الأحد، 11 مايو 2014

خربشات على صفحات التاريخ

خربشات على صفحات التاريخ

   خلال عام 2013 دخلت الثورة السورية نفقاً مُظلماً مع دخول الجماعات المُتطرفة ساحة الصراع هناك قابله أيضاً مُشاركة ميليشيات حزب الله في الصراع الى جانب القوات النظامية، ونتيجة لذلك تضاعفت مأساة الشعب السوري حيث أمسى بين فكّي كماشة، النظام السوري من جهة، وبطش الجماعات المّتطرفة من جهة أخرى. والرابح الوحيد من هذا المنحنى الخطير الذي اتخذته الأحداث، كان النظام السوري.  

   من يقرأ الأحداث بعمق ولا يكتفي بمتابعة ما يطفو على السطح، يسهل عليه تحليل الأحداث واستنتاج أن النظام السوري كان يهدف منذ البداية الى جر الثورة السورية "السلميّة" الى فخ "تسليح المُعارضة" ومن ثم فتح الباب على مصراعيه للاقتتال الطائفي، ولا يخفى على متابعي الأحداث عن كثب، العلاقة المشبوهة التي تربط النظام بأكبر تنظيم متطرف في المنطقة (داعش) والذي يعيث في الأرض الفساد، وأكبر دليل على هذه العلاقة هو التنسيق الأمني الحاصل بين الطرفين على الأرض، وعدم دخولهما في أي مواجهة مباشرة.

   عدا عن الصاق تهمة الارهاب بالمعارضة، فقد استطاع النظام السوري نقل المعركة من ساحة الصراع السياسي -التي يعلم جيداً أنه سيفشل فيها- الى ساحة اقتتال يجيد التعامل معها جيداً، بل وبامكانه التحكم في ادارة دفة الصراع فيها، وهذا ما مكّنه من ايهام البسطاء أن النظام السوري على كل علاّته أرحم بكثير من هؤلاء المتطرفين وأن صموده في المعركة هو أفضل ما يمكن أن يتمناه الشعب السوري في هذه المرحلة. بعد أن كان اسقاط النظام مطلباً شرعياً للشعب السوري بل مطلباً جماهيرياً لمعظم الشعوب العربية.

  يقول المفكر والفيلسوف الألماني "هيغل" أن العالم يسير الى الأفضل وأن عجلة التاريخ لن تعود أبداً الى الوراء، وهذا ما لا يدركه النظام السوري، الذي ما زال حتى الآن يراهن على قدرته على اعادة عقارب الساعة الى ما قبل الربيع العربي وأنه بالامكان منع احجار الدومينو  من السقوط المتوالي. النظام السوري يراهن على أن التاريخ سينبهر من وقع الأحداث اليومية المتلاحقة على الساحة السورية وسينهمك في تغطية التفاصيل الصغيرة ويعجز بالتالي عن ادراك الحقيقة الكامنة تحت السطح، تلك الحقيقة التي تُدين النظام السوري في كل ما يجري على الساحة السورية. وتثبت أن علاقته بالارهاب علاقة أزلية متجدّدة.

    التاريخ سيذكر –رغم أنف النظام- أن "خربشات" أطفال على جدران درعا هزّت عرش النظام السوري فارتجف ولم يجد أمامه سوى لغة البطش والقبضة الأمنية التي لا يُجيد غيرها، التاريخ سيذكر أن أول ضحايا المظاهرات السلمية كان طفلاُ لا يتجاوز عمره ثلاثة عشر ربيعاً "حمزة الخطيب" وأن الأمن السوري أراد أن يجعل منه عبرةً لمن يعتبر فقام بالتمثيل في جثته، حيث قطع عضوه التناسلي، كما سيذكر التاريخ أيضاً حادثة ذبح "إبراهيم قاشوش" (مُغني الثورة السورية) واقتلاع حنجرته ثم القاء جثته في نهر العاصي، وسيذكر أيضاً كسر أصابع علي فرزات (الرسّام المناهض للنظام)، واقتلاع عين مصور مظاهرات حمص. فمن هو الارهابي الأول في سوريا، ومن زرع بذور الارهاب في المنطقة، وسعى لحصد ثمارها ؟!

التاريخ سيحكم على النظام السوري ولن يجامله كما يفعل كثيرون، لن يلتفت التاريخ الى ارهاصات نظرية المؤامرة، ولن يتمكن الفيتو الروسي ولا الدعم الايراني ولا ميليشيات حزب الله من وقف عجلة التاريخ ولا تغيير نواميس الكون، وأقصى ما يمكن فعله هؤلاء هو تأخير عجلة الأحداث لبعض الوقت. يقول الله تعالى : (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين).

   العالم يحكمه العقل والمنطق والحق في النهاية، على الرغم من المظاهر الخادعة التي توحي أن الطغاة والاقطاعيين والفاسدين يتسيّدون هذا العالم، ومن يشك في هذا، فعليه مراجعة التاريخ جيداً والنظر بعين ثاقبة الى حركة التاريخ العميقة بعد ازالة القشور السطحيّة. عندها سيدرك أن هؤلاء لا يَعدون كونهم ممثلي كومبارس يؤدون أدواراً "قذرة" كي يسطع نجم الممثل الأول الذي يلعب دور البطولة ويتصدر صفحات التاريخ.

أيمن أبولبن
25-4-2014





الأربعاء، 23 أبريل 2014

قصص من الواقع (3)

قصة فاطمة

      لي صديقٌ عزيز، زميلُ دراسة قديم وعشرة عمر، تربينا سويّةً؛ كان رفيقي في شلّة الحارة، وفي صف المدرسة، وعندما نقع في المحظور كنا نتشارك في تلقّي "علقة ساخنة" أو "دش بهدلة"، كنت أعتبره واحداً من أهلي وهو كذلك. كبُرنا وكَبُرت أحلامُنا معاً، سرقتنا الدنيا من بعضنا وأصبحت لقاءاتنا متباعدة ومتفرقة، هاتفني قبل فترة وطلب مني أن أزوره، أحسست من صوته أن شيئا جللاً قد حدث.

   ذهبت لزيارته فوجدته كئيباً وحزيناً، قدّم لي كأساً من الشاي، وبدأ ينفث دخانه في أرجاء الغرفة، وبدون أن أسأله بادرني بالحديث، أختي فاطمة يا صديقي، قلت له ما بها فاطمة، قال حالها لا يسر عدو ولا صديق، هل تعلم ماذا صنع بها زوجها ؟ تبادرت الى ذهني ذكرياتها السيئة مع زوجها، وعاد لي شعور الحسرة على ارتباط مصير انسانة نقية مثل فاطمة بمصير شخص سيء الطباع وعديم الأخلاق مثل زوجها، قلت له أعلم بعض الأشياء من بعيد ولكن حدّثني ما الذي حصل؟

   أخذ نفساً عميقا من سيجارته، و نفث دخانها وكأنه يحاول أن يخرج كل المآسي الكاتمة على صدره، زوجها "ليث" يا عزيزي يلعب القمار ويشرب الخمر؛ يقضي ليله الطويل في دور الملاهي وفي أحضان الراقصات، فقدَ عمله نتيجة تسيّبه، وأصبح يعتمد على راتب فاطمة، ليس هذا وحسب، بل انه أخرج ابناءه من المدرسة كي يعملوا ويأتوا له بالمال، ويبدو أن ابنه الكبير "علي" ذو حظوة كبيرة عنده، فهو "الرجل الثاني" في المنزل، وهو الناقل الرسمي لتفاصيل ما يجري في غياب الوالد، والنتيجة الآن أن هناك حلفين في البيت، حلف الأب والأبن الأكبر، وحلف فاطمة والأولاد الصغار.

  بدا صديقي وكأنه يتحدث الى نفسه، عيونه تدور في أرجاء الغرفة، دون أن يوجهها صوبي، ثم استرسل في حديثه قائلاً : يقضي ليث نهاره في البيت وهو يغط في النوم، يصحو مع نهاية النهار، فيعتدي على فاطمة بالضرب والشتم، يعنّف أولاده الصغار كي يشعر برجولته، يأخذ ما بحوزتهم من أموال ويتقسامها مع ابنه الكبير، ثم يغادر الى حيث يجد متعته، يعود مع وقت الفجر، ليعيد نفس الكرة مع زوجته وأولاده وهكذا دواليك .

  أطبق الصمت علي، بينما أشعل صديقي سيجارته الثانية، وأردف قائلاً، مؤخراً علمتُ بأنه يعاقب من يعصي أوامره من أولاده بحبسهم في غرفهم وابقائهم دون طعام أو شراب ليوم كامل، ثم يفرج عنهم بعد أن يجعلهم يقبًلون حذاءه ويقدّموا له بعض الرقصات التي تسعده، ثم يطلب منهم أن يهتفوا باسمه ويمجدوه ويقدسوه!!

  انتفضت من مكاني لا شعورياً وصرخت قائلاً هذا غير معقول، هذا انسان مريض، مختل عقلياً !!! وماذا أنت فاعل ؟ هل فكرت أن تلجأ الى الشرطة ؟

  قال لي ببرودة أعصاب يُحسد عليها اجلس ...اجلس !

استطردت في فورة الغضب وكأني لم أسمع ما يقول:

   لو ذهبت الى أي قاضي سيحكم لك بطلاقها منه؟! ولو لجأت الى عشيرتك لأقتصوا منه، يا أخي تحلّى ببعض النخوة ودافع عن أختك، ضع له حداً، خذ فاطمة وأولادها بالقوة، أحضرهم ليعيشوا عندك، ألست مسؤولاً عنهم ؟!  

  أشار لي بالهدوء، وأشعل سيجارة جديدة؛ أحسست أن بالوناً كان منفوخاً في صدري ثم انفجر فجأة فبات قلبي خاوياً. ما أعتدت منك هذا اللين والترفق، ما الموضوع ؟!

    هل تريدني أن أطلقها منه؟ لنفترض جدلاً ان هذا حصل، ماذا سيكون مصير فاطمة وأولادها ؟ ألا تعلم نظرة المجتمع للمرأة المطلقة ؟! من سيعولها ويعول أبناءها وأنت تعلم بحالي ؟! أنا لن أعيش لهم للأبد، ماذا سيكون مصيرهم من بعدي ؟

   قلت له يا أخي ضع ثقتك في الله، ولن يخيب ظنك أبداً، سيكون لها نصيب مع من يقدرها ويحسن اليها باذن الله، على الأقل اعطها فرصة أن تختار وتعش حياتها.

   هل تضمن لي أن القادم أفضل من حاضرها ؟! ثم ألا تذكر أبناء عمومتي وعداءهم الشديد لنا، بسبب الخلاف القائم حول قضية الارث ؟! أنا واثق أنهم سيستغلون الفرصة وسيمارسوا ألاعيبهم كي تتزوج من أحد معارفهم ثم يجبروها على التنازل عن حقوقها ويرموها في الشارع، أقسم لك أن ما يحصل لفاطمة الآن هو أهون علي من أن تصبح لعبة هي وأولادها في يد ابناء عمومتي.

  عندها فقدت السيطرة على أعصابي وأنفجرت في وجهه، بأي منطق تتكلم؟! وأية أنانية تلك التي تعتمل في صدرك، بأي حق تقوم بتحديد مصير فاطمة كما يروق لك، ومن أعطاك الحق لتحكم على مستقبلها وقدرها ثم تقول انه سيكون أسوأ من حاضرها !! اذا كنت تتحدث عن المنطق والصواب، فأختك فاطمة الآن تعيش في جحيم والأولى بك أن تفكر في تخليصها منه، وبعد ذلك يكون لكل حادث حديث، أما أن تتركها تواجه مصيرها مع شخص تجرّد من كل معاني الانسانية بحجة الخوف من المستقبل ومن كيد أبناء العمومة فهذا عذر أقبح من ذنب!!

   تركته جالساً وهممت بالمغادرة ثم عدت أدراجي وكأني لم أشف غليلي بعد، قلت له أتعلم ؟! أنا بالفعل غير قادر على تصور أن فاطمة الآن قد تكون محبوسة أو قد تكون تداوي جراحها أو تضمد جراح أبناءها في هذه اللحظة بالذات ، بينما أنت جالس هنا تشرب الشاي وتدخن سيجارتك، وفوق هذا كله تحاول ايجاد الأعذار على نكوصك ونقص رجولتك !!

  توجهت الى الباب وعندما أصبحت على عتبة داره، التفت اليه قائلاً : أشعر بالخجل منك ومن تصرفاتك، وأبرأ الى الله منك !!

   عدتُ الى منزلي، واستلقيت في فراشي، ولكني عبثاً حاولت النوم، كلما غفوتُ أيقظتني صرخة فاطمة واستجداء صغارها، فلم أجد بُداً من مغادرة الفراش؛ جلست أشاهد التلفاز، وأتنقل بين البرامج، استوقفني برنامج حواري يتحدث عن مأساة سوريا، وللصدفة كان هناك أحد القومجيون العرب، الذي يروّج لنظرية المؤامرة – كما يفهمها هو - ويتحدث عن المستقبل المجهول لسوريا اذا ما سقط نظام الأسد، ثم أنهى مداخلته قائلاً  "أنا لا أساند الطغيان ولكني أقف ضد المخطط الامريكي الامبريالي في المنطقة التي تسانده دول الخليج !!" فما كان مني الا أن صنعت كأس شاي، وأشعلت سيجارتي، ثم جلست أنفث دخانها في أرجاء الغرفة !!!

   أيمن أبولبن 
18-4-2014


الجمعة، 18 أبريل 2014

إقرأ حتى وإن كنت تغرق !



   في فنلندا، هناك نصبٌ في حديقة عامة كُتب عليه عبارة " إقرأ حتى وإن كنت تغرق" تم تصميمه على هيئة رجل يقرأ بكتاب وسط الماء، وهي فكرة لطيفة تشير الى أهمية القراءة والثقافة بشكل عام للمجتمعات، وكيف أن الدول الغربية مهتمة بتحفيز وحثّ شعوبها على القراءة، ووضع القراءة والمعرفة على قائمة أهم أولوياتها.

   من باب التذكير فقط أذكر أن أول كلمة نزلت من القرآن الكريم كانت كلمة "اقرأ"، يقول الله تعالى (اقرأ باسم ربك الذي خلق) وهذه اشارة جليلة لحرص الاسلام على جعل الفكر والثقافة السبيل الأول للايمان بالله، فالايمان الحقيقي لا يكون الا بالعلم وادراك مراد الله في الكون، والايمان الأعمى أو المتعصب ينمّ عن ضعف أو نقص في الايمان، ومن هنا تأتي عظمة المعجزة الكبرى لنبينا محمد "القرآن الكريم"، فالحرص على التديّن والتعمق في منهج الله يكون من خلال "القراءة" وتطوير أدواتها، وبدون اتقان مهارة القراءة تختل مفاهيم الايمان.

   لعل الشعوب العربية لا تقل اهتماماً بالقراءة عن باقي الشعوب الغربية، ولكن الفارق يمكن في اهتمام المؤسسات الحكومية والمدنية على رعاية الثقافة في المجتمعات، فمجتمعاتنا الشرقية والعربية خصوصاً تفتقد للمسة الرعاية والاهتمام هذه، مما يجعل تجربة القراءة والثقافة في مجتمعاتنا لا تعدو كونها اجتهادٌ شخصي للأفراد وللأُسَر، مما يجعلها عُرضة لكثير من النواقص والعيوب، ومنها حصر مفهوم القراءة في متابعة " الرواية العربية" وهذا خطأ جسيم تقع فيه فئة كبيرة من القُرّاء وخاصة الفتيات، فبرغم أهمية الرواية في شحذ الخيال وفتح باب التأمل والتفكير ، الا أنها لا تعدو كونها فصلاً واحداً من فصول القراءة والثقافة، فالاهتمام بالقراءة والثقافة يتعدى المجال الأدبي ليصل الى كافة مجالات الحياة العلمية والسياسية والمهنية والاجتماعية ومجالات تطوير الذات والتاريخ ...... الخ، وبقدر التنوع الذي يحرص عليه الشخص بانتقاء مصادر القراءة بقدر ما تتسع مداركه ويصبج قادراً على مواكبة الأحداث الجارية حوله، بل والتأثير في سيرها ولعل هذا هو الهدف الأسمى من القراءة.

      تتدرّج القراءة من قراءة بسيطة عابرة مثل قراءة الجريدة الرسمية، الى متابعة المقالات التحليلية والدراسات الاجتماعية ومن ثم الانطلاق نحو المزيد من القراءة التفصيلية للمواضيع التي يهتم بها الفرد، والتي عادةً ما تكون مرتبطة باهتماماته الخاصة سواءً المهنية أو السياسية أو اهتماماته الشخصية، ثم يأتي بعد ذلك تخصيص وقت للقراءة العامة بحيث لا يمضي يوم دون قراءة جزء من كتاب أو البحث عن موضوع أو قضية عامة والتعمق فيها، وأنا شخصيا أحبذ أن لا أركز على كتاب واحد حتى الانتهاء منه على عكس كثيرين، فأنا أبدأ بقراءة كتابين أو ثلاثة في مواضيع مختلفة، على أوقات موزعة خلال أيام الأسبوع حتى لا يتسلل الملل لي،  فأنا لست من الذين ينغمسون في القراءة وينهون قراءة الكتاب في وقت قياسي، أشعر أن القراءة البطيئة والمتمعنة وما يتبعها من تحليل لما قرأت والبحث بين السطور أهم من انجاز القراءة بحد ذاتها.

   أذكر أن مُدرّسة في معهد اللغات الامريكي نصحتني ذات يوم بأن أحمل معي كتاباً وأستغل الوقت "المستنزف" في المواصلات العامة بالقراءة، لم آخذ بنصيحتها بالطبع رغم اقتناعي بالفكرة، لأسباب تعود الى عدم توفر سبل الراحة في المواصلات العامة على عكس الحال في بلاد الغرب، ولكني أعجبت بالفكرة وأستوقفتني كثيراً وقتها، وعجبت من الاهتمام الكبير  لهذه المُدرّسة في القراءة واستغلال الوقت، لذا بدأت بتطبيق هذه الفكرة لاحقاً لاستغلال الوقت الضائع في غُرف الانتظار  وفي السفر وغيرها.

   الحياة البشرية عبارة عن دورة متكاملة، ونواميس الكون علمتنا أن الحياة كالعجلة تدور ولا تتوقف، كما أن العلم أثبت أن جسم الانسان يعتمد على دورات عدة مثل الدورة الدموية والتنفسية والهضمية، وكذلك هي القراءة، فهي بمثابة الغذاء الروحي الذي نعيش عليه، وكي تكتمل الدورة علينا أن "نهضم" هذا الغذاء ونستفيد منه ثم نعكسه على شؤون حياتنا، ومع اكتمال دورة القراءة سنساعد أنفسنا على التخلص من الأفكار السلبية الكامنة في نفوسنا واستبدالها بأفكار ايجابية مفيدة وممتعة، وهكذا دواليك، فالهدف هو أن نرقى بأنفسنا من خلال القراءة والرقي بمجتمعاتنا وصولاً الى تحقيق حياة أفضل لنا ولأبنائنا، وبدون هذا لا يكون هناك معنى للقراءة فالبشر لم يُخلقوا للتخزين والتكديس بل للتدوير .

  اقرأ حتى لو كنت تغرق، أعجبتني هذه العبارة ودفعتني للكتابة حال قراءتي لها، ولعلي أضيف تعديلاً لها أو بُعداً آخر بالربط بين الغرق والتوقف عن القراءة، فمفهوم القراءة يعتمد على التجدّد المستمر وعدم الركون، فالقراءة يجب أن تبقى مصاحبة لنا في شتى الأوقات وباختلاف أحوالنا وحتى في ذروة انشغالنا، وفي اللحظة التي نتوقف فيها عن القراءة "سنغرق" في آتون الحياة، وهذا ما سيحدث لنا لو توقفنا عن العوم في الماء ولو للحظة، لو سمح لي القائمون على هذا التمثال لوضعت عليه عبارة " اقرأ حتى لا تغرق ! "

  هذه دعوة لجعل القراءة نشاطاً يومياً، واضعين في اعتبارنا أنها ليست هدفاً في ذاتها فالقراءة جزءٌ من دورة الحياة ولا تكتمل بذاتها.


أيمن أبولبن
10-4-2014






السبت، 5 أبريل 2014

السينما حين لا تثير الدهشة



   يقول أنتوني كوين الممثل الامريكي، والذي أشتهر بتجسيده شخصية "زوربا" اليوناني، و"عمر المختار" في فيلم  "أسد الصحراء" للراحل مصطفى العقاد، يقول أنه تعلم حكمة في بداياته الفنيّة، كان لها الدور الكبير في نجاحاته اللاحقة، وكانت بمثابة البوصلة التي عملت على توجيهه في اختياراته الفنية، هذه الحكمة أو النصيحة أخذها عن أحد عمالقة صناعة السينما حينها وتقول "يا بني، الجمهور لا يأتي الى السينما لتكرار مشاهد الحياة اليومية، بل للهروب من واقعهم؛ قدّم لهم شيئا مُدهشاً يهرب بهم الى حيث أحلامهم ".

  في بداية ظهور الأفلام السينمائية، كان مجرد مشاهدة شخصيات واقعية تؤدي أدواراً على الشاشة بالصورة ثم بالصوت والصورة، كافياً لخلق الدهشة والانبهار لدى الجمهور، ورويداً رويداً بدأت السينما باحتلال مرتبة أساسية للترفيه عن الشعوب، وتأدية دور ايجابي بالتأثير في المجتمع، ومن هنا بدأت الدوائر صاحبة القرار باستغلال الفن وصناعة السينما بالذات في بث رسائل للجماهير وتحقيق أهداف خفية من خلالها.

  ومع تقدم التكنولوجيا وصناعة السينما، أصبح المجال مُتاحاً لتجسيد أفكار خيالية، وتطويعها لتعرض على شاشة السينما فيتلقاها المشاهد و يصدقها ويتأثر بها، وتنجح بالتالي في اثارة الدهشة والاعجاب وتصل الى النجاح المنشود سواءً على مستوى الاقبال الجماهيري والايرادات، أو على مستوى المسابقات الفنية والجوائز. ولكن العنصر الأهم لنجاح أي فيلم وتميزه، هو تبنيه لفكرة غريبة ونادرة، تثير الفضول لدى المشاهد وتطلق العنان لمخيلته الفكرية، وتفتح له باب التأمل على مصراعيه، وتترك عنده بصمة عميقة ترتبط بهذا الفيلم، وأذكر هنا ثلاثة أفلام حُفرت ذكراها في ذهني خاصة، ويشاركني بها -على ما أعتقد-  متابعو الأفلام وعشاق الفن السابع، فيلم "الشبح “ Ghost ، " الحاسة السادسة 6th Sense " وأخيرا فيلم " الايحاءInception ".

   بعيداً عن ابهار الفكرة والابهار التكنولوجي، من اللافت للانتباه لدى معظم المتابعين أن أكثر الأفلام تأثيرا في الجماهير وأكثرها نجاحاً على مستوى تقييم النقاد والحصول على الجوائز الفنية وعلى رأسها الأوسكار، هي تلك الأفلام التي تنقل الواقع وتجسده بشكل درامي مؤثر، أو تلك الأفلام التي تحيك قصصاً تحاكي فيها الواقع وتُسقط الخيال السينمائي على أحداث واقعية فتصدم الجمهور وتثير الدهشة بصدقها وتحليلها للواقع بطريقة فنية، بحيث تجعلنا نرى الأمور من زاوية أخرى كانت غائبةً عنا وسط الضغوطات التي نعيشها في حياتنا اليومية، فتتيح لنا هذه الأفلام مجالا للتأمل والتفكير، أو مراجعة أنفسنا فيما نفعله.

   لعل فيلم "انقاذ الجندي رايان Saving Private Ryan " من انتاج واخراج ستفين سبيلبيرغ، أفضل مثال على هذه النوعية من الأفلام، بعد النجاح الكبير الذي حققه وجعله مرجعاً للأفلام الحربية بعد حصوله على 5 جوائز أوسكار، ولم يأت هذا النجاح من فراغ بل كان ثمرة عمل دؤوب من صانعي الفيلم حيث قام فريق الاعداد برسم الخط الدرامي للفيلم بصياغة قصة سينمائية مثيرة، ثم قاموا باجراء لقاءات مع عدد كبير من الجنود والضباط الذين شاركوا في الحرب العالمية الثانية ومن خلال هذه اللقاءات قام معدّو الفيلم بتوثيق تفاصيل أكثر من 20 معركة حقيقية، وأخيراً قاموا بربط شهادات المحاربين ونسجها مع القصة السينمائية المُفترضة، لتكون النتيجة قصة درامية مؤثرة بقالب فني ابداعي من حيث استخدام المؤثرات الصوتية والبصرية، والأداء التمثيلي الراقي، بالاضافة الى وجود مخرج مُبدع استطاع أن يستخدم الكاميرا بذكاء، فكانت النتيجة ابهار وادهاش للمشاهد ما بعده ابهار.

