البحث عن السعادة
منذ
بدء الخليقة كان البحث عن السعادة هو الغاية المنشودة للبشر، على اختلاف مفهوم
السعادة لديهم، وتطور هذا المفهوم
وفقاً للمتغيرات والظروف المحيطة، ففي قصة أبينا آدم، كان "البحث
عن السعادة" السبب في ارتكاب الخطيئة الأولى، والسعادة هنا الحياة
الأبدية (الخلود) واشباع رغبة التملّك، (هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ
الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ). ومع انطلاق دورة الحياة مع الجيل الأول
بعد آدم، ظهر مفهوم التنافس الذي يُذكي السعادة في النفس، وبدأ تطور مفهوم السعادة
ليشمل الرغبة في البقاء والتميّز عن الآخرين، واستمر تطور واختلاف مفهوم السعادة
مع تطور البشرية، ولكن الذي لم يتغير ولم يفتر هو الرغبة الملحّة في "البحث
عن السعادة"، والتي لا أبالغ إن قلت إنها الرغبة المحرّكة للكون.
في الفيلم الشهير الذي يحمل عنوان (السعي وراء السعادة)
The
Pursuit of Happynessمن بطولة الممثل القدير "ويل سميث"
يطرح العمل رؤيةً في غاية الأهمية، يتلخص مضمونها بالقول: إن الانسان يقضي عمره
وهو يلهث للحصول على أسباب السعادة (المال، الحب، الشهرة، امتلاك منزل الأحلام، تحقيق
انجاز وظيفي...) الخ القائمة الطويلة، ولكنه يدرك في نهاية المطاف أن السعادة ليست
محطةً يصل اليها ليعيش حياته سعيداً، ولكن السعادة هي في الحقيقة، رحلة الحياة
التي يعيشها الانسان في سعيه وراء السعادة!
من وجهة نظري الشخصية أرى أن أهم شرط لتحقيق
السعادة في الحياة، تبنّي مجموعةً من القيم الإنسانية والمبادئ التي يلتزم بها الشخص
(عن قناعة) ويعمل على ارسائها وتطبيقها في حياته، مما يولد شعوراً بالراحة
النفسيّة وقوة الإيمان في داخله، ويضفي عليه صفة الأمان الداخلي والطمأنينة
النفسيّة، وهذا كفيل بأن يحقق السعادة، مهما تفاوتت نسبة تحقيق مُسبّبات السعادة
المتعارف عليها، وهو ما يفسر التناقض الكبير بين حياة البذخ والرفاهية التي يعيشها
معظم الأثرياء والمشاهير وأصحاب السلطة،
ونقص شعورهم بالسعادة الداخلية، حيث يظن بعضنا أن هؤلاء قد حققوا أسباب السعادة،
ولكنهم في الحقيقة قد أخلّوا في النظام التكويني لإنتاج وتحقيق السعادة الا وهو، الرضا عن النفس والتوافق مع الذات.
الشيء
الآخر الذي يساعدنا على الشعور بالسعادة برأيي، هو التخطيط للحياة ووضع الأهداف،
والعمل الدؤوب على تحقيقها، وهذه الأهداف يجب أن تكون متنوعة من ناحية الموضوع
(مهنية، عائلية، شخصية واجتماعية)
وذات مدة زمنية متفاوتة (بعيدة المدى، ومتوسطة وقريبة الأجل) على أن يتم إعادة صياغة
الأهداف وتعديلها مع الوقت، لاستيعاب التطور الطبيعي للحياة، وشخصيتنا المتغيرة
بواقع التجربة.
وانطلاقاً
من تحديد الأهداف، ينصح الطب النفسي الحديث، تحديد عشرة أشياء ترغب في تجربتها في
حياتك من أجل المتعة، ووضعها في قائمة صغيرة تحتفظ بها، مع وضع خطة لتحقيق هذه
الأشياء، وكلما نجحت في ممارسة تجربة من هذه القائمة، تقوم بالتأشير عليها بما
يفيد اتمامها، مما يشعرك بالسعادة مهما كان هذا العمل صغيراً أو بسيطاً.
