الاثنين، 24 ديسمبر 2018

حمزة نمرة "شيخ إمام" هذا الجيل





كانت هناك العديد من المبادرات الشبابية الثقافية والفنية التي ترافقت مع ثورة يناير وانطلاقة الثورات العربية، وكانت هناك ظاهرة عامة تتجلّى في سعي الشباب نحو الحرية واستقلالية التمثيل واتخاذ القرارات، وتم عكس هذه الظاهرة من خلال تقديم أعمال فنية تمثل فئة الشباب وتعبر عن تجربتهم، لذا تكرّرت مصطلحات شبابية عديدة، أصبحت فيما بعد لازمة إعلامية او إخبارية (شباب الثورة، مطرب الشباب، فنان الثورة ...الخ).
كانت تلك الفترة بداية انطلاقة المطرب والموسيقار الشاب "حمزة نمرة"، والحقيقة أني لم أعطه القدر الكافي من الاهتمام والمتابعة حينها نتيجة اكتظاظ المشهد الإعلامي، وكثافة الأحداث وعظم شأنها.
ولعل بساطة الكلمات والأداء (في الأغاني التي سنحت لي الفرصة لاستماعها وقتها) لم تجذب انتباهي كثيرا الى موهبة هذا المطرب الشاب.
وقد نالت اغنيته (احلم معايا) شهرة واسعة في ميدان التحرير، ومنه إلى باقي المدن المصرية والعواصم العربية، وأصبحت رمزاً للثورة المصرية "الشبابية"، والتتر المرافق للمظاهرات الشعبية، أو الترنيمة المرافقة للهتافات الشبابية.
ومع ازدياد انتشار أغانيه خصوصا بعد الانقلاب على الثورة ورموزها وأهدافها، زاد اهتمامي ومتابعتي لأعماله الفنية، ولكن هذا ترافق مع الأسف مع انسحابه من الساحة الفنيّة نتيجة المضايقات التي مورست عليه في مصر، مما اضطره في النهاية الى مغادرة مصر والهجرة الى أوروبا عام 2015، ثم انقطاعه عن تقديم أغان جديدة لغاية هذا العام.

ولكن عودة حمزة نمرة كانت من الباب الكبير، حيث استضافه الإعلامي المبدع يسري فودة على قناة دويتشه فيلا DW في بداية هذا العام، قبل أشهر قليلة من إصدار ألبومه الجديد، وقد ساهم هذا اللقاء وروعة الأغاني التي قدمها في اللقاء، على زيادة الاهتمام بألبومه القادم.

خلال متابعتي لهذا اللقاء، أعدت اكتشاف أغانيه وموهبته الموسيقية، وكم راق لي الفن الذي يقدمه والمعاني السامية التي تكمن وراء كلمات أغانيه والقيم الإنسانية التي يتناولها، بالإضافة إلى جمال موسيقاه وألحانه وما فيها من الرقي والابداع الفني والإحساس العالي، وهذا كله يستحق الإشادة والتشجيع بلا شك.

عن حمزة نمرة أكتب اليوم، ذلك الشاب الثائر الذي اتخذ من الفن وسيلة للدعوة إلى حق المواطن العربي في العيش حرا كريما، متمتعا بحقوقه في ممارسة حرية الرأي والتعبير، والتي يكفلها ميثاق حقوق الانسان وكافة الدساتير.
في أغانيه وأعماله، أشعر بتلك الآه التي تجتاح صدري حينما أفكر في أحوال عالمنا العربي بالغة السوء، وفي أغانيه أيضاً أحلق في فضاء الحرية ويتعمق شعوري بضرورة الاستمرار في الدعوة الى التغيير، الى أن تتحقق جميع مطالب الشعوب العربية المستحقة.
في أغانيه، أحن الى الوطن وإلى حضن امي وذكرى أبي، وتعود بي الذكريات الى زمن الطفولة والعائلة الصغيرة، وشقاوة أولاد الحي، وبالكاد أحبس دموعي وانا استمع إلى أغنية (تسمحيلي يامّه من وقتك شوي).


من الملفت في مسيرة حمزة، اهتمامه بالفلكلور الشعبي العربي وإعادة تقديمه الأغاني الخالدة بأسلوب جديد مستخدما الآلات الموسيقية الحديثة مع الإبقاء على رقي تلك الأغاني ومستواها الفني، وقد قدّم أغان عديدة من الشرق العربي والشمال الافريقي، ولكن اهتمامه كان واضحا في التراث الفلسطيني وأغانيه الشعبية والوطنية، وقد قدّم تلك الأغاني بأسلوب جميل ورائع، وكان أداؤه لافتاً في أداء أغاني (يا ظريف الطول) و (يا يمّه في دقة على بابنا) (يمّا مويل الهوى).



إبداع حمزة نمرة يعيدنا الى تاريخ الفن العربي الجميل وبالتحديد الى أعمال سيد درويش، والشيخ إمام وتوأمه الشاعر أحمد فؤاد نجم، لذا ليس من الغريب تشبيه أعماله بأعمال المبدع الشيخ إمام، وتلقيبه بشيخ إمام هذا الجيل.
قد لا يروق هذه الكلام للبعض من باب علوّ قامة الشيخ إمام وسيد درويش الفنية، ولكن الحقيقة أننا كبشر نميل الى تقديس الماضي على حساب الحاضر، وهذا يؤثر على رؤيتنا لجمالية الأشياء التي نعايشها على حساب استجرار الذكريات والعيش على أطلال الماضي الجميل.
في كل زمان نعيشه، هناك مواهب حقيقية تستحق الإشادة والاستمتاع بها، كما تستحق أن نعطيها حقها وقدرها من الثناء والتشجيع، ولكن المفارقة، أننا نكرّم الفنان بعد رحيله، وحينها فقط ندرك حجم موهبته وتفرّده، ثم نبدأ بتخليد ذكره والبكاء على أطلاله، بينما أثناء حياته نهمله، بل نهاجمه ونحدّ من إبداعه في كثير من الأحيان.
وهذا الظلم يتضاعف، عندما تقوم أنظمتنا العربية مع كل أسف، بقمع الموهوبين من شاكلة حمزة نمرة، ومحاصرتهم بدلاً من تشجعيهم وتبنّي تجاربهم الفنية والأدبية.
سياسة تكميم الأفواه، وقمع كل صوت يغرّد خارج سرب النظام، ومحاصرته وتقييد حريته، أصبحت السمة الغالبة في معظم بلادنا العربية، وهذه السياسة لا تفرّق بين معارض سياسي وحزبي أو صحافي او فنان وأديب، كلهم في النهاية يتعرضون للتغييب القسري والتعتيم الإعلامي والتصفية المعنوية.

من المؤسف ان ترى هذه المواهب وهي تهاجر بعيداً عن أوطانها نتيجة سياسات القمع والملاحقات الأمنية، ومن المؤسف أيضاً، أن ترى هؤلاء المبدعين من الشباب وهم يبدعون في بلاد الغرب، ذات البلاد التي نلعنها كل يوم بسبب سياساتها في المنطقة، ولكنها في النهاية، الوحيدة في العالم التي تمنح أبناءنا مساحة الحرية الكافية للإبداع والتعبير وتمنحهم حق الحماية الدستورية للاختلاف مع الأنظمة ونقد المسؤولين.

حمزة نمرة يقيم حاليا في أوروبا، ولا يجد سوى قناة (التلفزيون العربي) التي تبث من لندن للتعاون معها وتقديم أعماله الفنيّة، وقد اضطر الى إنتاج ألبومه الأخير بتمويل شخصي، نتيجة غياب الدعم وحالة الحصار الثقافي التي يعيشها هو وجميع أصحاب المواهب الحقيقية الذين قرّروا أن يعبّروا عن آرائهم بحرية، دون قيود ودون توجيه.

موهبة حمزة نمرة الحقيقية تكمن في موسيقاه، فهو ليس مجرد مطرب او مؤدي للأغاني، بل إن معظم أغانيه من تلحينه، وعلى سبيل المثال فقد قام بتلحين جميع أغاني ألبومه الأخير (حطير من تاني 2018) باستثناء أغنية وحيدة، وهذا ما يجعل منه موهبة موسيقية قادرة على الارتقاء بالفن من جهة، وايصال هذا الفن الراقي الى فئة الشباب بشكل عصري قريب من القلوب، إضافة الى تقديم رسالة إنسانية من خلال هذا الفن وتطويع الموسيقى والألحان لخدمة تلك الرسالة.

من أغانيه الجديدة المفضلة لدي، أغنية (داري يا قلبي) وهي من ألحانه، ومن أكثر الأغاني العربية رواجاً على موقع اليوتيوب لهذا العام، وتقول كلماتها:

خايف تتكلم ليه .......في عيونك حيرة وحكاوي كتيرة
متغير ياما عن زمان، قافل على قلبك البيبان
حبيت وفارقت كام مكان، عايش جواك
إحساسك كل يوم يقل، وتخطي وخطوتك تزل
من كتر ما أحبطوك تملّ فين تلقى دواك
بتودع حلم كل يوم، تستفرد بيك الهموم
وكله كوم والغربة كوم والجرح كبير

نحن في أشد الحاجة اليوم، إلى هذه المواهب الحقيقية في عالمنا العربي، وأرجو ان أعيش اليوم الذي تعود فيه تلك الطيور المهاجرة لتنعم بالتكريم والاشادة في بلدانها، وتخدم مجتمعاتها وتنال ما تستحقه من عيش كريم دون تضييق على الحريات أو قمع للإبداع.

أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن

23-12-2018

الثلاثاء، 18 ديسمبر 2018

"الدوّار الرابع" وتجريب المُجرّب!



عادت الاعتصامات الى محيط الدوّار الرابع بعد أقل من ستة شهور على الاعتصامات السابقة التي جاءت برئيس الحكومة الحالية (د عمر الرزاز) وإقالة حكومة د هاني الملقي.
الإحباط هو الشعور الذي يتملّك قلوب الأردنيين بعد فترة وجيزة من تشكيل الحكومة الجديدة، وأدى إلى عودة الاعتصامات والمظاهرات، وتكرار ذات المطالب، لا سيما أن سقف التوقعات كان مرتفعاً هذه المرة.

من خلال متابعة ما يجري في الميادين، وكذلك لقاءات دولة الرئيس مع الناشطين والمؤثرين مؤخراً، ومع احترامي لكل تلك المشاعر والمطالب المستحقة، إلا أنها جميعها لا تعدو أن تكون سطحية ولا تعالج سوى قشور الأزمة.
الإعفاء العام، إطلاق سراح المعتقلين، سحب قانون الجرائم الالكترونية، رفض قانون الضريبة، محاسبة الفاسدين، معالجة الوضع المعيشي الصعب، أو تنحّي الحكومة، وماذا بعد!
أعلم جيداً أن الحكومة الحالية منزوعة الصلاحيات ويشوبها التقصير، بل إن تشكيلتها لم تختلف عن النهج المتبع للحكومات السابقة مع حرصها أيضاً على التوافقات مع الدولة العميقة، ولكني أعلم أيضاً أن بعض الأصوات التي تتوجه لها بالنقد والتجريح لن تكون أفضل حالاً لو تولّت زمام المسؤولية وجلست على كرسي الوزارة، وهؤلاء المنتقدون يعلمون ذلك جيدا، ولكن في النهاية، يبقى الانتقاد ورمي سهام التقصير هو أسهل ما يمكن عمله!

لقد تكرّرت مطالبات الشعب الأردني في السنوات الأخيرة، بعزل الحكومات وتحميلها مسؤولية تدهور أحوال البلاد، بدءاً من المطالبة بعزل النسور، تلا ذلك المطالبة بعزل الملقي، وها نحن الآن نطالب باستقالة الرزاز، فهل ما زلنا نأمل أن تحصل المعجزة، بتعديل حكومي آخر؟!

هناك ثلاثة أنواع من العلاجات التي يعرضها الأطباء لمرضاهم، النوع الأول هو الوصفة الجاهزة، والتي تعالج نسبة كبيرة من الأمراض الشائعة ولا تستدعي أية فحوصات أو تحليلات أو متابعة بعد العلاج.
النوع الثاني هو الاهتمام بعلاج الأعراض الملازمة للمرض للتخفيف عن المريض، أما النوع الثالث فهو طويل الأمد، ويعتمد على التحليل والفحص الدقيق للوصول إلى سبب المرض ثم علاجه، لذا فهو يتطلب جهدا طويلا ومعاناة أطول.
وبالتالي، فإننا نستسهل النوعين الأول والثاني من العلاجات، لأنها لا تحتاج إلى جهد أو فحص وتمحيص، وهذا ما ينطبق على حالنا اليوم، فنحن في الأردن ما زلنا نلهث (مسؤولين ومواطنين) وراء الوصفات الجاهزة وعلاج الأعراض وليس علاج المشكلة.

بالعودة الى الحراك الأردني عام 2012 والمرافق لأحداث الربيع العربي، وباستعراض المطالب التي أصرّ المتظاهرون في جميع مدن ومحافظات المملكة، على تحقيقها، نجد أنها كانت تشير إلى وعي وإدراك سياسي عالي بحجم المشكلة وأسبابها، فكانت المطالب واقعية وجريئة وتعالج أزمات البلد الحقيقية، حيث ركّزت على إعادة صياغة الدستور والتأكيد على مؤسّسية العمل الحزبي الذي يُفضي إلى تشكيل حكومات منتخبة بما يعني إعادة الولاية العامة الى الشعب مُمثلاًّ بالسلطتين (التنفيذية والتشريعية)، مع تفعيل دور مؤسسات الرقابة، والمؤسسات الأهلية والمدنية.
وهذا يتطلب بالضرورة قانون انتخابات عصري مُنصف بعيداً عن العشائرية وقانون الصوت الواحد.
ولكن ما الذي حصل آنذاك، مجموعة من الوعود الإصلاحية التي لم تنفذ بالكامل والإجراءات الهامشية التي لا تمس الأزمات الحقيقية، وقانون انتخابات شبيه بالصوت الواحد تمّت صياغته بحرفيّة عالية لوأد تشكيل قوى برلمانية ذات وزن في الحياة السياسية، مما أفرز في النهاية مجلس نواب غير قادر على أداء دوره التشريعي، وغير قادر على أداء دوره الرقابي ومحاسبة الحكومة، فما بالك بقدرته على تشكيل حكومة!

إن التعامي عن أسباب مشاكل البلد وسبب مرضها، أو عدم الجرأة في تلبية مطالب الإصلاح الحقيقية، لن يضر سوى بالشعب الأردني وسيطيل مدة صراعه مع المرض، وستعاود عجلة الوقت دورانها، دون تقدم حقيقي ولا تغيير جذري، فطالما لم تملك السلطة التنفيذية الولاية العامة وحرية اتخاذ القرارات بل وإعادة صياغة الاستراتيجيات العليا للبلد، واتخاذ حزمة من الإجراءات الإصلاحية للخروج من عباءة البنك الدولي وصندوق النقد ومظلة الديون الخارجية فلن يكون هناك أي تحسّن اقتصادي ملموس، وستبقى عجلة التقشف الاقتصادي تدهس أحلامنا وتطلعاتنا، وسيستمر الفساد في التفشي، مع تناقص مطرّد في القدرة على احتوائه، بينما نستمر نحن في التحدث عن الإصلاح وتحسين أحوال البلد!

إذا أردنا التغيير الحقيقي، فعلينا الانتقال من نقد الأفراد الى نقد السياسات ومن نقد القرارات الى نقد الدستور والقوانين التي تحدد الصلاحيات والمسؤوليات، ومن لعن الظروف الاقتصادية والمعيشية الى تحليل التوجهات الاقتصادية والسياسية العليا.
ومن هنا أقول، إن تغيير الحكومة لن يفيد بشيء وتجريب المُجرّب خطيئة، ولكن التحدّي الحقيقي، يكمن في كسر عقدة الخوف من المساس بالدستور أو النظام المؤسساتي القائم، والعمل على تفسير القوانين المعمول بها، وتحديد مسؤولية كل مؤسسة أو سلطة في الدولة.

باختصار، ما نريده في الأردن، هو ملكية دستورية تكون فيها مؤسسة العرش الضامن لتناغم مؤسسات الدولة المختلفة، وضمان قيام كل جهة بواجباتها دون تجاوز لصلاحياتها، والبداية تكون بانتقال الولاية العامة للشعب لتشكيل السلطات التنفيذية والتشريعية ومزاولة شؤون الحكم والمراقبة والمحاسبة والتشريع.
وهذا يتطلب أيضاً أن تنضوي الأجهزة الأمنية تحت لواء وزير دفاع يأتمر بدوره بأوامر وتوجيهات رئاسة الوزراء، وهكذا يتحمل الشعب المسؤوليات الكاملة عن إدارة شؤون البلد، ويصبح مصدراً للسلطات عملياً وليس فقط بنص الدستور.

قبل ستة شهور نزلنا الى الشوارع، وصرخنا بأعلى صوتنا (ما معناش)، فتم اعطاؤنا خافض للحرارة ومسكّن موضعي للألم، وأثناء فترة السكون تلك، تم تمرير قانون الضريبة، وتقديم قانون الجرائم الالكترونية للبرلمان، وأخشى ما أخشاه، أن تؤول المظاهرات الشعبية الحالية وهتافات الحناجر المشحونة بالغضب، وعبرات المواطنين وأنّات الفقراء ودموع البسطاء، إلى الاكتفاء بنزول زيد عن الكرسي واعتلاء عبيد!

أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن

17-12-2018

الاثنين، 10 ديسمبر 2018

إرث جورج بوش الأب من عقدة الوهن الى جريمة العصر!



يتكرر الجدل غالباً بعد رحيل إحدى الشخصيات السياسية العالمية، حول الإرث التاريخي لتلك الشخصية، ويتفاوت المقال عادة بين مؤيد للنهج مادح للنتائج، وبين مُعارض للسياسات وناقد للعقيدة السياسية.
جورج بوش الأب لم يكن استثناءً لهذا الجدل، فقد انقسمت الآراء بعد اعلان نبأ وفاته، بين من يرى انه كان جندياً شجاعاً ورئيساً "لطيفاً" خدم رؤية بلاده السياسية وساعد على نشر الديمقراطية في العالم. وبين من يرى أنه قد ساهم في تشكيل سياسة أمريكية متطرفة تتخذ من القوة أداة رئيسية لتنفيذ أجندات لوبيات الشركات العملاقة ورجال الأعمال.
ونظراً لما شهدته وسائل الاعلام الدولية والعربية من تغطية واسعة للسجل الشرفي والإنجازات التاريخية لبوش الأب، فإني أود ان ألقي الضوء على ما عاصرته من أحداث في ولاية بوش الأب، وما اتسع لي المجال من الاطلاع عليه بعد ذلك، رغبة مني في تشكيل الصورة الكاملة عنه أمام القارئ.

عُقدة الوهن عند بوش

عُرف عن جورج بوش تردّده وبلادته إن صح التعبير خلال فترة نيابته لرونالد ريغان، وحين قفز الى كرسي الرئاسة عام 1989 كان التحدي الأكبر أمامه محو تلك الصورة التي وصم بها من خلال الإعلام، خصوصاً بعد تداول مصطلح (عقدة الوهن عند بوش the Bush wimp factor).
ومع أول اختبار للقوة، تجاوز بوش كل الديبلوماسيات وشعارات (نريد أمريكا لطيفة) ليأمر بغزو دولة "بنما" الضعيفة بحجة إرساء الديمقراطية والتخلص من الطاغية الحاكم (نورييغا).

نورييغا لم يكن سوى أحد الطغاة الذين تحبهم الإدارة الأمريكية، لأنهم وحدهم قادرون على قمع اليساريين ووقف المد الشيوعي دون أدنى التفات لحقوق الانسان أو مبادئ الديمقراطية والحريات (ذات الشعارات الأمريكية)، وبسبب فسادهم وإجرامهم فإنهم يصبحون ألعوبة في أيدي المخابرات الأمريكية ويكونون أول من ينصاع ويخضع للسياسة الأمريكية، في مقابل حصولهم على الحماية وغض الطرف عن طغيانهم.

كل ما فعلته "بنما" أنها تحدّت اللوبي الحاكم في أمريكا (حفنة من السياسيين ومدراء الشركات) حينما أصرّت على حقها في بناء قناة جديده بالتعاون مع شركات يابانية، وهو ما يعتبر مساساً للقيمة الاستراتيجية العليا لقناة بنما والتي تشرف عليها شركات أمريكية.

غزو "بنما" حسب مجموعات حقوق الانسان أسفر عن مقتل ثلاثة الى خمسة آلاف بالإضافة الى تشريد نحو ربع مليون شخص، وقد أُعتقل (نورييغا) ومَثُل أمام محاكم الدولة الغازية، وحُكم عليه بالسجن أربعين سنة، تنقّل خلالها بين سجون أمريكا وفرنسا ثم "بنما"، قبل أن يلاقي حتفه عام 2017.

غزو العراق

بعد أقل من عام على غزو "بنما"، ورّط صدام حسين بلاده في غزو الجارة الكويت، وسرعان ما أمر جورج بوش الأب بتشكيل تحالف دولي لتحرير الكويت بعد أن صدر قرار مؤيد لذلك من مجلس الأمن بتأييد عربي.

لم يكن الأمر العسكري مستبعداً أو غريباً، ولكن الملفت أن تقوم أقوى دولة في العالم بإرسال نصف مليون جندي مع قوة "خارقة" جوية وبحرية لاستهداف وتدمير البنية التحتية للعراق بل وإعادته الى عصور الظلام، وتعمّد قصف المدن والمدنيين واختبار كل الأسلحة المحظورة والمحرّمة دوليا في تلك الحرب.
باختصار كانت العراق حقل تجارب حقيقي، غير أن هذه المرة كانت التجارب تجري على البشر والأحياء السكنية مباشرة!

حرب الخليج الثانية أو عاصفة الصحراء كانت أضخم حرب عسكرية يشهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية، استخدمت فيها قذائف اليورانيوم والقنابل العنقودية وكل ما تحتويه مخازن الولايات المتحدة من أسلحة محرمة دوليا، وما زالت الآثار الاشعاعية ومخلفات القنابل شاهدة على تلك الحرب.
لقد دُمّرت البلد ونُهبت ثرواتها وهوى التعليم فيها من أعلى السلم العربي الى الحضيض.

للأسف، لا يوجد احصائيات رسمية لأعداد الضحايا، ولكن المنظمات الحقوقية تشير إلى مقتل نحو ربع مليون عراقي بين مدني وعسكري.

مذبحة العصر

تُعدّ (جريمة ملجأ العامرية) إحدى أكبر الشهادات على إجرام القيادة الأمريكية، التي أعطت الأوامر لقصف أحد الملاجئ المدنية، باستخدام أكثر قنابلها فتكاً حينها، معتمدين على معلومة مخابراتية تشير الى وجود صدام حسين وكبار القادة العراقيين في هذا الملجأ، فكانت الحصيلة مقتل أربعمئة مدني، منهم أكثر من ثلاثمئة طفل وامرأة.

المفارقة بين غزو بنما وغزو العراق، أن جورج بوش عاقب صدام حسين على استخدامه القوة لحل مشكلة سياسية اقتصادية مع جارته الضعيفة "الكويت" وهو ذات الذنب الذي اقترفه جورج بوش نفسه في بنما قبل عدة أشهر فقط، حينما قرر غزوها وأسر رئيسها بل ومحاكمته أمام المحاكم الأمريكية بسبب تهديدها لمصالح الأمن القومي الأمريكي!

 انتهت المعركة ولم تنته الحرب

 فرضت الإدارة الأمريكية عن طريق مجلس الأمن حصارا اقتصاديا قاسيا على العراق بعد انتهاء المعارك، حصد الأخضر واليابس فيها وخلّف أعداداً من القتلى والجوعى والمشردين قد يفوق عددهم عدد ضحايا الحرب المباشرة.
وإذا كانت الحرب قد دمرت البنية التحتية للعراق وبشكل خاص قطاع الطاقة، فإن العقوبات الاقتصادية قد رفعت من معدلات الفقر ونسب البطالة والتضخم وأدت الى تزايد وفيات الأطفال وتفشي الأمراض وسوء التغذية.
وإذا كان تدمير البنية التحتية للعراق هو أمر غير مبرر حسب جميع المحللين والخبراء خاصة ان الهدف من الحرب كان تحرير الكويت، فإن فرض حصار اقتصادي جائر على شعب بأكمله يتعدى كونه "أمراً غير مبرر"!

التمهيد لحقبة سياسية قادمة

خسر جورج بوش في انتخابات المرحلة الثانية أمام موجة التغيير التي قادها الشاب بيل كلينتون، وخرج من الباب الصغير، ولكنه في الحقيقة أسس البنيان للإدارات الجمهورية من بعده لينتهجوا نفس المنهج، ويمارسوا نفس السياسات.
لذلك نجد أن إدارة جورج بوش الابن كانت امتداداً لإدارة بوش الاب، بعد احتفاظها بذات الأسماء والشخصيات، وقد ازدادوا نفوذاً وأصبحت علاقتهم برجال الأعمال وشركات النفط والطاقة علاقة وطيدة لا تُفكّ أواصرها، لذلك لم يكن من المستغرب ان تشهد أمريكا أثناء حكم عائلة بوش الممتد الى اثني عشر عاماً، حروبا عسكرية تهدف في المقام الأول الى خدمة رجال الأعمال وشركات الطاقة وتحقيق أهداف استعمارية على المدى البعيد.
وقد اتسمت أيضاً باستخدام القوة المفرطة وارتكاب جرائم حرب ممنهجة ومخطط لها، بدءاً من ملجأ العامرية وصولاً الى سجن غوانتانامو مرورا بسجن أبو غريب.

هذه هي حقيقة سياسة بوش العميقة، دون تجميل، والتي تتعارض مع شعارات حملته الانتخابية (من أجل أمريكا لطيفة)!
وهذا هذا هو إرث جورج بوش الأب الفاعل وصاحب الأثر الحقيقي، الذي تناساه للأسف معظم السياسيين العرب أثناء تعليقهم على وفاته.

في الختام، اكرر هنا ما قلته على صفحتي تعليقا على وفاة جورج بوش الأب، (أعتقد ان الخطيئة الكبرى لجورج بوش الأب، إضافة الى جرائم حرب العراق، كانت:
إنجابه بوش الصغير!)

أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن

9-12-2018

الثلاثاء، 27 نوفمبر 2018

احتجاجات فرنسا والسترات الصفراء






منذ أسبوع وفرنسا واقعة تحت وطأة احتجاجات شعبية واسعة عطلت الحركة في البلاد وخصوصاً في باريس
وقد أشعل ارتفاع أسعار الوقود شرارة الاحتجاجات في البداية ولكن المطالب الإصلاحية توسع مداها وشملت بعد ذلك الضرائب والبطالة والفقر وغيرها
وقد اتخذ المتظاهرون من السترات الصفراء شارة للتضامن مع المطالب الإصلاحية، لذا تم إطلاق (أصحاب السترات الصفراء) على هذه الموجة من المظاهرات.
مؤخراً تحولت المظاهرات السلمية الى أحداث عنف، ومواجهات دامية بين المتظاهرين والشرطة تخللها أعمال عنف وتحطيم لممتلكات خاصة. وتشير الأخبار الى دخول المتطرفين اليمينيين (المعارضين لماكرون) على خط الاحتجاجات وتسببهم بأحداث العنف تلك.
وكالعادة، طفت على السطح حكايات عن نظرية المؤامرة وتدخلات أجنبية أو حزبية لشيوع الفوضى في البلاد، وآخرون يتحدثون عن لعنة أصابت فرنسا بسبب تدخلاتها في المنطقة ودعمها للربيع العربي !!
كل ما هنالك، أن البلاد تمر بأزمة حقيقية، ومن حق الشعب أن يتظاهر ويطالب بإصلاحات، ومن حقه أيضاً تشكيل لجان تفاوض وحركات مدنية سواء كانت سترات صفراء أو قبعات خضراء، ومن الممكن جدا ان يركب المتطرفون موجة الاحتجاجات ويتسببون بأحداث عنف لا منهجية، ولكن الأكيد ان الشعب الواعي والذي تربى على الديمقراطية وحب الوطن الحقيقي (وليس حب المصالح الفئوية) سيكون قادراً على عبور هذه المرحلة ومعالجة الأخطاء.
ينطبق هذا على الشعب الفرنسي وكل الشعوب الواعية، بما في ذلك شعوبنا العربية أيضاً
بدلاً من التشفّي أو محاولة استشراق الدمار الذي سيحل بهذا البلد او ذاك من قبل أصحاب نظرية المؤامرة، ليتكم تتعلمون من ثقافة غيركم وتؤمنوا بان التغيير هو سنة الحياة، وأن المطالبات بالتغيير والتجديد والتعديل والإصلاح، ليست جريمة، وليست مؤامرة أيضاً!


#باريس #فرنسا #السترات_الصفراء 

أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومدون من الأردن
27-11-2018

الاثنين، 26 نوفمبر 2018

نريد إعادة خدمة العلم... ولكن!



شهدت الأعوام الأخيرة (لا سيما بعد أحداث الربيع العربي) مطالباتٍ شعبية ودعوات من النشطاء بإعادة العمل بالتجنيد الاجباري في الأردن، رافقتها تحذيرات من عدم وجود (قوات احتياط)، لا سيما مع عدم الاهتمام الكافي بما يعرف بالجيش الشعبي.
وقد تحدّث رئيس الوزراء مؤخراً عن إعادة العمل بخدمة العلم، مما أدّى إلى فتح الحوار مجدداً حول الجدوى من الخدمة في مقابل التكلفة التي ستتحملها الدولة.

إن الفكرة في حد ذاتها، كانت وما زالت مطلباً وطنياً مشروعاً بل وواجباً وطنياً، وكنت أحد الداعين إلى إعادة العمل بها منذ سنوات طويلة، ولكن ضمن مشروع وطني متكامل تتضافر فيه جهود مؤسسات الدولة جميعها، مع جهود المجتمع والمؤسسات الأهلية.
ولعل من المفيد التذكير هنا، بخطأ الفكرة القائمة على تغيير الجزئيات بدلاً من تغيير النظام ككل، ظناً أن تغيير عاملٍ رئيسي واحدٍ سيكون كفيلاً في تغيير الوضع الكلّي، كأن نقوم على سبيل المثال بنقل عائلة فقيرة من حي فقير، الى شقة فاخرة، معتقدين أننا بذلك نكون قد حللنا مشكلة الفقر لدى هذه العائلة.
ولكن الحقيقة أنه بعد بضع سنوات، ستتحول الشقة الفاخرة الى بيت فقير شاحب آخر، لا يختلف عن بيوت الأحياء الفقيرة، والسبب أننا غيّرنا العامل الخارجي فقط، بينما أبقينا على كافة أسباب المشكلة (الدخل، التأمين الصحي، التعليم، الثقافة والتربية...الخ)
فإذا كان تفكير الحكومة ينحصر في إعادة خدمة العلم بنفس النظام القديم، فإن الهدف الرئيس من خدمة العلم لن يتحقق، وستكون مجرد مغامرة جديدة على الورق!

بالعودة الى حديث رئيس الوزراء، أعجبني مصطلح (خدمة الوطن) الذي أطلقه على مشروع التجنيد الاجباري الجديد، وهي بالفعل كذلك، هي خدمة للوطن، والوطن غير محصور في المؤسسة العسكرية، وانطلاقا من هذا الفهم، يجب الوضع بالحسبان أن يتكامل هذا النظام بحيث يشمل ما يلي:

بناء ثقافة عسكرية للجيل الجديد

من أساسيات هذه المشروع العمل على تأهيل جيل الشباب ليكون مهيئاً من الناحية العسكرية والبدنية والنفسية، للقيام بواجب الدفاع عن الوطن وحماية مقدراته، لذا يجب أن ينطلق البرنامج بدورة عسكرية تدريبية، يتم من خلالها رفد المنتسبين بالمعلومات العسكرية والميدانية، وإكسابهم المهارات اللازمة واللياقة البدنية من خلال التدريبات العملية.
يتم بعدها توزيع الأفراد على الوحدات العسكرية المختلفة، بحيث تتخصص كل مجموعة في مجال معين (سلاح الطيران، المدفعية، المشاة...الخ).