    في افتتاح الفيلم قال سبيلبيرغ "هدفي هو أن أعرض للناس ولأصحاب القرار بشاعة وفظاعىة الحروب على البشرية، وأن أجعلهم يفكروا جيداً قبل أن يؤيدوا حرباً أو يشاركوا فيها".

   ان أكثر ما يؤثر فينا كمُشاهدين، هو ربط أحداث الفيلم بمعاناتنا اليومية وبأحداث حدثت بالفعل لنا أو لأناس عايشناهم وخالطناهم، وبذلك يترك الفيلم بصمةً عميقةً في وجداننا. ما زلت أذكر والدي كيف كان يُبدي تأثره عند مشاهدته لأي فيلم يتحدث عن معاناة القضية الفلسطينية، وأذكر كيف كان يربط بين مشاهد فيلم "الرسالة"  على سبيل المثال و المعاناة التي عاشها في ظل المآسي التي ما زالت عالقة في ذاكرته عن التعذيب والقتل والتهجير والاضطهاد، كنت أراقبه وعيناه تدمعان بصمت، ثم أسأله بعد ذلك فيجيب: "تذكرت حالنا أيام البلاد" !!

  هذه هي الدهشة التي تحدث عنها أنتوني كوين، بأن نرى أنفسنا في شخصية معينة في الفيلم، أو أن نتفاعل مع الفيلم وكأننا نعيشه، وهذا هو الدور الذي يفترض أن يلعبه الفن في حياتنا عموماً والسينما خاصة، وهذا ما أفتقده أنا شخصياً
في السنوات الأخيرة، حيث غابت الدهشة وغاب الابهار عن الافلام السينمائية ولم تعد تعرض ما يبهرني او يشد انتباهي لا لشيء سوى أن حياتنا اليومية التي نعيشها باتت مليئة بالابهار والدهشة، بالانكسار وبالخوف، ولا تخلو من الكوميديا السوداء أيضاً.

   أذكر أني كنت حريصاً على تجنيب أبنائي مشاهدة الأفلام التي تحتوي على الكثير من العنف والقتل ومشاهد الدماء، ولكني وجدت نفسي لا أكترث لذلك مؤخراً، لسهولة اقناعهم بأن هذا مجرد تمثيل أو خداع سينمائي، ولكني صرت أكثر حرصاً على عدم متابعتهم لنشرات الأخبار، وصرت قلقاً من الأسئلة التي يمكن أن يطرحها ابني البكر من خلال متابعته لمواقع التواصل الاجتماعي، ماذا سأجيبه يا ترى ومن أين سأجد له مبررات لدوامة العنف التي نعيشها !!

   السينما برأيي باتت بحاجة الى ثورة وطفرة جديدة كي تستطيع أن تُدهشنا من جديد، وتجذبنا اليها، أو ربما تكون بحاجة للتركيز على أحلامنا الضائعة وحقوقنا المفقودة، كما قال أنتوني كوين، أعتقد أننا جميعا نصبو الى رؤية أحلامنا تتحقق حتى لو كان ذلك مجرد فيلم سينمائي، قد يكون هذا مُدهشا حقاً !

  كم أتوق الآن لمشاهدة المشهد الأخير من فيلم " Papillon  " ورؤية ستيف ماكوين وهو يقفز من أعلى الجبل باتجاه البحر محققاً حلم الحرية الذي أمضى سنين عمره وهو متمسكٌ به، متشبثٌ بالأمل في تحقيقه ولو بعد حين، فالحريه هي اخر وأفضل أمل على ظهر الارض، كما قال ابراهام لينكولن.


أيمن أبولبن
25-3-2014




الثلاثاء، 25 مارس 2014

الدقامسة ليس بطلاً ولكنه ضحية



   لو تجرّدنا من مشاعرنا الخاصة تجاه الصراع العربي الاسرائيلي ، وبحثنا في حادثة الباقورة بتجرّد لخلصنا الى نتيجة مفادها أن ما قام به الجندي الدقامسة لا يمكن تصنيفه من ضمن أدوار البطولة، فاطلاقُ النار على فتيات مدنيّات ليس من شيم الأبطال المغاوير وليس من شيمنا كعرب ولا من صفاتنا كمسلمين، ولكن الباحث في خلفيّات القضية لا بد وأن يقف على مجموعة من الاعتبارات والظروف المحيطة في الجريمة والتي تشير الى أن الدقامسة وان لم يكن بطلاً فانه وقع ضحيةً لهذه الظروف .

   الدقامسة كان ضحيةً للنظام السياسي في البلاد وضحيةً للنظام الديمقراطي المُوجّه، الذي أفرز نواباً لا يمثلون الشعب حقيقةً وانما يمثلون عشائرهم ومعارفهم ، هؤلاء النواب أجازوا تمرير معاهدة السلام التي رفضها وما زال أغلبية الشعب الأردني ، معاهدة السلام هذه مهّدت الظروف للتطبيع مع اسرائيل بل وفرضته على ارادة الشعب ، وكان الدقامسة أول ضحايا اتفاق السلام غير المتوازن.

   الدقامسة الذي يحمل على ساعده وشم فلسطين ،ويحمل في ذاكرته ما تعلّمه من حب الوطن ، تكوّنت لديه قناعة بأن من أغتصب الأوطان لا  يصلح الا أن يكون عدواً ونداً في المعركة وليس صديقاَ أو زائراَ مُكرّماَ ، وعندما التحق بالجيش كان هدفه أن يحمي الأوطان وأن يبذل روحه للذود عن حماه ، شاءت الأقدار أن تنتقل وحدته العسكرية الى أراضي الباقورة التي عادت الى الأردن بموجب اتفاقية السلام ، وعلى خط المواجهة مع العدو القديم -الصديق الحالي، لم يكتف القدر بهذا التناقض ، بل ان حظه العاثر وضعه في اختبار صعب في كيفية التعامل مع الغطرسة الاسرائيلية الصهيونية وجهاً لوجه ، بعد أن تعرّض لأقسى اختبارات التحمّل ، الا وهي السخرية من شعائره الدينية.  
   في خضم تجردنا وبحثنا عن الحقيقة علينا أن لا ننسى أن الفتيات الاسرائيليات جعلنَ من هذا الجندي البسيط أضحوكة ، ومن صلاته مصدر سخرية واستهزاء ، ولكن أحداً لم يوجه أصابع الاتهام الى الضيف الذي أهان مُضيفه!!