ونظراً
لحاجتنا للانتماء الاجتماعي، وسعينا الدائم للتواصل مع الغير، يعتبر العامل البشري
عنصراً مهماً في منظومة السعادة، فكلما ارتبطنا بالآخرين وتوافقنا معهم، وقمنا
ببناء أواصر وروابط متينة، مبنيّة على علاقات اجتماعية صحية ومفيدة، كلما تعاظم
شعور السعادة والرضا لدينا، والعكس صحيح، وباعتقادي أن العلاقات العائلية المستقرة
وغير المضطربة هي مفتاح العلاقات الاجتماعية، وكلما كانت التنشئة البيتيّة متوازنة
وصحيّة، كلما زادت فرص نجاح العلاقات الاجتماعية الأخرى.
وفي
النهاية يبقى العامل الأهم للسعادة هو أنت ذاتك، فاذا لم تهتم لحاجاتك ورغباتك
وأخطأت في الموازنة بين حقوقك وواجباتك فستكون مثل حصان السباق الذي يمضي عمره وهو
يركض ويلهث لتحقيق الفوز لصاحبه وعندما يتعثر ويفقد القدرة على مواصلة الركض يُطلق
عليه رصاصة الرحمة، وصاحب الرهان هنا هو أية شخصية (مادية أو معنوية) تضعها على
قمة أولوياتك متجاهلاً نفسك وسعادتك الشخصية، قد تكون وظيفتك التي تفني عمرك في
خدمتها ثم تجد نفسك في يوم وليلة متقاعدا إن لم يتم الاستغناء عنك قبل ذلك، وقد
يكون أقرب الناس اليك الذي تفني عمرك في تحقيق أهدافه في الحياة متناسياً سعادتك
وقائمة أهدافك. هذه ليست دعوة الى الأنانية بقدر ما هي دعوة لإعادة النظر في ترتيب
أولوياتنا ووضع ذواتنا في المكان الصحيح.
علينا
برأيي المتواضع، أن نتذكّر دوماً أن مهمتنا في الحياة ليست محصورة في إسعاد
الآخرين، صحيح أن إسعاد من نهتم لأمرهم ومن نحرص عليهم، هو واحد من الأهداف
النبيلة التي نعيش من أجلها ويجب علينا أن نحرص على الوفاء بها، ولكن بشرط عدم
تجاهل سعادتنا الشخصية وتحقيق أهدافنا في الحياة، كما أن إدراك سعادة الآخرين لا
يجب أن يكون الهدف بقدر الحرص على توفير سبل السعادة لهم (ما أمكننا ذلك)، وتهيئة
المناخ المناسب لإسعادهم، بدلا من تحمّلنا مسؤولية شعورهم بعدم الرضا.
لا تناقض في هذا الكلام فالسعادة نفسها هي قرار داخلي،
ليس بإمكاننا نحن أن نتخذ هذا القرار عنهم، عليهم هم أن يتخذوا هذا القرار، وعلينا
نحن أن نساعدهم ليس إلا، يقول الله تعالى: " إنك لا تهدي من أحببت
ولكن الله يهدي من يشاء " والمشيئة هنا تعود للشخص وليس للذات
الإلهية، أي إن الله يوفر سبل الهداية ويوفق من توفرت لديه الرغبة الداخلية في أن
يهتدي (الله يهدي من يشاء أن يهتدي). وكذا هي السعادة الدنيوية، كل واحد فينا قادر
على اتخاذ قرار سعادته، وعلينا توفير السبل الكافية والمحفزة لسعادة من نهتم لأمرهم
ليس الا.
رُبّ
جلسة متواضعة مع بعض الأصدقاء القريبين من القلب، تدخل على النفس سعادة لا تُقدّر
بثمن، ورُبّ ابتسامة رضا من شريك الحياة تزيل هموم يوم طويل مرهق في العمل، ورُبّ قبلة
تطبعها في المساء على جبين طفلك قبل النوم، تعادل الدنيا وما فيها. السعادة موجودة
في كل يوم في حياتنا، ومتاحة لنا في كل لحظة، السعادة أسهل مما نعتقد، ولكنها
السهل الممتنع! فلنعش بسعادة بدلاً من اللهث وراء أسباب السعادة.
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
11-4-2017
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق