شهدت الأعوام الأخيرة (لا سيما بعد أحداث الربيع العربي)
مطالباتٍ شعبية ودعوات من النشطاء بإعادة العمل بالتجنيد الاجباري في الأردن،
رافقتها تحذيرات من عدم وجود (قوات احتياط)، لا سيما مع عدم الاهتمام الكافي بما يعرف
بالجيش الشعبي.
وقد تحدّث رئيس الوزراء مؤخراً عن إعادة العمل بخدمة
العلم، مما أدّى إلى فتح الحوار مجدداً حول الجدوى من الخدمة في مقابل التكلفة
التي ستتحملها الدولة.
إن الفكرة في حد ذاتها، كانت وما زالت مطلباً وطنياً
مشروعاً بل وواجباً وطنياً، وكنت أحد الداعين إلى إعادة العمل بها منذ سنوات
طويلة، ولكن ضمن مشروع وطني متكامل تتضافر فيه جهود مؤسسات الدولة جميعها، مع جهود
المجتمع والمؤسسات الأهلية.
ولعل من المفيد التذكير هنا، بخطأ الفكرة القائمة على
تغيير الجزئيات بدلاً من تغيير النظام ككل، ظناً أن تغيير عاملٍ رئيسي واحدٍ سيكون
كفيلاً في تغيير الوضع الكلّي، كأن نقوم على سبيل المثال بنقل عائلة فقيرة من حي
فقير، الى شقة فاخرة، معتقدين أننا بذلك نكون قد حللنا مشكلة الفقر لدى هذه
العائلة.
ولكن الحقيقة أنه بعد بضع سنوات، ستتحول الشقة الفاخرة
الى بيت فقير شاحب آخر، لا يختلف عن بيوت الأحياء الفقيرة، والسبب أننا غيّرنا العامل
الخارجي فقط، بينما أبقينا على كافة أسباب المشكلة (الدخل، التأمين الصحي،
التعليم، الثقافة والتربية...الخ)
فإذا كان تفكير الحكومة ينحصر في إعادة خدمة العلم بنفس
النظام القديم، فإن الهدف الرئيس من خدمة العلم لن يتحقق، وستكون مجرد مغامرة
جديدة على الورق!
بالعودة الى حديث رئيس الوزراء، أعجبني مصطلح (خدمة الوطن) الذي
أطلقه على مشروع التجنيد الاجباري الجديد، وهي بالفعل كذلك، هي خدمة للوطن، والوطن
غير محصور في المؤسسة العسكرية، وانطلاقا من هذا الفهم، يجب الوضع بالحسبان أن
يتكامل هذا النظام بحيث يشمل ما يلي:
بناء ثقافة عسكرية للجيل الجديد
من أساسيات هذه المشروع العمل على تأهيل جيل الشباب
ليكون مهيئاً من الناحية العسكرية والبدنية والنفسية، للقيام بواجب الدفاع عن
الوطن وحماية مقدراته، لذا يجب أن ينطلق البرنامج بدورة عسكرية تدريبية، يتم من
خلالها رفد المنتسبين بالمعلومات العسكرية والميدانية، وإكسابهم المهارات اللازمة
واللياقة البدنية من خلال التدريبات العملية.
يتم بعدها توزيع الأفراد على الوحدات العسكرية المختلفة،
بحيث تتخصص كل مجموعة في مجال معين (سلاح الطيران، المدفعية، المشاة...الخ).
الخدمة المدنية:
يلي فترة الخدمة العسكرية، توزيعُ المنتسبين الى
المؤسسات الحكومية والمدنية المختلفة، كلٌ حسب تخصصه، وذلك بالتعاون مع ديوان
الخدمة المدنية ووزارة العمل ومؤسسة التدريب المهني، بحيث تكون هذه الخدمة بمثابة
تدريب عملي وخبرة ميدانية للمتخرجين الشباب برواتب رمزية. في المقابل تستفيد الدولة
من القوى العاملة للمنتسبين.
خدمة المجتمع:
خلال فترة الخدمة المدنية، ينخرط المشتركون في برنامج
تطوعي لخدمة المجتمع من خلال المؤسسات الأهلية والخيرية المختلفة، بحيث يُشترط
قضاء ساعات معينة في الخدمة التطوعية مع ترك المجال للمشترك نفسه في اختيار الخدمة
والمؤسسة التي يرغب في خدمتها.
وأرى من المناسب أن تمتد فترة البرنامج لمدة سنة كاملة
مقسمة على شقيها العسكري والمدني.
وبهذا يكون قد حقق البرنامج (خدمة
الوطن) الأهداف المرجوة منه، ويكون اسماً على
مسمّى، وسيشعر المنتسب الى هذا البرنامج أنه قد خدم وطنه ومجتمعه حقيقةً، وعاد
بالفائدة على نفسه أيضاً.
ولتحقيق ذلك، نأمل من الحكومة أن تقوم بإعداد خطة
متكاملة تشترك فيها كافة مؤسسات الدولة والمجتمع، وأن تطرح برنامجها الوطني بهدف
رفد القوات العسكرية بعنصر الشباب من جهة، وبناء قوة احتياطية عسكرية (فاعلة
ومؤثرة وليست مجرد أرقام)، مع خدمة مؤسسات الدولة المدنية ورفع مستواها، يضاف الى
ذلك خدمة المجتمع وتأسيس فكرة العمل التطوّعي في نفوس الشباب.
من جهة أخرى، أجد من الضروري القول ومن واقع تجربة
شخصية: على القائمين على هذا المشروع أيضاً، الأخذ بالحسبان الوعي المتزايد للشباب
من جيل هذا اليوم وحاجتهم الى مدربين على مستوى عال من الثقافة العسكرية مع تقديم المعلومة
بطرق حديثة، وأسلوب راق.
وهذا يتطلب هدم كل النظريات القديمة القائمة على إذلال
المنتسبين وإجبارهم على التخلي عن شعورهم بالعزة والكرامة بحجة صقلهم وتخريج جيل "شديد"
لا يخاف العدو!
إن التربية الوطنية لا يتم اكتسابها بالذل ولا يتم تجرّعها
بالمهانة والتقليل من احترام الذات، كما أن الشجاعة في الميدان لن يتم اكتسابها
بأي حال من الأحوال من جرّاء جرعات التخويف والوعيد والتهديد.
على العكس من ذلك، فالفرد الذي يتعلّم الذل والمهانة
والخوف سيكون أول المغادرين لساحة المعركة حين تدق ساعة الحقيقة!
ولعلّنا نستبشر خيراً، مع وجود جامعة عسكرية متخصصة
(جامعة مؤتة) وتوالي الأفواج المتخرجة منها، إذ أن من المفترض أن يؤثر ذلك
إيجابياً على الكفاءات التدريبية والإشرافية في المؤسسة العسكرية، سيما أن التعامل
مع جيل الحاضر من الشباب يتطلب مهارات مميزة في أسلوب التعامل وجذب انتباههم
تمهيداً لانخراطهم بشكل فعال في خدمة "الوطن".
في النهاية، لا بد من تأييد هذا المشروع والشدّ على أيدي
القائمين عليه، رغبةً في خدمة الوطن بشكل عملي وفعّال ومؤثر، مع اعتباره مشروعاً
استثمارياً تتضافر فيه جهود المؤسسة العسكرية ومؤسسات الدولة مع مؤسسات المجتمع،
للاستثمار في القوة الشبابية الفعّالة بحيث تصب الفائدة في النهاية في مصلحة الوطن.
أما إذا كان التفكير هو مجرد عودة خدمة العلم كما كانت مع
تغيير طفيف في الشكل والمسميات والمظاهر، فهي ليست سوى ذر الرماد في العيون، وهدر عمر
الشباب بدون فائدة، بل على العكس إني لأظن والله اعلم أن المتخرجين من الشباب
سيكونون بحاجة الى إعادة تأهيل أكاديمي للعودة الى مسارهم الطبيعي، هذا إن لم
يحتاجوا إلى إعادة تأهيل نفسي واجتماعي!
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
26-11-2018