الدقامسة وقع ضحية دولة تحاكم شعبها ولا تملك الارادة لمحاكمة جلاديها ، وفي هذا مُخالفةٌ لنواميس الكون ولتعاليم الأديان السماوية كافة ، هذا اخلالٌ واضح في مبدأ العدل وتعميمه على الناس كافة .
يقول الله تعالى " وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل" ، ويقول أيضاً " وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ" فان حققنا العدل في جانب وأخفقنا في تحقيقه في الجانب الآخر ، اختل ميزان العدل ،

  على النقيض تماماً نرى أن العدو الاسرائيلي حريصٌ كل الحرص على أبناء جلدته فالجندي الاسرائيلي-أو لنقل المواطن الاسرائيلي- محميٌ باسم القانون ما دامت الضحية غير يهودية ، وكل ما عدا ذلك فهو مباح !!

المطالبة بالافراج عن الدقامسة تستند الى أسباب قانونية كثيرة ، صحيح أن موجة المطالبات الشعبية الأخيرة اعتمدت على العاطفة ، ويمكن اعتبارها "فزعة" لمقتل القاضي زعيتر ، ولكن بالرجوع الى أهل الاختصاص يتبين لنا أن الدقامسة قد أنهى مدة الحكم منذ عامين ، ولا أحد يجرؤ على الخوض في هذا الحديث ، بل أنه من الواضح أن القرار الذي اتخده "السيستم" يقضي بأن لا يرى الدقامسة النور ، وأن يخرج من السجن الى قبره مباشرة ،

   الحكم المؤبد الذي ناله الدقامسة ينص على امضاء 20 عاماً في السجن ، والقانون الجنائي في البلاد ينص على أن المدة القانونية للعام الواحد يتم احتسابها على أساس 9 أشهر وليس 12 شهراً ، وبحسبة بسيطة تكون المحكومية في حالة الدقامسة هي 15 عاماً ، وها هو يدخل عامه الثامن عشر !! ليس هذا فحسب ، بل ان القانون يجيز اكمال المحكومية في مكان اقامة المحكوم اذا توافرت أسباب موجبة لذلك منها الحالة الصحية على سبيل المثال،

بعيداً عن البعد القانوني للمسألة ، هناك رسالة واضحة من جميع المُطالبين بالحرية للدقامسة الى العدو الصهيوني مفادها أننا سنعاملكم بالمثل ، ان انتصرتم لضحايانا انتصرنا لضحاياكم ، والا فاننا سنعامل مُجرمينا كما تعاملوا مُجرميكم . الحرية للدقامسة ليس لأنه بطل ولكن لأنه ضحيةٌ يُشبهنا ، ولأن ما فعله كان من الممكن أن أقوم به أنا أو أنت أو أي مواطن غلبان آخر .

أيمن أبولبن
22-3-2014






الثلاثاء، 18 مارس 2014

شويّة كرامة في يوم الكرامة !

   

   تمر بنا خلال أيام ذكرى معركة الكرامة ، التي شهدت صموداً مشتركاً لقوات الجيش العربي الأردني وقوات فتح (العاصفة) أمام قوات العدو الصهيوني التي كانت تهدف الى السيطرة على الأغوار الشرقية ، أدى هذا الصمود الى دحر القوات الغازية ، واجبارها على التراجع والانسحاب تاركةً وراءها قتلاها من الجنود بعد فشل محاولاتها في سحب جثثهم ، لتكون هذه المعركة أول انتصار عسكري للجيوش العربية أمام العدو الصهيوني ، بعد هزيمتي النكبة والنكسة .

    معركة الكرامة اكتسبت اسمها من اسم القرية التي دارت بقربها المعركة ، ولكن التسمية ارتبطت في أذهاننا بمعنى الكرامة ، فأصبحت اسماً على مُسمّى ، فمعركة الكرامة جاءت لتعيد لنا الكرامة المفقودة ، وتفتح لنا باب الأمل من جديد في مقارعة العدو الغاشم والانتصار عليه رغم الفجوة الكبيرة في العدة والعتاد ، ثم لحقها انتصار أكتوبر وتدمير خط بارليف ليكون ذلك ايذاناً بقلب قواعد اللعبة وفرض اعادة ترتيب الأوراق في المنطقة بناءً على معطيات الواقع التي تقول ان ارادة الشعوب والعزيمة والاصرار على التحدي تفوق بكثير ترسانة الأسلحة الفتاكة التي يمتلكها العدو الصهيوني .

   تمر بنا ذكرى معركة الكرامة هذا العام  وفي القلب غُصّة ، وفي القلب جرحٌ نازف ، فعلى بعد كيلومترات قليلة عن قرية الكرامة ، تعرض أحد المواطنين الأردنيين من أصول فلسطينية الى اهانة وسوء معاملة واعتداء بالضرب من قبل الجنود الاسرائيليين في طريق عبوره من الحدود الأردنية الى أراضي السلطة الفلسطينية عبر معبر الكرامة ، وعندما انتصر لكرامته ولانسانيته ، متحدياً بجسده العاري غطرسة الجنود الاسرائيليين ، أردوه بوابل من الرصاص من فرط جُبنهم ، لتفارق روحه جسده الطاهر ، ولتغادر معها ما تبقى من ذكرى للكرامة في أذهاننا .

   لم يكن الاعتداء وحده السبب الوحيد في شعورنا بالامتهان و "قلّة القيمة" بل ان تعامل السلطات الاردنية والفلسطينية مع الحادثة يعكس مدى الذل والهوان الذي وصلت له دول المنطقة ، ومدى العار الذي الحقته بشعوبها ، لا يغرّنكم ما تسمعوه من تصريحات "عنترية" هنا وهناك ، أوشجب واستنكار ، أو اعتذارات  ، فلا قيمة للانسان العربي ولا لكرامته عند أنظمتنا العربية ، فما بالكم عند جنود العدو !!

   معبر الكرامة كان رمزاً للكرامة العربية ، المار من هناك لا بد وأن يمر من قُبالة نصب " الجندي المجهول " ليشدّه منظره حاملاً سلاحه رافعاً يده وشامخاً برأسه ، يشعر المار من هناك بالعزة والكبرياء ، ويستشعر تضحيات من قضوا في هذه المعركة ، ويستشعر صمود من قاتلوا وانتصروا ، وأبقوا باب الأمل مفتوحاً. لا أدري أهي مصادفة أم أنها حُرقة الهزيمة ، التي دفعت جنود الاحتلال لينفذوا جريمتهم قبل أيام قليلة من ذكرى المعركة !؟ أم هو القدر الذي يسخر من ضحاياه كما قال درويش ذات مرة !!

   معبر الكرامة أصبح منذ الآن ، رمزاً للهوان العربي ، للانكسار والهزيمة ، قامتنا لن تنهض من بعدك يا رائد ، وحالنا لن يختلف كثيراً عن جثتك الهامدة التي تركها جنود العدو تنزف دماً حتى جفت عروقها ، فالكرامة نزفت من عروقنا أيضاً وها هي تكاد تجف ، لا تقلق على من تركت خلفك ، فمن عاشر الرجال لن يقبل أن يعيش في كنف أشباه الرجال ، ولن يقبل أن يعيش بنصف حياة ، فلا تقلق ، دع هذا القلق لنا نحن ، فقد أنهيت حياتك كما يتمنى جميعنا انهاءها ، بعزة وكرامة وشموخ ، أما نحن فما زلنا نحاول أن نعيش بكرامة قبل أن نفكر كيف نموت بكرامة !!

 
  في أحد أفلام أحمد حلمي الذي يحمل عنوان "عسل أسود" يجسد فيه شخصية مواطن مصري يحمل جواز سفر أمريكي ويعود لزيارة أهله في مصر بعد غياب طويل ، فيختار أن يحضر جواز سفره المصري ظاناً أنه سيلاقي الاحترام الكافي من سلطات بلده ، كما كان يلقى الاحترام من السلطات الامريكية باعتباره مواطناً امريكياً ، وعندما يكتشف الفارق الكبير في المعاملة ، بل لنقل سوء المعاملة التي يتلقاها المواطن المصري في بلده (والمواطن العربي اجمالاً) يقرر أن يحضر جواز سفره الامريكي ويستخدمه بدلا من المصري ، وبقدرة قادر تختلف معاملته 180 درجة مما يؤدي به في النهاية الى قذف جواز سفره المصري في قاع النيل !! بالله عليكم لو كان الشهيد رائد زعيتر يحمل جنسية أمريكية أو غربية ، هل كان سيتعرض لما تعرض له ، ولو فرضنا جدلا أن ذلك قد حصل هل ستكون ردة فعل بلاده كما كانت ردة فعل الحكومة الاردنية ؟! هل بتنا بحاجة الى بضعة أوراق مختومة ومزيّنة بشعار حكومة غربية لتحسبوا حسابنا !؟

   لا نطالبكم بالكثير ، ان كنتم لا تستطيعون طرد السفير الاسرائيلي ، والغاء معاهدات السلام ، أو اطلاق سراح الجندي الدقامسة ، فعلى أقل تقدير نريد اعترافاً صريحاً من حكومة العدو بالجريمة والكف عن تلفيق التهم واطلاق الكذبات السخيفة حول ملابسات الجريمة ، نريد محاكمةً عادلة لكل الجنود الذين تورطوا في الجريمة ، اليس هذا أقل ما يمكن المطالبة به ؟! نريد أن يأتي رأس الهرم في نظام العدو ليقدم الاعتذار لأهل الضحية ، أسوة بالملك الحسين الراحل الذي قدّم تعازيه واعتذاره لضحايا الباقورة ، أتستكثرون هذا علينا !؟ نريد لجنة متابعة لشؤون المواطنين المسافرين الى الأراضي الفلسطينية لضمان تلقيهم الرعاية الكافية ، والمعاملة الانسانية الحسنة ، أليس من مسؤولياتكم رعاية حقوق مواطنيكم !؟  فان لم تقدروا على تحقيق أدنى متطلباتنا ، فعليكم أن تسدلوا الستارة السوداء على نصب الجندي المجهول ، فالأسود يليق بكم ، ولتذهبوا الى البنك الدولي وتستجدوا منه بعض الكرامة في يوم الكرامة ، على أن تصرفوا لنا كوبونات دعم "بدل كرامة" منذ اليوم وحتى يأذن المولى باستعادة كرامتنا المسلوبة.

أيمن أبولبن
15-3-2014



الاثنين، 10 مارس 2014

عيد الحب بين الخرافة وعقدة الخواجا‎

   هل تذكر أول لقاء جمع بيننا ؟

   بعد انتهاء حُمّى الفالنتاين أوما يعرف ب "عيد الحب" وتناثُر الورود الحمراء في الطرُقات بعد انتهاء فترة صلاحيتها ، دعونا نتحدث بشيء من العقل والمنطق عن هذه المناسبة التي تدق أبوابنا كل عام ، وتستحوذ على اهتمام قطاعات كبيرة من مجتمعاتنا العربية ، بعيداً عن التعصب وتبادل الاتهامات بين المؤيدين والمُعارضين للاحتفال بهذه المناسبة، كما أرجو أن لا تبدأوا بكيل الاتهامات لي قبل أن تكملوا قراءة المقال.

   خدعونا حين أسموه " عيد الحب " ، فهو في الانكليزية Valentine’s Day نسبةً الى القديس فالنتاين ، وباستخدام موقع "جوجل" للبحث عن القديس فالنتاين ، بالامكان ايجاد العديد من القصص التي يكاد بعضها يصل الى درجة الخُرافة أو الأسطورة ، التي تفتقد الى التوثيق في مُعظمها ، أستخدمت جميعها لتوثيق حادثة اعدام القديس فالنتاين يوم 14 فبراير ، ومن هنا جاءت المُناسبة.

