجراءات تتوافق تماماً مع مصالح الشركات الكبرى المتعددة الجنسيات، على حساب موارد البلد ومعيشة المواطن.

أيمن أبولبن

20-1-2018

السبت، 20 يناير 2018

فيلم “American Made” صناعة أمريكية خالصة!





فيلم "صناعة أمريكية" للمخرج "دوغ ليمان" وبطولة النجم "توم كروز"، مأخوذ عن أحداث حقيقية أخذت مكانها في حقبة الثمانينيات من القرن الماضي، وشكّلت حجر الأساس لفضيحة "إيران- كونترا"، التي تناولتها العديد من الكتب، وخضعت لتحليلات سياسية عميقة.
تنبع أهمية الفيلم، من أهمية القضايا الشائكة التي يطرحها والتي كانت وما تزال مثار اهتمام ونقاش، وسبق أن احتلت صدارة الأخبار، وأخذت حيزا كبيراً من التحليل والأخذ والرد داخل الأروقة السياسية والإعلامية، لا سيما أنها تُناقض مصداقية الرؤية الأمريكية المُفترضة، وتتعارض مع المبادئ التي قام عليها الدستور الأمريكي في الأساس، والذي يعتبره الأمريكان ميثاقاً للحرية والعدالة والشفافية.

أنصح كل من يرغب في مشاهدة الفيلم، التعرّف على البيئة الحاضنة لأحداثه أولاً، ولعلّي أتوفق في هذه السطور بإلقاء الضوء على خلفية تلك الحقبة، التي كانت مغلّفة بأجواء الحرب الباردة، وكان العنوان العريض لها: تدخل الإدارة الأمريكية في شؤون دول أمريكا الجنوبية والوسطى لردع المد الشيوعي، حيث كانت مُجمل المنطقة هناك على مسار التحول لتبنّي المبادئ الشيوعية.
 وقد وصل التدخل الأمريكي إلى حد تسليح بعض الفصائل المُعارضة للحكم الشيوعي، بل واغتيال بعض الرؤساء والمسؤولين ذوي الميول الاشتراكية الشيوعية، أو على العكس تماماً دعم الأنظمة السلطوية الديكتاتورية التي لا ترغب في التحول الى الشيوعية، ومساعدتها على سحق المعارضة اليسارية.

تبدأ أحداث الفيلم، بتعاقد ضابط من المخابرات الأمريكية مع طيّار مدني "باري سيل" (يُجسّد شخصيته توم كروز) لتنفيذ مهام استطلاع سريّة وتصوير مناطق النزاع عن طريق كاميرات خاصة يتم تجهيز طائرته بها.
 ثم تتطور مهام الطيّار لتشمل التعاون مع أحد جنرالات الفساد في بنما "نورييغا" عن طريق تسليمه مبالغ من الأموال، في مقابل الحصول على معلومات مخابراتية وأمنية.

نورييغا هذا، حَكَمَ بنما لاحقاً وكان مشبوهاً بالفساد والاتجار بالمخدرات، وقد ظن أن دعم المخابرات الأمريكية له غير مشروط وغير محدود، فحاول القيام بمشروع فتح قناة جديدة تؤثر سلباً على مصالح أمريكا في قناة بنما المعروفة، فما كان من إدارة بوش الأب إلا الهجوم العسكري على بنما عام 1989 والإطاحة بنورييغا ثم أَسْره وجلبه الى المحاكم الأمريكية حيث قضى بقية عمره متنقلاً بين سجون أمريكا وفرنسا وبنما، إلى أن قضى نحبه في أيار من العام الماضي.

وبالعودة الى الفيلم، فإن محور القصة يتلخص في قيام المخابرات الأمريكية بدعم قوات "الكونترا أو الثورة المضادة" المُعارضة للسلطة "اليسارية" في نيكاراغوا، وتهريب السلاح لها عن طريق الطيار "باري"، إلى أن وصل الأمر إلى نقل عناصرها إلى الولايات المتحدة وتوفير تدريبات عسكرية خاصة لهم.
الأنكى من ذلك أن تمويل هذا الدعم كان يأتي من نقل المخدرات بين كولومبيا وبنما ثم تهريبها الى الولايات المتحدة، عبر تعاون عملاء المخابرات الأمريكية "السريّين" وعصابات "الكارتيل" في كولومبيا!

 المفارقة هنا، أنه في الوقت الذي كان فيه الرئيس ريغان يعلن الحرب على المخدرات، كانت الذراع الأمنية للرئيس هي من تقوم بجلب المخدرات الى داخل الولايات المتحدة، وحين غزا خَلَفهُ "بوش" بنما، علّل حملته العسكرية بالنشاط الفاسد لنورييغا وتجارته في المخدرات!
يتطرق الفيلم أيضاً، الى استعار الحرب بين المخابرات المركزية وعصابات "الكارتيل" رغم التعاون السابق بينهما، حين علمت الإدارة الأمريكية في نهاية الأمر أن حكومة نيكاراغوا اليسارية لديها تعاون مشترك أيضاً مع هذه العصابات، فأرادت استخدام هذه الورقة سياسياً لتشويه صورة النظام اليساري أمام العالم وربطه بتجارة المخدرات، وكان لها ذلك عن طريق ذات الطيّار، الذي التقط عدة صور من كاميرات خاصة تم تثبيتها واخفاؤها في طائرته العسكرية، لأعضاء عصابة "الكارتيل" وهم يستلمون شحنات المخدرات رفقة أعضاء من حكومة نيكاراغوا، ثم قام الرئيس ريغان بعد ذلك بعرض هذه الصور على الملأ.
ما لم يذكره الفيلم، أن "أسكوبار" زعيم عصابة "الكارتيل" وامبراطور تجارة المخدرات، قام بعد نشر ريغان لتلك الصور، بالتسلّل الى داخل أمريكا والتقاط صورة تذكارية له من أمام بوابة البيت الأبيض رفقة ابنه، ثم العودة مجدداً إلى بلاده وإرسال تلك الصورة التذكارية الى مسؤولي البيت الأبيض!



هناك تلميح الى فضيحة (إيران-كونترا) في نهاية الفيلم، والتي من الممكن تناولها في جزٍء ثانٍ من الفيلم ربما، فبعد أن قررت الرئاسة الأمريكية فضح هذه العصابات ومحاربتها في العلن رفقة حكومة "الساندنستا"، تم البحث عن مصدر آخر لتمويل الكونترا، وهذه المرة وجدت المخابرات الأمريكية ضآلتها في إيران، التي تعاني من نقص شديد في العتاد نتيجة اشتداد المعارك مع جارتها العراق، والمحرومة من شراء الأسلحة دولياً، فقامت المخابرات الأمريكية بتهريب الأسلحة لإيران عن طريق وساطة إسرائيلية، مما سمح باستخدام النقد الفائض في تمويل قوات الكونترا، وهو ما شكّل أسوأ فضيحة لاحقت إدارة ريغان، من حيث الربط بين خرق الحظر على إيران من جهة، وتسليح قوات الكونترا من جهة أخرى.

 من الجدير بالذكر على كل الأحوال، أن الطيار "باري سيل" لم يعترف رسمياً أثناء التحقيقات أنه على ارتباط بالمخابرات الأمريكية كما لم يتم إصدار تقرير رسمي في هذه الأحداث أو الإعلان عن محتوى الأشرطة التي قام بتسجيلها ولا الوثائق التي كان يحتفظ بها، إلى أن تم اغتياله على يد عصابات الكارتل، رغم أن الأنباء والتحقيقات الصحافية وصمت الإدارة الأمريكية بالتعاون مع عصابات المخدرات، بل وصلت الى اتهام المخابرات الأمريكية برعاية زراعة المخدرات في تلك الدول، والاشراف على الاتجار بها.

