تم الإعلان في الأسبوع الماضي، عن تقرير لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ
الأمريكي حول التعذيب الذي مارسته الإستخبارات المركزية في عهد الرئيس السابق "جورج بوش" بعد أحداث سبتمبر 2001، وقد سبّب هذا التقرير حرجاً
للإدارة الأمريكية لتضليلها الرأي العام من خلال إخفائها أو تقليلها من وحشية
أساليب الإستجواب وإنتزاع الإعترافات بإستخدام وسائل تعذيب وتهديد مختلفة، ليس هذا
فحسب بل يُكذّب التقرير إدعاءات الإستخبارات بحصولها على معلومات مهمة وحسّاسة
نتيجة إستخدامها التعذيب في التحقيقات. وخَلُصَ التقرير الى أن التعذيب لم يكن ذا فاعلية
تذكر في إحباط الهجمات الإرهابية، على عكس ما كان رائجاً !!
قد يقول البعض أن هذا التقرير لا يُضيف شيئا جديداً حول ما
يعرفه الجميع عن وحشية الإستجوابات التي قامت بها الاستخبارات المركزية والظروف
غير الإنسانية التي يعيشها المعتقلون، ولكن أهمية التقرير تكمن في أن هذه النتائج
رسمية ومُوثّقة وصادرة عن جهة رسمية ذات إختصاص، وبالتالي تكتسب المعلومات الواردة
في التقرير والنتائج التي خلص اليها مصداقية عالية، وهذا ما يُميز هذا التقرير عن
التقارير الصحفية والاعلامية المستقلة التي تناولت هذا الموضوع من قبل أو حتى
التسريبات التي طالت الاستخبارات المركزية، وتلقفتها وسائل الإعلام المختلفة، واستفادت
منها صناعة السينما في تضمين الأفلام السينمائية مشاهد تحاكي هذه التحقيقات.
ومما يذكر أن صُنّاع القرار في الإدارة
الأمريكية قاموا بدفع صُنّاع السينما الى إنتاج وتقديم أفلام مُوجهة تهدف الى إيصال
رسالة الى الشعب الأمريكي مفادها: نحن لا نختار أن نقوم بهذه الأفعال، ولا نحبذ أن
نقوم بها، ولكننا نزاولها عند الحاجة فقط، بل ومُرغمين، ولولا هذه الأفعال "القذرة" التي نقوم بها من أجلكم، لما كنتم تعيشون في أمن وسلام الآن،
مستمتعين بأشعة الشمس على شواطىء البحر، وما كان أولادكم يلهون في أمان. لا تدعوا
عواطفكم تتحكم بأفعالكم، ولا تصدقوا دموع التماسيح!، فمهما بلغت قساوتنا ووحشيتنا،
فإنها لن تصل أبداً الى وحشية هؤلاء الإرهابيين !
ولقد
سعت الإدارة الأمريكية في عهد بوش الى تبرير التعذيب بإسم الوطن، بل وحاولت أيضاً
إيجاد مخارج قانونية لإستخدام التعذيب بشكل شرعي، سواءً باستخدام أراضي لا تخضع للقوانين
الأمريكية، أو إستخدام محققين خاصين لا صلة للإستخبارات المركزية بهم، أو حتى الإستعانة
بأجهزة مخابرات أجنبية في مراكز الإعتقال "السوداء".
ويجب كذلك أن لا ننسى أن الإدارة الأمريكية
صادرت حريات المواطنين وأجازت التنصت على مكالماتهم وأخترقت خصوصياتهم وسَنّت
العديد من القوانين التي تندرج تحت ما يعرف يالأحكام العرفية، وهذا يناقض مبادىء الحلم
الأمريكي القائم على أساس الحرية والديمقراطية، والقانون الذي لا يتجاوزه أحد، وصيانة
الدستور.
