أمسك
الفتى بيد أمه الراقدة على السرير، وأخذ يُمسّدها ويقبّلها بحزن ودَعَة، كانت أمه
غارقة في النوم بتأثير الأدوية وإعياء المرض، وكان أبوه جالساً على الطرف الآخر من
السرير يراقب المشهد خارج الوعي، فهو غائبٌ في عالم آخر، يستشرف المستقبل المُفجع،
ويرجو فسحةً من الأمل تأتي من عالم الغيب لتغير الواقع الأليم.
ضغطت
الأم على أصابع وليدها، وببطيء شديد رفعت أجفانها المُرهقة ونظرت اليه نظرة
مُشبعةً بالحب والحنان والدفء، ابتسم لها ودمعت عيناهُ ثم ما لبثت أن عادت إلى غيبوبتها.
في
صبيحة اليوم التالي، ذهب "كنعان" الى مدرسته بجسده
بينما بقيت روحه معلقةً في تلك الغرفة ذات الإضاءة الخافتة الحزينة، غادر الجسد
المدرسة عائداً الى بيت العائلة، ليجد أهل الحي وقد تجمّعوا في الساحة الأمامية،
وهم منشغلون في أحاديث ما بعد الموت، شقّ طريقه بصمت وتوجّه حيث ترك روحه، وقف على
باب الغرفة وإذا بها قد أظلمت تماماً، سوى من بعض النور الذي شكّل هالةً فوق جسد أمه
الراقدة دون حراك، تسمّر مكانه وشعر حينها أنه فقد القدرة على الكلام أو الحركة،
أخذه والده في حضنه ونشج بالبكاء، وبعد ان هدأ روعه وتمالك نفسه بدأ بمحاولة
التخفيف عن ولده، قال له كلاماً كثيراً يليق بالمناسبة، (عليك ان تكون رجلاً وأن
تصبر وتحتسب، فالموت يغيّب الجسد ولكن الروح تبقى حاضرةً وحارسةً لك ولأخويك
الصغيرين)، ولكن الفتى لم يحرك ساكناً ولم يذرف دمعة، ثم ما لبث أن أفلت من أحضان
أبيه، وتحرك نحو الجسد المسجّى، سحب يد أمه من تحت الغطاء، قبّلها، ثم استلّ
الخاتم الذي يزيّن أصبعها ووضعه في جيبه، ثم توجّه الى خزانة الملابس وأخذ ثوبها الفلسطيني
المزركش، ثم بحث عن فرشاة شعرها، وجد فيها بعض الشعر العالق، اشتمّه ثم ضم الفرشاة
والثوب وغادر الى غرفته، أغلق الباب على نفسه، حاول أن يبكي، أن يصرخ، ولكنه لم
يستطع!
مضت
السنين وكبر الفتى في كنف أبيه، ازداد تعلقاً بأخويه الصغيرين، وشعر نحوهما بشعور
الأبوة المُبكّرة، ومن سخرية القدر أنها تحولت إلى أبوّةٍ فعلية، بعد أن قتل جنود
الاحتلال والده على أحد حواجز الضفة الغربية بدمٍ بارد لمجرد الاشتباه به، ولم
تنتهِ المأساة هنا، بل إنه أضطر أن يدفن والده في حديقة المنزل الخلفية، نتيجة منع
سلطات الاحتلال تشييع الجنازة خوفاً من اندلاع اشتباكات وأحداث شغب!
اسودّت
الدنيا في عيني الشاب "كنعان"، الذي بات يشغل
مكاناً أكبر من عمره بكثير، وبعد مغادرة آخر المُعزّين، أخرج مقتنيات والده
الشخصية واحتفظ منها بساعة يده الذهبية، وعكّازه، وشماغه الفلسطيني وضمّهم الى أغراض
أمه التي يحتفظ بها، ثم جمع باقي المقتنيات ووضعهم في غرفة والديه وأغلقها واحتفظ
بالمفتاح، ثم جعل يتفقدها كلما سنح له ذلك.
أصبح
همّ "كنعان" تنشئة أخويه وتهيئة أفضل الظروف لهما، حرَم نفسه من الدراسة
الجامعية ولم يفكر بالارتباط قبل أن يتخرج أخواه ويزفّهما الى عروسيهما، كرّس نفسه
للعمل بأكثر من وظيفة ومهنة لتحقيق ذلك، الى أن أتى اليوم وحقّق حلمه، وأصبح لكلٍ
من أخويه عائلته وبيته الخاصّين.
ولكنه
أدرك بعد هذه الرحلة الطويلة، أنه أصبح مديناً بمبالغ ضخمة للبنك، تراكمت عليه عبر
السنين ولم يتمكن من سدادها، كان يعلم جيداً أنه لا يملك من هذه الدنيا سوى بيت
العائلة، ليس بالمعنى المادي فقط، ولكن بكل ما تعنيه الكلمة.
وفي
مساء أحد الأيام، زاره "سامر" مدير البنك، ذلك الرجل
المعروف بخبثه وجشعه في الحي بأكمله، أخبره أنه قدم ليتفاهم معه بشكل ودي نظراً
للاحترام الكبير الذي يكنّه له شخصياً ولوالده المرحوم، ولكنه أبدى صرامة حين ذكر
أن البنك عليه أن يتخذ الإجراءات القانونية للحجز على ممتلكاته، ونصحه بأن يقوم
ببيع بيته (بيت العائلة) قبل إعلان الحجز حتى يتمكن من الحصول على سعر أفضل، بل
إنه عرض شراءه شخصياً.
نظر كنعان (الذي أصبح كهلاً قبل الأوان) الى
عيني سامر مباشرة وحدّق فيهما، ثم سأله بهدوء: كم تُقدّر ثمن البيت؟ تنحنح سامر وقال
بصوت خافت مصطنع بدأ يعلو تدريجيا (لو حسبنا ثمن الأرض ومُسطّح البناء ثم أخذنا
بعين الاعتبار عمر البناء والاستهلاك......) قاطعه كنعان قائلاً: هذا البيت عرف
أثمن أوقات حياتي وأكثرها تميزا، من نوافذ هذا البيت غازلتُ بنت الجيران، واختبرت
رجولتي، وعلى سطح هذا البيت سهرتُ اللياليَ أحدق في النجوم وأناجي القمر، وفي
خباياه أشعلتُ أول سيجارة لي بعيداً عن أنظار أبي، وفي غرفة نومي غرقت حزناً على
والدتي دون ان أبكي. في فصل الخريف أشتم رائحة أبي تتصاعد من أوراق الشجر
المتساقطة، وأجد عبق ريح أمي في جدران غرفتها، في فضاء هذا البيت أسمع صدى صوتها
وضحكاتها، وأحاديثها الصباحية، وفي الركن البعيد من الحديقة الخلفية يوجد قبر أبي،
بكم تقدّر كل هذا ؟!
انسحب
سامر بهدوء وانسل مغادراً، وجد كنعان نفسه دون وعي متوجهاً الى غرفته حيث أخرج
حقيبة سفر صغيرة وضع فيها بعض الأغراض الشخصية التي تكفيه لقضاء عدة أيام خارج
المنزل، ثم أخرج الصندوق الخشبي الذي يحتفظ فيه بمقتنيات أبويه وأخذ يتأملهم، ثم
وضعهم في الحقيبة.
في
صبيحة اليوم التالي توجه الى البنك ودخل مكتب المدير وأغلق الباب وراءه بإحكام،
هلع سامر ولكنه أسقط في يده، اقترب منه كنعان وقال: جئت أرد لك الزيارة وكما
نصحتني نصيحة شخصية جئت أنصحك بدوري، سأغادر وطني اليوم وسأبحث عن عمل في بلد آخر،
سأنحت الصخر كي أوفر كل مستحقات البنك علي، سأترك بيت العائلة "مؤقتاً"،
وشجرة التوت التي تظل أبي، ولكني سأحتفظ بالمفتاح، ولن تقنعني كل قوانين دولتك، أن
لك حقاً في هذا البيت، أما نصيحتي لك فتجدها في هذا المغلف، وضع كنعان المغلف
بهدوء على طاولة المكتب ثم حمل حقيبته على ظهره وغادر.
فتح
سامر المغلف الصغير ببُغضٍ ممزوجٍ بالخوف والترقب، وجد فيه ورقةً صغيرةً كُتب
عليها (فلتنتظر إني عائد!).
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
3-4-2017
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق