الثلاثاء، 18 أغسطس 2020

العالم العربي ينفجر ‏!


لم يكن انفجار مرفأ بيروت سوى انعكاس لانفجار الوضع السياسي والاقتصادي المعيشي في لبنان، بل وفي العالم العربي ككل، إنه استعارة لحظية لعدة انفجارات داخلية لم يُسمع صوتها.

"لقد أصبحت منظومة الفساد أكبر من الدولة!" هكذا قال "حسّان دياب" رئيس الوزراء المغلوب على أمره في خطاب الاستقالة، لقد تجاوز الفساد كل خطوط قوس قزح حتى وصل إلى القاع فارتد على نفسه ثانية فوقع الانفجار!

فهل تستفيد باقي الشعوب والأنظمة في المنطقة من الدرس قبل فوات الأوان؟!


الانفجار كان مفاجئاً في التوقيت، ربما، لكن الحدث العظيم كان قادماً لا محالة، فكل المقدمات والمؤشرات كانت حاضرة، والمسألة كانت مسألة وقت لا أكثر.


عندما انسحبت القوات البريطانية من سوريا الكبرى تاركةً وراءها حليفها الملك فيصل وثوّاره العرب، متيحة المجال للقوات الفرنسية للتقدم، كما فعلت في فلسطين لاحقاً متيحة المجال للعصابات الصهيونية هناك للاستئثار بالأرض، استطاع غورو القائد الفرنسي سحق الثورة العربية وطرد الملك فيصل سريعاً، ولكن ذلك لم يكن الأسوأ، إذ أن الاستعمار الفرنسي قام بتقسيم سوريا الكبرى (ومن ضمنها ما يعرف اليوم بلبنان) إلى مناطق طائفية وعرقية، وجعل لكل منها ما يعرف بمناطق الحكم الذاتي، تنفيذاً عملياً لاستراتيجيّة (فرّق تسدّ).

وكان لهذا التقسيم فعل السحر، إذ لم تقم قائمة للقوميّة العربية الحقيقية بعد ذلك وكل ما جنيناه هو شعارات فارغة أثبتت عقمها وفشلها الذريع على أرض الواقع، نجحنا من خلالها بإخفاء اختلافاتنا وانقساماتنا فقط، ومع أول شعلة للثورة السلمية في سوريا مع انتفاضة الربيع العربي، ظهر الانقسام الحقيقي، وبدا أن الثورة هي ثورة سنيّة في وجه العلويين والشيعة والصفويين، رغم أنها كانت ثورة اجتماعية ضد الطغيان والفساد، وزاد الطين بلّة دخول حزب الله على الخط، وإمعانه في تأكيد الحرب الدينية بترسيخه للطائفية.


أما في لبنان، فالأمر أكثر مرارة، إذا استمر الوضع فيه وكأن الاستعمار الفرنسي ما زال قائماً، وكأنه يحكم عن بعد، وهذا ما تأكد حين وقّع عشرات الآلآف على وثيقة تطالب بعودة "الانتداب الفرنسي" للبلاد مؤخراً، ولسان حالهم يقول لا نريد أن نتوحّد ولا نريد وطناً، ولكن على الأقل نريد حماية الطوائف في البلد، كي لا يمحق بعضنا بعضاً!!


إن الانفجار الذي شهده لبنان ما هو إلا انفجار في وجه الانقسام الطائفي، الذي أدى إلى تحكّم ملوك الطوائف بمصير البلد ومصائر الملايين من سكانه، والمشكلة أن اللبنانيين ما زالوا يتلاومون فيما بينهم إلى اليوم عن مسؤولية الفاسدين، يا أعزائي كلنا مسؤولون أو كلنا لصوص، لا فرق، طالما أننا نؤمن بالتمييز الطائفي والعرقي، ونقدّس الدستور الذي يقسّم المناصب والكراسي على أسس طائفية!!


لن تقوم قائمة للبنان أو لغيره من البلدان، سوى بالايمان بالتعددية وحرية التعبير والعمل على تأسيس دولة مدنية، على أسس وطنية لا على أسس تقسيمات الاستعمار وملوك الطوائف وزعامات الكهنوت والقداسات الفارغة. 


قبل أيام وقع الانفجار الآخر، في إعلان دولة الامارات اتفاقها مع دولة الاحتلال الصهيوني، على التطبيع بين البلدين وترسيخ أسس التعاون فيما بينهما.


في ظل الوضع الراهن وما تشهده الساحة الفلسطينية من خروقات مستمرة للاتفاقيات الدولية، وإمعان في سلب الشعب الفلسطيني من أدنى حقوقه، والإصرار على يهودية الدولة واغلاق الطريق أمام أي حل مستقبلي، لا يمكن وصف الخطوة الإماراتية نحو التطبيع سوى بالطعنة في ظهر الأمة العربية والقضية الفلسطينية.


أما تسويق هذا التطبيع على أنه جاء نتيجة نجاح إماراتي في وقف مشروع ضم الأغوار، فهو مغالطة مفضوحة، فمشروع ضم الأغوار قد توقف بالفعل، وهو مشروع مختلف عليه حتى في داخل أروقة الحكومة الصهيونية، كما ان مسألة تقديم جائزة لدولة الاحتلال مقابل تعهدها بعدم توسيع رقعة الاحتلال، لهو أشبه بمكافأة اللص وقاطع الطريق لإبقائه على حياة الضحية!


التطبيع الاماراتي الاسرائيلي هو جائزة مجانية لترامب ونتنياهو، وإنجاز يتفاخر به كلاهما، في محاولة يائسة لإنقاذ نفسيهما، أما المستفيد الأكبر من ذلك، فهو دولة الاحتلال التي استطاعت خرق الصف العربي وتمكّنت من ترسيخ مبدأ الشرق الأوسط الكبير "مرة أخرى" على نفس المبدأ الاستعماري القديم؛ دولة يهودية تعيش جنباً إلى جنب مع دول سنية وشيعية وعلوية ..الخ تجمعهم مصالح اقتصادية وسياسية، لا تخشى الدول فيه من اليهود الصهاينة "الودودين"، بل يخشون من أنفسهم!!.


مرة أخرى نقول إن التوقيت كان مفاجئاً، ولكن الانفجار لم يكن كذلك، بل هو انعكاس أيضاً لحالة التشرذم الذي يعيشه الوطن العربي، مع ذوبان القيم المشتركة وهموم الوطن العربي الواحد، وانشغال كل دولة أو دويلة بشؤونها الداخلية.

التطبيع كان قادماً لا محالة، وقد سبقته إرهاصات التعايش والتطبيع الثقافي والرياضي والتجاري، وتم التمهيد له من خلال الإعلام، والمسلسلات التي تتحدث عن تاريخ اليهود في المنطقة، وحقهم الانساني في الاستيطان والتعايش مع شعوب المنطقة، والمسألة كانت مسألة وقت لا أكثر، بل إن الخطوة الاماراتية ستكون بادرة تشجيعية لباقي الدول المترددة في إعلان تطبيعها!.


العالم العربي اليوم أصبح يشكّل حالة "لبنان الكبير"، وطنٌ تحكمه ملوك الطوائف، بانتظار الانفجار الكبير، الذي سنندب بعده حظنا ونتلاوم فيما بيننا، متجاهلين ومنكرين أننا جميعاً مسؤولون، أو أننا جميعا فاسدون، أو أننا جميعاً لصوص، لا فرق!!



أيمن يوسف أبولبن

كاتب ومُدوّن من الأردن

17-8-2020

الاثنين، 3 أغسطس 2020

التغوّل على الديمقراطية


تصر الحكومة اﻷردنية على تذكير الشعب بين فترة وأخرى بالعلاقة التقليدية بين السلطة والشعب، فرغم التقارب الواضج بين الحكومة والشعب نتيجة التلاحم الذي تحقق في أزمة كورونا والنتائج اﻻيجابية التي حققها التعاون الوثيق والقريب بين فئات الشعب المختلفة ومؤسسات الدولة المدنية منها والحكومية، انقلبت الحكومة على تلك العلاقة الشفافة والحميمة باجراءات تعسفية ضد نقابة المعلمين ﻻ يمكن تفسيرها سوى باﻻستقواء على الشعب ومؤسساته المدنية واستعراضها للقوة.


ولعلنا هنا نسترجع كيفية تعامل وزارة الداخلية مع اعتصامات المعلمين في العام الفائت والتي لم تختلف عن ذات الطريقة اﻷمنية واستعراض القوة، بل والاستخفاف بكرامة المعتصمين، ولولا تصعيد النقابة ﻻجراءات اﻻعتصامات واﻻضراب عن العمل، ولوﻻ التكاتف المؤسساتي، والمناصرة الشعبية لقضية المعلمين العادلة ﻻنتصرت القوة على الحق والسلطة الأمنية على إرادة الشعب.


ولعل السؤال القديم المتجدد ما زال مطروحا: من يقود الحكومة؟ هل هو رئيس الوزراء الواعد بالشفافية واحترام إرادة الشعب ومكافحة الفساد والذي جاء الى رئاسة الوزراء استجابة ﻻنتفاضة الشارع ضد الأحوال المعيشية الصعبة وظروف الفساد العام في البلاد، أم وزارة الداخلية واﻷجهزة اﻷمنية ؟


السؤال منطقي ومشروع في ظل التناقض الواضح بين اﻷجندات والشعارات وبين الأسلوب اﻷمني والتهديد الذي تتصرف فيه الحكومة في الملفات الخاصة.


نقابة المعلمين من أكثر النقابات ديناميكية وتعمقا في المجتمع اﻻردني وتضم نحو مئة وعشرين ألف عضو، ينتخبون أعضاء نقابتهم بالتصويت الديمقراطي الحر، وهي بذلك تمثل إرادة الشعب أمام حكومة غير منتخبة يتم تعيينها بناء على تفاهمات بين مراكز القوى في الدولة وعلى رأسها بالضرورة الأجهزة الأمنية. 


لهذا كان التكاتف والتضامن مع نقابة المعلمين في قضيتها العادلة أمام الحكومة، ليس فقط لكونه مستحقا وعادﻻ بل لأنه كان متوقعا ومعلوما لكل من يحاول قراءة القضية بعيداً عن النظرة الأمنية، ولكن السلطة ترفض على الدوام فهم الشارع وتصر على التعامل مع كل القضايا الشائكة بنظرة أحادية واحدة "القبضة الأمنية وفرض السلطة على الشعب".


هذه النظرة الأمنية لم تتغير للأسف رغم كل الوعود بالتحوّل الديمقراطي واحترام حرية التعبير وإرادة الشعب، 

ومما يزيد الطين بلة، قرار النائب العام منع النشر في قضية نقابة المعلمين، في تجاوزٍ آخر للدستور وتغوّل جديد على حرية التعبير واستقلال إرادة الشعب.


من المؤسف أنه كلما اقترب الشعب من الحكومة ذراعاً ابتعدت عنه باعاً، وكلما قرر الشعب التجاوز عن كل اﻻخفاقات والعديد من اﻻهماﻻت واقناع نفسه أنه يعيش في أجواء ديمقراطية وحرية وأمن وأمان أفضل بكثير من غيره من الشعوب، ويقرر التعامل مع الواقع والقبول به، تصر الجكومة على تذكيره بطبيعة العلاقة التقليدية بين السلطة والشعب، بين السلطة والمثقف، وبين السلطة والمعارضة؛ القمع وفرض الرأي بالقوة تحت ذريعة الحفاظ على هيبة الدولة، أو التجاوزات القانونية والادارية، والتحريض، واتباع أجندات خارجية.


المشكلة أن الحكومة وأبواقها ممعنون في اﻻقتناع بأنهم ومن خلال استخدامهم للقبضة الأمنية هذه، يحرسون الوطن ويحفظونه من كل سوء، تماماً كما يفعل الأب المتسلط حين يقرّع أبناءه ويتنمّر عليهم ويعنّفهم ويعاقبهم ظناً منه أنه يحسن صنعا، ويقوّم من سلوكهم ويحسن تربيتهم!!.


قبل ان تسترسل رئاسة الوزراء ووزارة الاعلام، في وعودها بالحديث عن دولة حريات ودولة مؤسسات وعن دولة المواطنة، على السلطة أوﻻ وقبل كل شيء تغيير الفكر ذاته، تغيير العقلية والذهنية المخابراتية والأمنية، تغيير الشخوص الذين يعتقدون أن امتلاكهم للسلطات والصلاحيات واتخاذ القرارات، يخوّلهم استخدام كل ذلك لفرض آرائهم ومعتقداتهم التي تجاوز عنها الزمن منذ عقود.

إن وجود هؤلاء اﻻشخاص وهذه العقليات في هذه المناصب كفيل لوحده، باشعال فتيل اﻷزمات مع أي مواجهة مع المؤسسات المدنية، مهما كانت بسيطة أو عادلة وواضحة.


نقابة المعلمين ليست منزهة عن اﻻخطاء والتجاوزات أو الخروقات اﻻدارية، وأفرادها أيضا لهم ما لهم وعليهم ما عليهم ولكن تجاوزات السلطة جعلت من النقابة رمزاً لإرادة الشعب وللمواطن البسيط في مواجهة السلطة والتغوّل على الديمقراطية والحريات، وهذا ما يدفع الشعب للوقوف مع المعلم ومع نقابة المعلمين في مواجهة اﻻجراءات التعسفية وتكميم الأفواه.


اجراءات الاعتقال التي رافقت إغلاق نقابة المعلمين، وتعليق نشاطاتها، مخزية وﻻ تليق بمؤسسة مدنية تمثل كافة أطياف الشعب اﻻردني، عدا عن أنها في المقام الأول ﻻ تليق بالدولة والحكومة التي تمثلها.


وهذا يدفعنا للتساؤل، إذا كان تعامل الحكومة مع نقابة المعلمين بهذا الشكل، فكيف ستتعامل الحكومة لو كانت هناك أحزاب سياسية حقيقية وفاعلة تعارض نهج الحكومة وتقوم بتنظيم الاعتصامات واستخدام الوسائل الديمقراطية للتعبير عن رأيها؟!


وإذا كانت نقابة المعلمين الحالية تنتمي إلى تيار حزبي معين، فهذا ليس عيباً أو سبباً يستدعي التحريض عليها، ألسنا دولة ديمقراطية تدّعي تشجيع العمل الحزبي، والانتخابات الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير؟! فلماذا يضيق صدرنا حين ينجح تنظيم ما من الوصول إلى مناصب القيادة في مؤسسات الدولة، عن طريق صناديق الانتخابات؟!


في النهاية نقول، إذا كان الحفاظ على هيبة الدولة هو السبب المعلن وراء هذه اﻻعتقاﻻت واﻻجراءات كما صرحت الحكومة فإن الحفاظ على هيبة الدولة لا يكون بالاستقواء على الشعب وممثليه ومؤسساته المدنية، بل بالحفاظ على حرية الرأي والتعبير، وتعزيز الوسائل الديمقراطية، والحفاظ على كرامة الوطن والمواطنين، بمحاربة الفساد والفاسدين الذين تغوّلوا على مقدرات الوطن والمواطنين، تكون بالانتصار لحقوق المواطنين البسطاء والضعفاء، ومعالجة مشاكل الفقر والبطالة، بدلاً من محاربة المواطن في لقمة عيشه، وملاحقة أصحاب البسطات والمشاريع الصغيرة!

للأسف ضاعت هيبة الدولة بأيديكم!



أيمن يوسف أبولبن

كاتب ومُدوّن من الأردن

2-8-2020

الجمعة، 24 يوليو 2020

الخوفُ من الغياب

في الفترة الأخيرة، عانيت من تجربيتين مؤلمتين للموت أو بالأحرى للفقدان، إحداهما لقريبٍ عزيز بمنزلة الأخ، والأخرى لصديق وزميل عزيز وعتيق، قريب من القلب.


رغم كل ما أتسلّح به من إيمان، وقناعة بأن الموت حقٌ وأنه نتيجة حتمية لوجود الحياة، وأنه بابٌ نعبر منه نحو الحياة الآخرة وجنة الخلود للمؤمن، إلا أن مأساة الموت تكمن في الفقدان ذاته، في الغياب، في خسارة تلك الصداقة الحميمة التي تربطنا بأقراننا وأحبائنا، من توقف الزمن، من النهايات، انتهاء ذكرياتنا وصداقاتنا ولحظات السعادة بل وحتى لحظات الشقاء والمعاناة التي جمعتنا، ناهيك عن الخوف من موتنا نحن، من غيابنا عن وجه العالم، ومغادرتنا إلى ذلك المصير المجهول، فتلك فكرة تختصر كل مخاوفنا وسائر الفوبيات التي ترافقنا في حياتنا، وصدق غسان كنفاني حين قال: (أرهقتني فكرة أن أموت... أن أنتهي، ويستمر كل شيء!!)


كنت في الثامنة والعشرين حين غادرنا أبي، ولا زلت أذكر كل تفاصيل تلك المأساة التي عشناها، ولا أخفي سراً إن قلت، إن آثارها ما زالت عالقة في نفسي أو لربما أخفيتها في عقلي الباطني وتركت لها النافذة مفتوحة لتسيطر علي في الخفاء دون أن أشعر.

مهما ادعيت بعد ذلك، أني تصالحت مع الموت كفكرة وتقبّلتها، ومهما تسلّحت بكل تلك الإيمانيات التي تدعو لتقبّل تلك الفكرة، ومهما اعتقدت بصحة كل الفلسفات التي تنظر إلى الموت كبداية حياة، وليس نقيضاً للحياة ذاتها، إلا اني أعترف أني في كل تجربة جديدة أخوضها مع الموت أجد نفسي عاجزاً عن تقبّله والتعامل معه من منظور فلسفي أو إيماني متعالٍ عن الحدث.


يحتاج الفرد فينا مهما وصل إلى فكرٍ فلسفيٍ راقٍ، وإيمانٍ راسخ، إلى جهد كبير ومتجدد كي يستمر في صراعه مع فكرة الغياب، والتغلّبِ على آثار تلك التجربة المريرة. يقول الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا (توفي عام 2004) (المهمة الأساسية للفلسفة أن تساعدنا على تقبّل الموت كخسارةٍ مطلقة بلا تعويض ولا عزاء!).


الموت يدعونا لطرح كل تلك الأسئلة الجوهرية عن الحياة وأسلوب العيش، ويرغمنا على إعادة النظر في أسباب وجودنا، وإلى طرح الأسئلة المتعلقة بها ومناقشة تلك الأفكار قبل فوات الأوان.


الحقيقة أننا وفي خضم حياتنا نخوض تجربة الموت مراراً وتكراراً بشكل أو بآخر دون أن نلاحظ، نخرج منتصرين حيناً وخاسرين أحياناً؛ لحظات الوداع، الهجرة والفراق، كل الغيابات التي تؤدي إلى موت شيء ما في داخلنا، مع كل تجربةٍ من هذه التجارب يكبر خوفنا، ويتعربش على حيطان مُخيّلاتنا، نخاف من الوحدة من تغيير الوظيفة والسكن، نخاف من تجربة كل نمط جديد في الحياة، نخاف من المخاطرة، من السفر ... نخاف من الغياب.


وهكذا نعيش مع الموت "الصغير" ونقترب من تجربة الموت أكثر، مع فقدان كل عزيز، أو خسارة صديق أو غياب حبيب، فمع كل خسارة من هذا النوع يموت فينا شيء ما وتنكسر في داخلنا رغبة أو أمل خفي، وهكذا فأننا لا نموت دفعة واحدة، بل نموت ببطىء، ومع كل محطة نخلع عن ذواتنا رداءً من رداءات الحياة الزاهية، حتى إذا مضينا قدماً خلعنا رداء الخوف ذاته، وبتنا نحتمل الغياب، مستعدين له!!.


شئنا ام أبينا فالموت جزء لا يتجزأ من حياتنا، من طبيعتنا، بل جزء من أنفسنا، والانتصار عليه يكون في إتقان مهارة الحياة وتقبّل الموت كجزء منها، وتلك معادلة أعترف أنني برعت فيها مرات كثيرة، أو لعلي نجحت في خداع نفسي بها ببراعة كافية!


ابن عربي- الشيخ الأكبر للصوفيّة- يصف الحب بالموت الصغير في مقولته الشهيرة (الحبُّ موتٌ صغير) فالحب نهاية عهد وبداية عهد جديد، وكل ما هو زائل إنما هو خطوة على طريق الموت، أما الحب الدنيوي فهو خطوة تقرّبنا من الحب النهائي الأبدي (العشق الالهي) والذي يكتمل بالموت الكبير، لذا كان الفقدان والخسران والقلق والحيرة والاضطراب وكل ما يعتري نفس المحب العاشق الولهان، والألم عند الفراق والاغتراب، موتاً صغيراً!!


وكأني بابن عربي يقول إننا عندما نتقبل فكرة الموت النهائي، فهذا يعني أن نتقبل الميتات الصغرى التي نتعرض لها في الحياة، لحظات الوداع، الغياب، الفراق المحتوم ومن ثم الزوال، وما وجودنا في الحياة إلا موت صغير انتقل بنا من رحم أمهاتنا إلى فضاء هذه الدنيا الواسعة، (كانت الأرحام أوطاننا فاغتربنا عنها في الولادة).


وهكذا فإن الانتصار على الموت، والتغلّب على فكرة الغياب، لا يكون إلا من خلال احترام حياتنا وتقديرها، والتشبّث بأسبابها، على اعتبار أنها قيمة وجودنا، وهذا يتطلب اتقاننا لمهارة العيش، وفن ممارسة الحياة، وعدم الخوف من الميتات الصغيرة.


إن فن العيش أو فن ممارسة الحياة، يتطلب منا وضع هدف سام لوجودنا وقيمة عظمى نعيش من أجلها، كي لا نعيش على هامش الحياة، وهذا الهدف هو ما يجعل لحياتنا ووجودنا معنىً وليس مجرد مرور عبثي.


كما أن فن العيش يساعدنا على تقدير كل لحظات السعادة التي تمر بنا، وتقديرها وابداء الامتنان للحياة على منحنا إياها، ذلك يساعدنا على تقدير أصدقائنا واللحظات الجميلة التي تجمعنا بهم، يساعدنا على التعبير عن مشاعرنا بحرية، وصدق دون خجل أو استحياء، أو مكابرة.


إن إتقان فن العيش يعني أن نتقبل الحياة كما هي، بفرحها وترحها، حينها سنشعر بجودة الحياة، وبقيمة كل لحظة سعادة تمنحنا إياها الحياة، ولو كانت ضئيلة، وسوف نحتفي بتلك اللحظات إلى أقصى حد.


وهكذا، ومع إتقاننا لفن العيش، يقل مقدار خوفنا من الموت بمقدار ما نحرّر أنفسنا من الرغبة في الاستدامة الوجودية، وتعويض ذلك بتعزيز حضورنا من خلال إرثنا الفكري والانساني الذي خلّفناه، عندها وفقط عندها، سنهزم الموت، ولن نعاني من الغياب!



أيمن يوسف أبولبن

كاتب ومُدوّن من الأردن

23-7-2020

الخميس، 2 يوليو 2020

لم يعد وجودُكَ يُربكني!




في الثقافة الغربية يستخدمون عبارة (I love you, but I don’t like you anymore) للتعبير عن حالة عدم الرضا أو الاختلاف مع شخص عزيز، حيث يُبدي قائلُ هذه العبارة عدم تقبّله لتصرفات ذلك الشخص واختياراته، أو أسلوبه في الحياة، دون أن يفقد مشاعر الحب والعاطفة تجاهه.
هي حالة معقدة وغامضة من الأحاسيس، التي تعبر عنها هذه العبارة والتي قد تبدو للوهلة الأولى غير مفهومة وغامضة، إلا إنها في الحقيقة غاية في المنطقية والشاعرية في آن.

لا يتحرّج الفرد في الثقافة الغربية من التصريح والتعبير عن مشاعره وأحاسيسه، ويشعر أن ذلك هو حق من حقوقه كإنسان، لذلك ترى الإبن يصارح أباه أو أمه أو عمه أو صديقه بحقيقة مشاعره السلبية من عدم الاعجاب بقراراته وتصرفاته، أو حتى الاختلاف معه في وجهة نظر ما، دون أن يؤثر ذلك على المشاعر الانسانية الأساسية والأولية من حب الأهل أو عاطفة الأبوة والأمومة أو مشاعر الصداقة والشراكة العاطفية، أنا أحبك، لا شك في ذلك، ولكني لست راضياً عن كذا وكذا.

مشكلتنا في الثقافة العربية أننا عاطفيون لدرجة أننا لا نُفرّقُ بين عواطفنا وتصرفاتنا، فجميع أفكارنا وأفعالنا مبنية على العواطف والمشاعر، السلبية منها أو الايجابية، ونحن وإذ نتعامل مع الدوائر المحيطة بنا، بدءاً من العائلة الصغيرة مروراً بالعائلة الكبيرة وصولا إلى المجتمع ككل نتأثر سلباً أو إيجاباً بمشاعرنا وحالتنا العاطفية، ونتصرف بناء على حالتنا تلك.

على سبيل المثال، نحن نحب أبناءنا ونتغاضى عن سلبياتهم وسوء تصرفاتهم، بل لا نكاد نستوعبها أو نسلّم بخطأها، فأبناؤنا منزهون عن الخطأ أو الزلل، لذا نسعى جاهدين لتفسير أي انحراف أو سوء تصرف بتفسير إيجابي يبعد أي صفة سلبية أو تقصير عنهم، وعلى النقيض تماماً ننظر بعين النقد إلى تصرفات الآخرين وأبنائهم، وقس على ذلك.

أما حين تدبّ الخلافات مع أبنائنا، فلا نرى أية مشكلة في شتمهم وإهانتهم وتعنيفهم والتعبير عن كرهنا لهم، ودعائنا بأن يريحنا الله منهم! وهكذا تنقلب عواطفنا 180 درجة من الحب المفرط إلى الكره والبغض.

ولا ندرك أننا وإذ نفعل ذلك، نزرع هذا التناقض في نفوس أبنائنا من حيث لا نعلم، بل ونغرس فيهم مشاعر سلبية حول الحب والتربية لا تلبث أن تنعكس سلباً على حياتهم وتصرفاتهم وقراراتهم بل ومعاملتهم لنا حين يكبرون.

وعلى نفس المنوال، حين نختلف مع أحد المقربين، لا نعد نرى فيه سوى العيوب، ثم ما نلبث أن نقاطعه أو نعاديه، ونغلق أبواب قلوبنا فلا رحمة ولا عاطفة وكأنه عدو مبين، فإما الحب أو العداء!.

إن عدم قدرتنا على السيطرة على مشاعرنا السلبية والتحكم بها، وعدم قدرتنا كذلك على استيعاب مشاعر الآخرين واحتوائها يجعلنا مجموعة من البشر الفوضويين في علاقاتهم ومشاعرهم، غير قادرين على التفريق بين حب الآخر ومحاولة الاستحواذ والسيطرة عليه، أو بين مساعدة الآخرين على العيش بسعادة، وبين فرض مفاهيمنا نحن حول السعادة، بين النصح بالحسنى، وبين النقد الجارح والهدّام.

وهكذا يتحول الحب والحنان والعطف، ورغبتنا بتوفير أفضل سبل العيش والحياة لمن حولنا، إلى مجموعة من المشاعر السلبية والأوامر السلطوية الصارمة، التي تتحول إلى مشاكل إجتماعية مزمنة لا خلاص منها.

كم أتمنى أن نختلف مع أبنائنا وأهلنا ومعارفنا بطريقة حضارية راقية، لا نتخلى عن حبهم، ولكن نعبر لهم عن عدم رضانا عن تصرف معين أو موقف محدد، وإن حصل وأن إختلفنا معهم، فلنتفق على ألاّ يؤثر ذلك على علاقتنا، بحيث لا نخلط بين أصل العلاقة وتفرعاتها التي انحرفت عن الأصل، وقس على ذلك في باقي علاقاتنا الاجتاعية.

نشرت إحدى الناشطات هذه العبارة باللغة الانجليزية وتساءلت عن الترجمة الأنسب لها باللغة العربية، وهذا أول دليل على غرابة هذا التعبير عن ثقافتنا العربية، إلا أن الأغرب من ذلك هو أن أغلب التعليقات جاءت لتؤكد قصور مفهوم الحب في العقل العربي على العلاقة بين الرجل والمرأة، وهو ما يحول في أغلب الأحوال دون التعامل مع مشاعرنا بتلقائية وفقدان القدرة على التحكم بها والتعامل معها، لأننا لم ننشأ على تقبّل هذه المشاعر الأساسية والتعبير عنها.
أعجبني أحد التعليقات على التغريدة، رغم مسحة الانكسار التي فيه، وكان على النحو التالي: " لا زلت أحبك ولكنك لم تعد تبهرني ولم يعد وجودك يربكني!"

هذا التعليق بالذات، قادني للتأمل في حال مجتمعاتنا التي ترفض فكرة الطلاق وتعتبرها خطيئة أو قصوراً، بل إن معظم العائلات تعتبر الطلاق فضيحة، مما يجبر المتزوجين على تقبّل العيش مع شريك قد فقد شغف الحياة معه، ولم يعد يثير فيه أي مشاعر أو يحرك ساكناً، كي لا يتسبب بفضيحة أو يظهر بمظهر الفاشل عاطفياً، ولكم أن تعاينوا كم العلاقات السلبية التي نراها في مجتمعاتنا، وكم التناقضات النفسية التي تورثها هذه العلاقات للأبناء، وكل هذا في سبيل المحافظة على تقاليد المجتمع وعادات العائلة. ألم أقل لكم إننا فاشلون في إدارة مشاعرنا وعواطفنا!

لم أجد أبلغ من المثل الشعبي الذي يصوّر حالة العقل الجمعي العربي، والذي تربينا عليه وأصبح جزءاً من ثقافتنا (أنا وأخوي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب) فكل علاقاتنا وتحالفاتنا وتصرفاتنا مبنية على العاطفة، وعلى الحميّة للدم وصلة القرابة، أما المنطق والعقل والعدل والاحسان، فهي صفات خارجة عن الوعي قلّما تؤثر فينا، إلا في الخطابات والشعارات والدعايات الانتخابية.

أحلم ذات يوم أن أصحو على مجتمع لا يتحرّج أفراده من البوح بمشاعرهم والتعبير عنها بكل انسيابية وأريحية، وفي ذات الوقت لا يتورعون عن تقديم النصح وتقبّل النقد بشكل إيجابي دون أن يؤثر ذلك على علاقاتهم ومشاعرهم الأساسية، نحب بعضنا البعض ولكننا نختلف وننتقد بعضنا، ولسنا مرغمون على تقبّل كل تصرفاتنا وحماقاتنا. هذا ليس تناقضا إطلاقاً، بل هو عين المنطق، أحبك ولكن وجودك لم يعد يُربِكني!    

أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
1-7-2020

الأربعاء، 17 يونيو 2020

بين "قيصر" و "قانون قيصر"





ابتداءً من السابع عشر من شهر حزيران الجاري، تبدأ الولايات المتحدة فرض حزمة من العقوبات الاقتصادية على سوريا، طبقاً لقانون قيصر.
وتطال هذه العقوبات المؤسسات الحكومية، والبنك المركزي، وكل الجهات التي تتعاون مع النظام السوري، على مستوى الشركات والأفراد من داخل وخارج سوريا.
وقد تم التصديق على قانون قيصر بداية هذا العام، تحت ذريعة حماية المدنيين في سوريا، وضمان عدم تعرضهم لجرائم حرب، وتستمر فعاليته لعام 2024.

"قيصر" هو الاسم الرمزي الذي أطلق على أحد أهم الضباط المنشقين عن النظام السوري والذي شغل منصب لواء في وزارة الدفاع السورية، واستطاع توثيق جرائم النظام ضد المعتقلين السياسيين، من خلال توثيق ملفات أكثر من أحد عشر ألف ضحية، قضوا نحبهم تحت التعذيب أو بسبب الجوع وسوء الرعاية الصحية أو التصفية الجسدية المباشرة.
استطاع قيصر الهروب من سوريا، وتسريب هذه الملفات التي احتوت على أكثر من خمسين ألف صورة للضحايا، وأرقامهم التسلسلية وظروف وأماكن اعتقالهم، بعد حفظها على أقراص ممغنطة وتسليمها إلى مجموعة من المحامين الدوليين والنشطاء الحقوقيين، في واحدة من أهم العمليات التي وثقت جرائم النظام وكانت كفيلة بإدانته بعمليات التعذيب والقتل الجماعي.
ولكن للأسف، فإن الملف القانوني الذي يربط النظام السوري والرئيس بشار الأسد مباشرة بتوجيه أوامر مكتوبة لخلية إدارة الأزمة، تلك الأوامر التي تم تنفيذها من قبل الضباط الميدانيين، فشل في الوصول إلى المحكمة الجنائية الدولية عبر مجلس الأمن عام 2016، بسبب تهديد روسيا باستخدام حق النقض "الفيتو".

وبالعودة إلى العقوبات الاقتصادية الأمريكية، التي أقرتها منفردة على النظام السورري، نظراً للانقسام الدولي حول موضوع سوريا، هذا الانقسام الذي بات من الواضح انه اختلاف حول تقسيم الكعكة، ولا علاقة له من قريب أو بعيد بالدفاع عن الشعب السوري، أو قيم العدالة والحرية، فإننا نجد ان هذه العقوبات هي عقوبات اقتصادية محضة، ولا تحتوي على أي خطوة على الأرض تضمن حماية المدنيين أو الدفاع عنهم، أو توفير مناطق آمنة لهم كحد أدنى.
وبالتالي فهي بشكل أو بآخر، أدوات فاعلة في يد الولايات المتحدة، لضمان حقوقها في عقود إعادة إعمار سوريا، وفرض رؤيتها لسوريا ما بعد الأسد، أي أنها عقوبات ذات دوافع سياسية وليست إنسانية كما يروّج لها.

مع بدء تنفيذ هذا القانون، ستخضع المصارف السورية بما فيها البنك المركزي لعمليات مراقبة وتدقيق للتأكد من عدم وجود شبهات تبييض أموال، كما يعطي القانون الصلاحية لفرض عقوبات على الأشخاص والشركات الأجنبية التي تقدم الدعم المالي أو اللوجستي والتقني للنظام السوري، وهذا البند يهدد مصالح حزب الله وإيران و روسيا مباشرةً. كما يهدد هذا القانون قطاع الصناعات والانتاج المحلي من الغاز والبترول وتشغيل الآلآت والمعدات العسكرية .

وتتلخص شروط وقف العقوبات بوقف عمليات القصف ضد المدنيين، وقف قصف المنشآت الصحية والمرافق الحيوية، إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، عودة اللاجئين، ومحاسبة مرتكبي جرائم الحرب في سوريا.

ورغم جدية هذه الشروط للوهلة الأولى وما توحي به من حرص شديد على حياة المدنيين وعودة السلم إلى البلاد، إلا أن المفارقة في أن القانون نفسه يمنح الرئيس الأمريكي الحق في وقف العقوبات إذا ارتأى أن أطراف النزاع قد دخلوا في مفاوضات "جديّة"، أو أن التهديد على حيوات المدنيين لم يعد موجوداً، وهو ما يؤكد مجدداً الرغبة الحقيقية للادارة الأمريكية، في التحكم في إدارة الصراع في سوريا، وضمان مصالحها لا أكثر.

إرهاصات قانون قيصر بدأت بمجرد قرب موعد تنفيذه، حيث انهارت الليرة السورية، وبدا النظام عاجزاً عن ايقاف مسلسل انهيار الاقتصاد المحلي في وجه التحديات الجديدة، لا سيما أنه سبق له أن رهن جميع مقدرات البلد للحكومات والحركات التي دعمته خلال الصراع، حيث باتت جميع ثروات ومصادر البلد الطبيعية، مرهونة لجهات خارجية، عبر عقود طويلة الأجل، ناهيك عن القواعد العسكرية والموانىء، وحقوق الاستثمار التي تنتهك السيادة الوطنية، مما جعل البلاد على شفا حفرة من الانهيار التام واعلان الإفلاس (إن جاز ذلك).

غالباً ما تنجرّ الأنظمة الطاغية وراء الدفاع عن مصالحها بأي ثمن، دون اعتبار لمصلحة البلاد أو العباد، وشعارها (أنا ومن بعدي الطوفان)، وقد قالها شبيحة النظام منذ اليوم الأول (الأسد أو نحرق البلد)، وقد نفذوا وعيدهم حرفياً!.
وخلال فورة الطغيان هذه، يدخل على الخط أدعياء المحبة والسلام والمحافظة على حياة المدنيين، فيقوم كل طرف منهم بحماية مصالح بلاده الاستراتيجية من خلال تغليفها بغلاف القانون الدولي وشعارات الحرية والعدالة، وتبقى الحلقة الأضعف (الشعوب المستضعفة)، التي لا ذنب لها إلا انها أرادت ان تعيش بسلام وتطالب بدولة مدنية، تحترم الانسان وتراعي حرية الفكر والمعتقد ولا تمارس التمييز، وتخلو من الفساد.

النظام السوري نظام متهالك بقانون قيصر أو بدونه، وهي مسألة وقت لا أكثر حتى ينهار هذا النظام على عروشه الخاوية، ويبقى الأمر مرهون بوعي الشعب السوري، وإدراكه حجم التضحيات التي قدمها من أجل العيش في حرية وسلام وعدالة، لتحقيق التغيير الحقيقي بما يضمن المصالحة الوطنية، وترسيخ مبادىء العمل الحزبي وحرية الرأي، وإعادة ممتلكات هذه الدولة التي تنازل عنها نظام لا يمتلك الشرعية.

إن أي حركة إصلاحية تطالب بالتغيير تُقذف في البداية بلائحة طويلة من الاتهامات على شاكلة (زندقة، مؤامرة ، حركة مجنونة طائشة)، لكن سرعان ما ينتصر التغيير بفعل الزمن الذي لا يقبل الركود، فيتم الاحتفاء لاحقاً بتلك الحركات وأبطالها.
وتكمن المفارقة في أن معظم هؤلاء الأبطال لا يعيشون الحلم الذي راودهم، بل يغادرون قبل ذلك، ولكنهم يجعلون من العالم مكاناً أفضل لمن بقي وراءهم، تلك هي رسالتهم وذلك هو قدرهم.
إلى قيصر وكل من ساهم في كشف زيف هذا النظام وتعرية وجهه القبيح، إلى حمزة الخطيب طفل درعا، وإبراهيم قاووش مُغني الثورة، إلى السجناء والمعتقلين والشهداء، والمدنيين الأحرار الذين أنشدوا في الميادين (الله، سوريا، حرية وبس) إلى هؤلاء وأمثالهم نقف إحتراماً وإجلالاً.

  
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
15-6-2020

الأربعاء، 3 يونيو 2020

تجديد الخطاب الديني بين التفسير والتأويل




وفّرت منصات التواصل الاجتماعي حرّية التعبير لمرتاديها، وأصبح بالامكان نشر الثقافة والوعي والقيم الانسانية على أوسع نطاق دون قيود أو حدود، ولكن وبشكل موازٍ أصبح بالامكان كذلك نشر الجهل والمعلومات المغلوطة دون حسيب أو ررقيب.
والخطاب الديني ليس استثناءً هنا، فكان أن انتشرت منشورات ودراسات يدّعي أصحابها أنهم ينتهجون نهجاً معاصراً لتدبّر التنزيل الحكيم وإعادة تفسيره حسب معطيات العصر، مُستغلّين هذه المنصات التي توفّر لهم جمهوراً واسعاً من المُتلقّين، بعيداً عن الرقابة والتدقيق والتمحيص، ومن هنا بدأ الخلط بين الغث والسمين، وطفت على السطح شطحات فكرية ونظريات عجيبة غريبة!
وإن كنّا ندعو إلى تجديد الخطاب الديني، ونقد التراث الديني بما يضمن تصحيح المفاهيم الخاطئة وتغيير حالة الجمود والانغلاق الفكري، إلا أن ذلك لن يحدث بدون منهجية علمية صحيحة وقواعد ثابتة تؤسس لقفزة معرفية.

اعتمد المفسرون الأوائل على علم "التفسير" الذي وضعوا قواعده ضمن علوم القرآن، وما يزال المفسرون التقليديون إلى يومنا هذا يعتمدون على هذه القواعد ويعتبرونها مُسلّمات لا تقبل النقد أو التجديد.
فيما اعتمد "النشطاء المُجدّدون" إن صح التعبير، على اجتهاداتهم الفكرية الخاصة واعتبروا ذلك تحقيقاً للتوجيه الالهي بتدبّر القرآن وتأويله، ولكنهم رفضوا قواعد علم التفسير كلّيّةً، في الوقت الذي لم يقدموا فيه بديلاً "مقبولاً" ، أي أن معظمهم لم يأتِ بمنهجية معاصرة بقواعد ثابتة يمكن الاحتكام إليها لفض أي خلاف حول الاجتهادات التي يأتون بها، وهذا بالطبع يعطيهم مساحة أوسع للحرية التي تُمكّنهم من إسقاط أفكارهم الشخصية وقناعاتهم التي ربما تكون إيجابية وذات نوايا حسنة، إلا أنها تفتقد للمنهجية، مما أدّى في النهاية إلى حالة "فلتان فكري".

وأني أرى أن الحلقة المفقودة هنا، هي الجمع بين التفسير والتأويل، من خلال الالتزام بقواعد علوم التفسير التي لا تتناقض مع الأسس المعرفية التي وصلنا لها، ومن ثم تطبيق منهجية الاجتهاد والتأويل ضمن أصول معرفية لا عشوائية.

ولتوضيح ذلك دعونا نستعرض سريعاً معنى التفسير والتأويل وضوابطهما.

التفسير


لم ترد كلمة "تفسير" بمعناها الاصطلاحي في كتاب الله، على عكس كلمتي التأويل والاستنباط، ولكن دعونا نستعرض قواعد "علم التفسير" التي لا يمكن تجاوزها والقفز الى مرحلة الاجتهاد في النص دونها:

أولاً الالتزام بقواعد اللغة العربية والاعتماد على معاجم اللغة للربط بين الكلمات وأصولها وبين معانيها ودلالاتها، فالتنزيل الحكيم استخدم اللغة العربية كوعاء، ورغم أنه ارتقى بها وأثرى مفرداتها اللغوية وأعطاها بعداً جديداً، إلا أنه لم يتعارض مع قواعد اللغة ولم يقفز عنها.