المشهد في أمريكا الآن يعكس الإنقسام الحاصل
بين مُعسكرين، المعسكر الأول يتبنّى مبدأ إحترام حقوق الإنسان، وعدم إستخدام
التعذيب في التحقيقات، إعتماداً على الأيدلوجية الأمريكية التي تقول أن إحترام
القوانين، وإحترام كرامة الإنسان، هو أحد أركان هذا البلد، ومُكوّن أساسي من
مكوناته، يجب الإلتزام به مهما كانت الظروف، ومهما كانت الشكوك والتي قد تصل الى
درجة اليقين، وأن الإنسانية يجب أن تبقى هي السمة الغالبة في المجتمع. ويمارس
أصحاب هذا المعسكر مختلف وسائل الضغط على الحكومة والمخابرات، ويطالبون بمحاكمة
المُتسببين، وإغلاق مراكز التحقيق "السوداء" المنتشرة في العالم، وعلى رأسها سجن غوانتانامو.
في حين تقول وجهة النظر الأخرى: لا قيود، لا
محظور، ولا حدود للتعامل مع هؤلاء المجرمين الإرهابيين، المهم في النهاية هو
الحصول على المعلومات وبأية طريقةٍ كانت، سواءً بتعذيب المتعقلين أو حتى بتعذيب
زوجة وأطفال المتهمين امام أعينهم!! كلُّ شيءٍ مُباح، ما دام ذلك يصب في مصلحة
الوطن، وحماية أبناء الوطن.
وهذا الانقسام يبدأ من قمة الهرم وينتهي
بالطبقة العامة من الشعب، وهو ما يُثبته تصريح "ديك تشيني" الأخير والذي يقول فيه أنه لو رجع فيه الزمن الى الوراء
لأعاد إنتهاج نفس السياسات، ويقول أيضاً أن الإستخبارات المركزية قامت بما يلزم،
وهذا ما يشير الى تعايش هؤلاء المسؤولين مع جرائمهم، وتقبّلهم لها بكل أريحية، بل
وإيمانهم المطلق بما يفعلون.
في
نهاية الأمر، ما يؤكده الواقع أن المُعسكر الأول الذي ينادي بمراعاة حقوق الإنسان،
يتضاءل وينضمر، بل وينكمش تدريجياً ليصبح مُهمشاً وغير فاعلٍ في تسيير الأمور
وترجيح الكفة، وفي نهاية الأمر يتوارى عن الصورة مع أول تهديد حقيقي لأمنه وإستقراره
وحياته، حتى لو كان شعوره بالأمن على حساب إنتهاك خصوصية الغير، وإستباحة أعراضهم
ودمائهم، بغض النظر عن جنسية هذا الآخر
أو أصوله وديانته.
وهذا ما يثبت أن الحلم الأمريكي لا يتعدى كونه
"حُلم" يتصادم مع الواقع، وغير قابل للتطبيق، الحلم الأمريكي هو "سيستم" جميل من الخارج، فارغ من الداخل، ينطبق عليه القصة
الرمزيّة التي تحكي عن إفتتاح محل تجاري ضخم، مختص ببيع الدجاج في أحد الأحياء
السكنية، وعند زيارة أهل الحي للمكان يتفاجئوا بروعة المكان ودقة التنظيم، ومدى
الحرص على النظافة وأناقة الموظفين، بالإضافة الى وجود الإشارات التوضيحية في كل
مكان: إختيار نوع الدجاج، فحص الدجاج والوزن، قسم تقطيع الدجاج، قسم المحاسبة..الخ
ولكن عند محاولة أحد الزبائن شراء الدجاج المفضل لديه، يتفاجىء بالموظف يقول له:
لا يوجد لدينا هذا النوع من الدجاج، في الواقع نحن لا نقدم الدجاج إطلاقاً، ولكن
أود أن أسألك: هل أعجبك النظام المتبع لدينا ؟ عزيزي، ما هو رأيك ب " السيستم "؟!
الحرية
الأمريكية المزعومة، يتم إختراقها من أجل الوطن، والعدالة والمساواة منحة تُوهب وتُرَد
عند الحاجة، أما القانون فيتم إعادة صياغته كي يُطابق شروط المرحلة الحاضرة، أما الديمقراطية
فهي لمن يستحقها، المهم في النهاية هو الإبقاء على "السيستم"!
أيمن أبو لبن
12-12-2014