فيلم "صناعة أمريكية" غني بالتشويق وبالمفارقات العديدة، فيلم سريع مليء بالمغامرة مُفعم بالحيوية
استطاع مخرجه مزج الاثارة والتشويق والحركة مع المفارقة الكوميدية، وتوليف كل ذلك لخدمة الرؤية الفنية والدرامية للفيلم، ساعده في ذلك الأداء الرائع واللافت للنجم توم كروز الذي يستحق الإشادة.
ولكن قيمة الفيلم الحقيقية في رأيي، تكمن في القراءة بين السطور وملء فراغات الصورة لاستكمال المشهد السوريالي، ثم القاء نظرة فاحصة عليه، لإدراك الواقع الهزلي الذي نعيش والذي لا يصلح إلا أن يكون فيلماً سينمائياً، بل وصناعةً أمريكيةً خالصة!

أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
20-1-2018


الأربعاء، 17 يناير 2018

مشروع قرار لحجب الهواتف الصينية في أمريكا



مارست لجنة الاتصالات الفيدرالية في أمريكا ضغوطاً على شركة "AT&T" الأمريكية لمنع شراكة مقترحة مع شركة "Huawei" أكبر منتج للهواتف النقالة في الصين بدعوى التعاون مع الاستخبارات الصينية والتجسس على المستخدمين.

وتسعى السلطات الأمريكية لسنّ تشريع يحظر الهواتف المصنعة في الصين بشكل عام لارتباطها بالحكومة الصينية.

لطالما دعت الولايات المتحدة إلى تحرير الأسواق في دول العالم ورفع القيود عن الشركات العابرة للقارات والخضوع لسياسة السوق فقط، وذلك لتمكين شركاتها الخاصة من غزو الأسواق العالمية ودعم اقتصادها المحلي، ولكنها على أرض الواقع تقوم بالتحكم في الأسواق الداخلية بذرائع مختلفة منها ما هو أمني (مكافحة الإرهاب)، ومنها ما يتعلق بقائمة طويلة من المواصفات والشروط الخاصة... الخ القائمة.

الحقيقة أن المشكلة فينا وليست في أمريكا، نحن الذين فتحنا أسواقنا وخصخصنا مواردنا وأفقرنا اقتصادنا الداخلي وما زلنا مستمرين في ذلك وندّعي أننا نريد ان ننهض باقتصاد البلد!

أيمن أبو لبن
15-1-2018

الأولياء والرموز المُقدّسة

في حادثة غريبة في مصر اكتشف أهل قرية في السويس أن مقام أحد الأولياء الصالحين الذين اعتادوا زيارته والتبرّك به ما هو سوى قبر دُفن فيه رأس عجل!

التفاصيل في التقرير المرفق



تُذكّرني هذه الحادثة برواية غير مكتملة لغسان كنفاني نُشرت بعد استشهاده بعنوان (الأعمى والأطرش)، تدور حول علاقة تجمع بين ضرير وأصم وتتخللها محاولة فك لغز أحد المقامات وكيفية التخلّص منه لما له من آثار اجتماعية سيئة على أهل القرية، ولاحقاً يكتشفان أن رأس الولي المزعوم ما هو في الحقيقة سوى (رأس ثمرة فطر)!

العبارة التالية مقتبسة من حوار الشخصيتين ((إذا اكتشفتَ ولياً أدخلت العالم كله تحت جبّته، وإذا قتلته أخرجت العالم كله من هناك. ولكن إلى أين؟))

في تاريخنا، بل وفي حاضرنا الكثير من الأولياء والرموز والزعامات المقدّسة سواء في المجتمع او السياسة أو الفن والرياضة، وما زال تساؤل غسان كنفاني حاضراً: اذا خرج الناس من جُبّة الرموز المقدسة، فإلى أين؟!

أيمن أبولبن
16-1-2018