ثانياً دراسة مناسبات النزول وفهم الجيل الأول لها، لأن فهم مناسبات النزول وربط التنزيل بالواقع المعاش ضروري لاستنباط الحكم الخاص للآيات.
ولكن هذا الفهم لا يجب أن يكون سقفاً لنا، إذ يجب علينا بعد ذلك، الاجتهاد في إدراك الحكم العام للآيات كما نفهمه نحن في يومنا هذا، وكما يمكن تطبيقه ضمن قواعدنا المعرفية وظروف عصرنا.
بمعنى آخر، علينا أن نربط بين التنزيل الحكيم وواقعنا المُعاصر كما قام المسلمون الأوائل بفهمه وربطه بواقعهم، لا العكس، فليس المطلوب اجترار أو استنساخ الواقع المعاش في القرن الأول للهجرة.

 التأويل

هو الربط بين المقدّمات والنتائج لازالة الالتباس، فحين نقرأ عبارة (تأويل الأحاديث) نفهم أن سيدنا يوسف كان يربط بين الحديث الذي يرويه الشخص عن رؤياه وبين مآل هذه الرؤيا أي كيفية تحقّقها على أرض الواقع.
ونفهم أيضاً أن سيدنا موسى عجز عن الربط بين تصرفات العبد الصالح وبين مفاهيمه الدينيّة وقيمه الانسانية الذاتية، فوقع في نفسه ذلك الالتباس، وحين جاءه التبيان زال الالتباس (ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً).

يمكن القول إذاً أن التأويل هو الربط المنطقي بين مُعطيات النص ومُعطيات العصر، وهذا يتطلب الاعتماد أولاً على قواعد التفسير المذكورة سابقاً، مع إضافة بُعدٍ آخر يتمثل في التدبّر والتأمل والاجتهاد الشخصي -حركة الذهن- بالاعتماد على البصيرة والعلم والمعرفة.
أما التأويل الذي يعتمد على الميول الأيدلوجية والأهواء الشخصية دون نهج، فهو التأويل المذموم والمنهي عنه (فأما الذين في قلوبهم مرض فيتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله).

وما يساعدنا على تحقيق ذلك الاجتهاد، أن نعامل التنزيل الحكيم بما يليق به من قدسيّة نصٍ وصلنا من خالق هذا الكون، وهو بذلك لا بد أن يحتوي الدقة والبيان والتفصيل والاعجاز في نظمه، لذا لا يصح معاملته معاملة الأدب أو الشعر والظن أن مفرداته تحتوي على الترادف (استخدام أكثر من مفردة للدلالة على ذات الشيء) أو الاطناب والحشو الزائد، فكل مفردة في التنزيل لها وظيفة تؤديها في المعنى والبيان ولا بد من إدراك ذلك كي يستقيم فهمنا لها.
ومن أبرز العلماء الأوائل الذين أسّسوا لهذه القاعدة "إبن جني" و "الجرجاني" اللذان عاشا في القرن الرابع والخامس الهجريين على التوالي، وقد سبقهم العالم "ثعلب النحوي" في القرن الثالث هجري حين قال: (ما يُظنّ في الدراسة اللغوية من المترادفات هو من المتباينات).

لذا يمكن القول إن الاجتهاد أو التدبّر يشترط عدم الاعتماد كلية على النقل والمرويّات لتفسير آيات الكتاب كما اعتمد عليها المفسرون الأوائل حين انحصرت مهمتهم في تبيان المرويّات والتفضيل بينها، بل يجب إعادة فهم الآيات بمفهوم عصرنا ضمن قواعد تجمع بين التفسير والتاويل.

كما يفيدنا أيضاً، جمع الآيات موضوعيا (ترتيل الآيات) ودراستها من أجل ربطها موضوعياً والاجتهاد فيها على عكس ما فعله المفسرون الأوائل حين فسّروا الآيات بناءً على الفهم التاريخي لها حسب ترتيب النزول، لا بالفهم الموضوعي لها.

 وهذا الترتيل يتيح لنا فهم النصوص من خلال مقاربتها، فالتنزيل الحكيم لا يناقض بعضه بعضا بل انه يفسر بعضه بعضا، وهذا الترتيل من شأنه أيضاً أن يرفع شبهة الناسخ والمنسوخ، فكتاب الله لا ينسخ بعضه بعضاً، بل يُكمل بعضه بعضاً.

وتجدر الاشارة أيضاً إلى مفهوم آخر ورد في التنزيل وهو الاستنباط، الذي يعتبر منوطاً بالأحكام الشرعية والاجتهاد فيها، ومن الخطأ الاعتقاد بأن مسؤولية استنباط الأحكام الشرعية يجب أن تبقى محصورة في علماء الشريعة فقط، ففي عصرنا الحاضر لا يمكن الاجتهاد في تطبيق الأحكام الشرعية (مصارف الزكاة، الربا والفوائد، الإرث والوصية والتبنّي، القتل الرحيم، تعدّد الزوجات، حقوق المرأة....إلخ) دون الإحاطة بعلوم الاجتماع والسلوكيات والاقتصاد والطب والتكنولوجيا..الخ، ومن هنا نقول إنه قد آن الأوان لتشكيل مؤسسات تشريعية خاصة بالأحكام تضم متخصصين في كل العلوم الانسانية، بحيث يتم استنباط الأحكام الفقهية المعاصرة وفقاُ لفهم مقاصد الدين والشريعة على ضوء إدراكنا وفهمنا للعلوم المعاصرة.

في النهاية أقول، إني قد ارتأيت وقد أنهينا للتو شهر القرآن والتدبّر في كتاب الله، ان أضع بين أيديكم هذه المحاولة المتواضعة لإزالة اللبس الواضح بين محاولات تجديد الخطاب الديني التي تحمل بُعداً فكريا حقيقياً، وبين محاولات ركوب الموجة التي خلطت الحابل بالنابل.
مع تأكيدي على وجوب النقد البناء لكل محاولات الاجتهاد ودحض الحجة بالحجة، أما من أخذته العزّة بعلمه وأفكاره التي يظن أن الله قد فتح بها عليه، دون إقناعنا بدايةً بصحة وسلامة منهجه، ودون التزامه بمنهج علمي وقواعد منطقية، فأننا نحكم عليه من خلال المنطق وسلامة المنهج، مهما بدت أفكاره لمّاعة وبرّاقة، ومهما كان لسانه فصيحاً.

أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
2-6-2020

الجمعة، 22 مايو 2020

*آيات استوقفتني 4 (11) شُبهة الأحرف السبعة*

*آيات استوقفتني 4 (11) شُبهة الأحرف السبعة*

لاحظت قبل عدّة سنوات أن إمام جامع الحي الذي يؤمّنا في الصلاة يقرأ في الفاتحة الظآلين بدلاً من الضآلين، ولكني لم أردّه في الصلاة ولم يردّه أحد من المصلّين كذلك لأننا نعلم أن لهجته غلبت عليه، ولكنه يعلم أن اللفظ الصحيح والوارد هو (الضآلين) وليس الظآلين.

ولكن في اللحظة التي ترى فيها أحداً يكتب آيات الكتاب كما يلفظها وليس كما حُفظت في نسحة المصحف الشريف فإنك لن تتردد في أن تبدي اعتراضك وتصحّح خطأ الكتابة.

عندما نما إلى مسامع سيدنا عثمان أن المسلمين في الأمصار المختلفة يقرأون بعض آيات المصحف  حسب لهجتهم، بل بدأوا بنسخه على الصحف وتدارسه على لهجاتهم، استشعر الخطر الكبير على كتاب الله وقام على الفور بتكليف زيد بن ثابت بنسخ عدة نسخ من المصحف الشريف الذي تم جمعه في عهد سيدنا أبي بكر الصديق ثم انتقل إلى عهدة الخليفة عمر بن الخطاب وبقي في عهدة السيدة حفصة بنت عمر (أم المؤمنين) من بعده.

وزيد بن ثابت هو كاتب الوحي الرئيس في حياة سيدنا محمد، وهو من أشرف على جمع القرآن بتكليف من سيدنا أبي بكر، أي أنه اعلم الصحابة بالتنزيل وكتابة الوحي من سيدنا محمد مباشرة، وهو من قام بالاشراف على جمع القرآن.

وبعد أن أتمّ زيد من ثابت المهمة بنجاح قام سيدنا عثمان بتوزيع نسخة من المصحف الشريف إلى كل والي من أولياء المسلمين مصحوباً بمرسوم أميري يقضي بجمع جميع الصحاف المتداولة لآيات الكتاب وحرقها جميعاً، وطلب من الولاة اعتماد الرسم الموجود في المصحف الشريف والذي عرف بعد ذلك بالرسم العثماني، وهو الموجود اليوم بين أيدينا.

ملاحظة: إحدى نسخ الرسم العثماني الأصلية موجودة في متحف الباب العالي في اسطنبول كاملة وسليمة إلى يومنا هذا، إضافة إلى خمسة مصاحف نسخت يدوياً في نفس الفترة.

ولكن على ما يبدو فإن بعض الصحف المتناثرة هنا وهناك لم يتم مصادرتها، كما استمرت قراءة بعض الملسمين على لهجتهم المحلية خصوصاً مع الاعتماد على المشافهة وانتشار الأمية.

وبعد قرون من الزمن وبعد انتشار علوم القرآن والفقه والمدارس المختلفة ظهرت هذه الصحف القديمة التي اكتسبت بُعداً تاريخياً لأنها من زمن الصحابة الأوائل أو التابعين على أقدر تقدير، وهنا حصل الخلط وظهرت نظرية نزول القرآن على لهجات مختلفة اتفق العلماء حينها على انها سبعة أحرف.

وتقول هذه النظرية أن جبريل عليه السلام قرأ الآيات على قلب سيدنا محمد بلهجات عصره تخفيفاً على المسلمين وأن سيدنا محمد قد قرأ بالفعل هذه الآيات على قراءاتها المختلفة بل وسمح لكتبة الوحي بتدوينها بهذه القراءات!!!

ورغم عدم منطقية ولا عقلانية هذه النظرية إلا أننا وفي القرن الواحد والعشرين ما زلنا نستمع لعلماء الدين الذين يصرّون على ذكر اختلافات القراءات بل وعقد دورات تحفيظ للقرآن على حرف فلان وعلان مصرّين أنها جميعها صحيحة وواردة عن الوحي!!

وهذا القول هو مخالف لنص القرآن الكريم بل هو تعدٍ سافر على قدسية النص، وطعن في مسلّمة حفظه من الله تعالى (إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون)

لاحظوا معي:

(وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) فليس المطلوب من الرسول أن يتقن اللهجات واللغات المختلفة من أجل الدعوة، وهذا ما وثّقه الله سبحانه وتعالى عن سيدنا موسى على لسان فرعون حين وصفه بالقول (ولا يكاد يُبين) فسيدنا موسى لم يكن يتقن لغة المصريين القدماء (والتي وصلتنا عن طريق الكتابة الهيروغلوفية) ولكنه يتقن اللغة العبرانية لغة قومه، وهذا من أسباب طلبه الاستعانة بأخيه هارون (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي ۖ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) القصص 34

أما عن التنزيل الحكيم فقد ذكر الله سبحانه وتعالى بمنتهى الوضوح:

(نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) الشعراء 193-195

واللسان هنا تعني اللغة، لأن لفظ اللغة استخدم في فترة متأخرة، والدليل هو:

(وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ)الروم 22

ونفهم من هذا أن الله سبحانه وتعالى قد اختار اللغة العربية كوعاء لاستيعاب التنزيل الحكيم، وأنه اصطفى لهجة قريش (قوم سيدنا محمد) لينزل الوحي بها.

ولهجة قريش هي أرقى وأنقى اللهجات العربية وهي الطاغية على باقي اللهجات، حيث كان يستخدمها الشعراء لنظم الشعر لأنها الأكثر تداولاً كما أنها اللهجة المعتمدة في المواسم الثقافية (سوق عكاظ مثالاً) والمواسم الدينية (موسم الحج) وبالتالي فقد أصبحت لغة العرب المركزية.

بل إن الله سبحانه وتعالى كان دقيقاً جداً في وصف صفة التنزيل بلهجة ونطق سيدنا محمد بالذات، لإزالة أي شكوك (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)

ونحن نتساءل ألم يكن من باب أدعى ان تعترض قريش على سيدنا محمد وتتهمه بتأليف الكتاب بل وتحريفه وتغييره إذا ما قرأ الآيات بلهجات مختلفة ونطق يتغير باستمرار؟! ولماذا لم يذكر لنا الله سبحانه وتعالى هذه التهمة إن كانت قد حصلت و لماذا لم ترد كذلك في كتب السيرة؟

ومن جهة أخرى، لقد وضّح وفصّل لنا سبحانه وتعالى كل ما يتعلق بالتنزيل والوحي وصفة الكتاب وحفظه، ألم يكن من باب أولى أن يذكر لنا الله أنه أنزل الوحي بألسن مختلفة مراعاة لنا إن صحّ ذلك.

وعندما يتعهد الله بحفظ الكتاب فعلى أي حرف حفظه؟ ألا يعتبر اندثار القراءات وحرق المسلمين الأوائل للصحف غير المتوافقة مع النسخة الأصلية تعديّاً على الوحي وتحدياً للوعد الالهي بحفظ التنزيل (إن كان قد نزل بعدة أحرف)؟!

على كل مسلم مؤمن الايمان التام بان المصحف الشريف بلفظه، ورسمه، وترتيب سوره، وترتيب آياته، ومواقع النجوم (الفواصل بين الآيات)، وأسماء السور، جميعها وحي من الله سبحانه تعالى وهي وقف لله تعالى محفوظ برعايته، ولا يقبل الشك ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه

(أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)

(لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)

وهناك العديد من الأدلة الواضحة على دقة رسم المصحف وتمييزه اللفظ عن طريق الكتابة، أذكر منها أمرين على سبيل المثال لا الحصر:

أولاً: وردت كلمة العلماء برسمها تحمل لفظها الصحيح كما نزل بها الوحي دون داعي إلى تشكيلها فوردت في رسم المصحف كما يلي:

(إِنَّمَا یَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَـٰۤؤُا۟) أي بكتابتنا المعاصرة: العلماءُ

ثانياً: ميّز رسم المصحف بين لفظ الصلاة كشعيرة (الصلوة)

(لَا تَقۡرَبُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمۡ سُكَـٰرَىٰ) (والذين هم على صلواتهم يحافظون)

وبين الصلاة من الصلة والقرب من الله

(الَّذِینَ هُمۡ عَن صَلَاتِهِمۡ سَاهُونَ)

هذا والله أعلم.

أيمن يوسف أبولبن

22-5-2020