الخدمة المدنية:

يلي فترة الخدمة العسكرية، توزيعُ المنتسبين الى المؤسسات الحكومية والمدنية المختلفة، كلٌ حسب تخصصه، وذلك بالتعاون مع ديوان الخدمة المدنية ووزارة العمل ومؤسسة التدريب المهني، بحيث تكون هذه الخدمة بمثابة تدريب عملي وخبرة ميدانية للمتخرجين الشباب برواتب رمزية. في المقابل تستفيد الدولة من القوى العاملة للمنتسبين.

خدمة المجتمع:


خلال فترة الخدمة المدنية، ينخرط المشتركون في برنامج تطوعي لخدمة المجتمع من خلال المؤسسات الأهلية والخيرية المختلفة، بحيث يُشترط قضاء ساعات معينة في الخدمة التطوعية مع ترك المجال للمشترك نفسه في اختيار الخدمة والمؤسسة التي يرغب في خدمتها.
وأرى من المناسب أن تمتد فترة البرنامج لمدة سنة كاملة مقسمة على شقيها العسكري والمدني.
وبهذا يكون قد حقق البرنامج (خدمة الوطن) الأهداف المرجوة منه، ويكون اسماً على مسمّى، وسيشعر المنتسب الى هذا البرنامج أنه قد خدم وطنه ومجتمعه حقيقةً، وعاد بالفائدة على نفسه أيضاً.

ولتحقيق ذلك، نأمل من الحكومة أن تقوم بإعداد خطة متكاملة تشترك فيها كافة مؤسسات الدولة والمجتمع، وأن تطرح برنامجها الوطني بهدف رفد القوات العسكرية بعنصر الشباب من جهة، وبناء قوة احتياطية عسكرية (فاعلة ومؤثرة وليست مجرد أرقام)، مع خدمة مؤسسات الدولة المدنية ورفع مستواها، يضاف الى ذلك خدمة المجتمع وتأسيس فكرة العمل التطوّعي في نفوس الشباب.

من جهة أخرى، أجد من الضروري القول ومن واقع تجربة شخصية: على القائمين على هذا المشروع أيضاً، الأخذ بالحسبان الوعي المتزايد للشباب من جيل هذا اليوم وحاجتهم الى مدربين على مستوى عال من الثقافة العسكرية مع تقديم المعلومة بطرق حديثة، وأسلوب راق.
وهذا يتطلب هدم كل النظريات القديمة القائمة على إذلال المنتسبين وإجبارهم على التخلي عن شعورهم بالعزة والكرامة بحجة صقلهم وتخريج جيل "شديد" لا يخاف العدو!
إن التربية الوطنية لا يتم اكتسابها بالذل ولا يتم تجرّعها بالمهانة والتقليل من احترام الذات، كما أن الشجاعة في الميدان لن يتم اكتسابها بأي حال من الأحوال من جرّاء جرعات التخويف والوعيد والتهديد.
على العكس من ذلك، فالفرد الذي يتعلّم الذل والمهانة والخوف سيكون أول المغادرين لساحة المعركة حين تدق ساعة الحقيقة!

ولعلّنا نستبشر خيراً، مع وجود جامعة عسكرية متخصصة (جامعة مؤتة) وتوالي الأفواج المتخرجة منها، إذ أن من المفترض أن يؤثر ذلك إيجابياً على الكفاءات التدريبية والإشرافية في المؤسسة العسكرية، سيما أن التعامل مع جيل الحاضر من الشباب يتطلب مهارات مميزة في أسلوب التعامل وجذب انتباههم تمهيداً لانخراطهم بشكل فعال في خدمة "الوطن".

في النهاية، لا بد من تأييد هذا المشروع والشدّ على أيدي القائمين عليه، رغبةً في خدمة الوطن بشكل عملي وفعّال ومؤثر، مع اعتباره مشروعاً استثمارياً تتضافر فيه جهود المؤسسة العسكرية ومؤسسات الدولة مع مؤسسات المجتمع، للاستثمار في القوة الشبابية الفعّالة بحيث تصب الفائدة في النهاية في مصلحة الوطن.
أما إذا كان التفكير هو مجرد عودة خدمة العلم كما كانت مع تغيير طفيف في الشكل والمسميات والمظاهر، فهي ليست سوى ذر الرماد في العيون، وهدر عمر الشباب بدون فائدة، بل على العكس إني لأظن والله اعلم أن المتخرجين من الشباب سيكونون بحاجة الى إعادة تأهيل أكاديمي للعودة الى مسارهم الطبيعي، هذا إن لم يحتاجوا إلى إعادة تأهيل نفسي واجتماعي!

أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن

26-11-2018