   لسنا هنا بصدد مناقشة أصل التسمية ، ولكني فقط أود الاشارة الى ضرورة الفصل بين الذكرى الأصلية التي يقوم الغرب بتخليدها في هذا اليوم ، وبين ما أبتدعه البعض باطلاق اسم عيد الحب أو عيد العُشّاق على هذه المناسبة كي تتلاءم مع مجتمعاتنا العربية ، بالرغم من أنه لا يمت للحب بصلة ، ولا يمت لمجتمعاتنا العربية بأي صلة كذلك. محاولة ربط هذه المناسبة بالتعبير عن الحب أو عن مشاعرنا تجاه من نحب ، محاولة يشوبها العديد من الاسقاطات غير المبررة ، ناهيك عن أن جميع الرموز والرسومات التي يتم استخدامها في هذه المناسبة ترمزُ الى " كيوبيد " آله الحب لدى الرومان ، فالمناسبة مُرتبطة بواقعة رومانية قديمة تم تجميلها ومحاولة اضفاء لمسة شاعرية عليها وتحميلها ما لا تحتمل ، وبآلهة كانت تُعبد في قديم الزمان ، فما علاقتنا نحنُ في هذا كلّه ؟!.

  لا شك بأن الحب جزءٌ لا يتجزأ من حياتنا البشرية ، فالحب هو فاكهة هذه الحياة ، وتاريخ البشرية بدأ بعلاقة حب جمعت بين آدم و حواء ، لا يمكن أبداً تصوّر هذا العالم بدون حب ، ولا يوجد عاقل ٌ يُنكر أهمية الحب والعواطف لنا كبشر ، كما ان جميع الأديان دعت الى الحب والمودة والرحمة ، فالسيد المسيح هو رمز للمحبة والرحمة والتسامح ، وسيدنا محمد هو أكثر الأنبياء الذين ورد عنهم وصايا بنشر المحبة بين البشر ، والحرص على تغليف الجو الأسري بالمحبة والمشاعر الايجابية ، بل ان حبّه للسيدة عائشة كان مصدر الهام لجميع المسلمين في كيفية التعبير عن مشاعرهم ، وتبادل العواطف مع شركائهم دون الاحساس بالخجل أو الشعور بأي حرج .

   محاولة حصر الحب أو التعبير عنه في هذه المناسبة بالذات غير مُبررة على الاطلاق ، ووجهة النظر التي تقول أن من لا يحتفل بهذه المناسبة لا يعترف بالحب ودوره في المجتمع ، فيها تجنّي كبير وقصر نظر ، وهذا ينطبق أيضاً على الشعور السائد بأن كل من يحتفل بهذه المناسبة هو مثال للمُحب المُخلص !

   اذا كان بالفعل مُرادنا ومقصدنا هو الاحتفال بالحب وتكريس مناسبة ما لاظهار امتناننا وحبّنا لأقرب الأشخاص الى قلوبنا ، فالمناسبات كُثُر ، منها على سبيل المثال أعياد ميلادنا ، ذكرى الزواج أو الارتباط بمن نحب ، فهذه المناسبات تُعطينا فرصةً لتبادل الهدايا والبطاقات والتعبير عن المشاعر ، واضعين بعين الاعتبار أن الحب لا يحتاج الى مناسبة بعينها لتكريسه وتخليد ذكراه .

     واذا كان لا بد من مناسبة عامة أو احتفالية عامة للمجتمع ، فلماذا لا نبحث في تاريخنا الممتد الى آلاف السنين عن مناسبة تخصنا ومرتبطة بثقافتنا بحيث نُكرّسها للحب ، فمجتمعاتنا الشرقية وأصولنا العربية والاسلامية زاخرةٌ وحافلةٌ بالعديد من الروايات والأحداث المرتبطة بالحب ، لماذا نحاول أن نقلّد الغرب بمناسباته واحتفالاته الخاصة ؟! لماذا لا نحافظ على هويتنا الثقافية ، أم أن هذا مرتبطٌ بعُقدة الخواجا المُزمنة ؟!

   مناسبة عيد الحب تحولت الى وسيلة للتبذير والتظاهر في مجتمعاتنا ، هل يُعقل أن نشتري الوردة الحمراء بثلاثة أضعاف
 سعرها للاحتفال بهذا اليوم ؟! هل يُعقل أن تُنفق الدول العربية وخاصة دول الخليج ملايين الدولارات في يوم واحد لتكريس ذكرى القديس فالنتاين ؟! هل يعقل أن يحدث هذا في الوقت الذي يموت فيه الناس جوعاً في بلادنا ؟! أعتقد جازماً أننا لو زرنا عاصمةً اوروبية في هذا اليوم لما وجدنا مظاهر الاحتفالات والبذخ التي نشهدها في العواصم العربية.

  
   في النهاية تبقى مسألة الاحتفال من عدمه بهذه المناسبة هي قرارٌ شخصي ، من واجبنا توضيح السلبيات المرتبطة بهذه المناسبة ، ولكل فرد حرية الاقتناع بهذا الكلام أو ردّه ، ولكن المهم هو عدم تبادل التهم بين هذا الطرف وذاك ، فهذا الأمر لا يعدو كونه حرية شخصية ، ولا ينبغي أن يتحول الخلاف في الرأي الى عداءات واتهامات متبادلة ، ولكن دعونا على الأقل نبتعد عن السلبيات المُرافقة لهذه الاحتفالية ، سواءً من حيث الاصرار على شراء الوردة الحمراء بعينها رغم استغلال التجّار الواضح ، أو الاسراف والمبالغة في الاحتفالات الى آخر ما ذكرناه آنفاً.
    
 وأخيراً و بمناسبة الحديث عن الذكريات ، وعن الحب ، هل تذكر تاريخ أول لقاء جمعكَ بمن تُحب ؟ أول يوم للتعارف ؟ النظرة الأولى التي برقت فيها عينُ الحبيب ؟ ماذا عن اليوم الذي عبّرت فيه عن مشاعرك واعترفتَ لشريكك بالحب ؟ هل تذكر الهدية الأولى التي قدّمتها ؟ أعتقد أن كل هذه المناسبات آنفة الذكر أحقُّ أن تحتفل بها من ذكرى فالنتاين ، ألا تتفق معي ؟


أيمن أبولبن
21-2-2014

رابط المقال على موقع القدس العربي


Ayman_abulaban@yahoo.com