تعلّمتُ من الحياة أن الانتظار والشوق الى الحدث يكون أعظم من الحدث ذاته، وأن لهفة الانتظار والتحرّق لحدثٍ أو لقاء ما، تستدعي في النفس مشاعر عميقة تعظّم أهمية هذا اللقاء، وقد لا تتناسب في النهاية مع حجم الحدث أو حقيقته على أرض الواقع.
ولكن في واقع الأمر، فإن هذه المشاعر والأحاسيس واللهفة والتشوّق هي ما تجعل لحياتنا طعماً ولوناً ورائحة، وتجعل منا بذلك بشراً حقيقيين.
ألم يصدف ذات يوم أن عشتم أياماً أو أسابيع في انتظار لقاء أشخاص عزيزين على القلب، ومع كل ساعة انتظار تمرّ، نسترجع ذكرياتنا الجميلة والأوقات الحلوة التي قضيناها معاً، ونبدأ بتحضير أنفسنا لذلك اللقاء ونسج الخيال حول تفاصيل المشهد وسيناريوهات الحوار، بدءاً من الكلمة واللفتة والابتسامة والجلسة والمواضيع التي سنخوض بها والأسئلة التي نطرحها، وأنواع الإجابات التي سنرد بها.
وحين يحين اللقاء، نكتشف أن الحدث مرّ علينا سريعاً وتجاوز أفكارنا المسبقة، وربما تعارض معها تماماً، أو لربما جاء الحدث بسيطاً عادياً أو مخيباً للآمال!
ولكن الحقيقة أننا لا نتوقف عن تكرار نفس الفعل مرة تلو الأخرى، لسبب بسيط هو أن الأمل هو ما يدفعنا الى الاستمرار في الحياة، وأن لهفة الانتظار والشوق الى القادم هي ما تزودنا بالطاقة اللازمة للاستمرار في العيش وتذوق طعم الحياة، وبدونها لن نكون بشراُ طبيعيين، او بمعنى آخر لن نكون من الأحياء على هذه الأرض!
كل إنسان على وجه هذه الأرض كانت له في يوم من الأيام أحلام عظيمة، وآمال عريضة، وقد بنى في خياله قصوراً من الأحلام، وواحات من الطموحات والمشاريع.
وكل شخص فينا قد خاض حروباً من نوع خاص، لا يعلم أحد سرّها إلا هو، واجه المستقبل وصارع الحاضر، واجتر هزائم الماضي، باحثاُ عن نصر قادم ومتسلحاً بما أوتي له من قوة ورباطة جأش، وهو بشكل من الأشكال فارسٌ في مواجهة هذه الحياة، أو بطلٌ لمسرحية ما على خشبة الحياة.
كل شخص فينا قد عانى وانكسر وتحطمت آماله مرات ومرات، ولكن أحداً لم يستسلم، لأن الحياة تطالبنا بأن لا نخلع القفاز أو نرفع المنديل.
ويبقى الجميع في انتظار حدث ما يغير من الواقع، أو لقاء عابر يعيد الحياة إلى طريقها الصحيح، أو تجربة عاصفة تنفض الغبار عن مكنونات نفسه وتدفعه للتحليق بعيداً، بعيداً في الفضاء.
ورغم اختلاف الآمال والأحلام والاهتمامات، واختلاف حجمها ونوعها، إلا اننا نشترك جميعا في أننا ما زلنا نحلم، وما زال لدينا الأمل بما هو قادم، وأننا نعيش على أمل تحقيق حلم ما أو فكرة ما، وننتظر لهفةً ونتحرّى شوقاً لذلك.
أحد اهم الصراعات التي نخوضها في حياتنا، هو الصراع ضد رتابة الحياة والعيش التقليدي، فهناك من يسرقه روتين الحياة ورتابة الوظيفة والعلاقات الاجتماعية فيتوقف عن الحلم والمبادرة والابداع ويستسلم للروتين ونمط العيش الرتيب، ويصبح قانعاً بما تحقق له بعد أن أكتفى من الحياة وتعب من بذل الجهد.
ولكن الحقيقة أن هؤلاء الأشخاص قد توقفوا عن الحياة، فالركون إلى الواقع وعدم الحلم هو الذنب الذي لا يغتفر!
في كل تجربة جديدة نعيشها هناك مجموعة من الفرص والاختبارات التي تهبنا الفرصة كي نتجدد ونستبدل جلدنا الخارجي ونطهّر دواخلنا ونعيد تجديد دورة الحياة فينا، والأمر منوط بنا لاستغلال هذه الفرص والتقدم خطوة إلى الأمام أو الاستمرار في التقوقع في حياتنا التقليدية والرضى بما هو متاحٌ لنا.
في نهاية كل عام، يجد المرء نفسه أمام جردة حساب، وتطلّع لما هو قادم، ومع كل ورقةٍ تسقط في خريف اعمارنا، نشعر أننا خطونا خطوةً إلى الأمام، إلى المجهول. ومع كل جردة حساب نكتشف أننا لربما لم نعش الحياة التي حلمنا بها، أو تصورنا اننا سنعيشها يوماً، قد نشعر بأننا غرباء عن ذواتنا، وعن محيطنا، وأن أحلامنا وطموحاتنا قد ذهبت أدراج الحياة.
ندرك متأخرين أننا خسرنا الكثير من الأشياء والنعم البسيطة في معمعة الحياة وغمار معاركها، فلم نشعر بلذّة القرب من أبنائنا، ولم ننعم بالعيش في كنف أهلنا وأصدقائنا، ولم نلتفت إلى حق جسدنا علينا، وحتى روحنا الداخليّة. بعضنا لم يتعلّق بهواية أدبية أو فنية تكون قادرة على إضفاء لمسة من الجمال والرقّة على شخصيته، ولربما افتقد للحب والجنون والفوضى، أو لعله لم يتذوّق الشعر ويعيش تلك النشوة التي ترفعه عن الأرض وتشعره بأنه يسمو بروحه ويتحرّر من جسده الدنيوي ومن أغلاله وبات يسبح في عالم من التجلّيات!
قد لا يكون قد استمتع بالصمت، ذلك الصمت الذي يحلّ على الدنيا كلها، فيتكلّم البشر دون أن ينطقون وتختفي الأصوات لتصبح الدنيا كأنها شاشة تلفاز صامتة، فلا يكاد يرى سوى صورة الحضور في شخص واحد ولا يسمع صوتاً سوى صوت الوجود لشخص واحد!
في قلب كل شخص مهما عظم شأنه أو صغر، هناك ذاتُ الشغف للحياة، وفي مسيرته هناك انتصارات وهناك انكسارات على حد سواء، إذ لا توجد حياة كاملة أو حياة أفضل، لأن المقاييس مختلفة والمعايير متعدّدة، فلا تقلّلون من شأن حياتكم أو حياة الآخرين، ولا تستصغرون حلماً أو رؤية تمتلكونها أو يمتلكها الآخرون.
جاهدوا كي تعيشوا الحلم والرؤية وتعيشوا لذة الانتظار ولهفة الشوق، لا تستسلموا أبداً لرتابة الحياة، ولا ترضوا بأن تعيشوا نصف حياة أو حياة ناقصة، ولا تستكينوا يوما إلى النصيب والقسمة والقدر فتظنوا أنكم أقل من أن تحلموا وتحققوا أحلامكم، لأن الندم على عدم امتلاك الحلم أعظم من الندم على عدم تحقيقه!
وهكذا تمضي بنا الحياة، بين انتظار وتلهّف، وشوق إلى القادم، وأمل بمستقبل أفضل، وهذا ما يشعرنا بأننا ما زلنا أحياء، فنحن الفرسان في الانتظار!
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
29-12-2019