يُقدّم لنا المُخرج القدير "كلينت إيستوود" فيلماً مُثيراً يحبسُ الأنفاس ويضعُ المُشاهدَ في قلب الأحداث الدراميّة لحرب العصابات التي شهدتها العراق خلال العقد الماضي، من خلال عرض سيرة القنّاص الأمريكي المُلقّب "بالأسطورة" والذي كان له دورٌ كبير في حماية الجنود الأمريكان وتخليصهم من مآزقَ كبيرة، بالإضافة إلى مجهوداته في إغتيال وتعقّب قادة مؤثرين في صفوف المُقاومة العراقيّة، حيث أطلق عليه العراقيون حينها لقب "شيطان الرمادي"، ويُجسّد شخصية القنّاص على الشاشة، النجم "براد لي كوبر" بأداء مُلفت وبحسٍ عالٍ.
الفيلم مُستوحى من السيرة الشخصية للجندي "كريس كيلي" والتي نَشَرَها في كتاب يحمل إسم "القنّاص الأمريكي" عام 2012، ومن الجدير بالذكر أن الفيلم قد تم ترشيحه لستة جوائز أوسكار لهذا العام، من ضمنها جائزة أفضل فيلم وأفضل مُمثّل وأفضل مُؤثرات صوتيّة.
يمكن القول أن الفيلم كان متوازناً إلى حدٍ ما في عرضه للمعارك التي خاضها الجنود الأمريكان في مدينة الفلّوجة، وأظهر بسالة العراقيين وإستماتتهم في القتال وإقدامهم، كما أشار الفيلم بوضوح إلى روح المُقاومة لدى الشعب العراقي بما فيهم النساء والأطفال، وإن كانت هذه المُقاومة وحشيّة وعدائية من وجهة النظر الأمريكية التي يتبناها الفيلم. كما تناول الفيلم –على إستحياء- شخصية القنّاص السوري "
مصطفى
" بطل الرماية الأولمبية سابقاً والذي إنضم إلى صفوف المُقاومة العراقيّة بعد الإحتلال الأمريكي، ولُقّبَ "بقنّاص بغداد" حيث شكّل كابوساً للأمريكان وأصابهم في مقتل مما دفع الجيش الأمريكي الى رصد جائزة مالية لكل من يُدلي بمعلومات عنه.
مصطفى
" بطل الرماية الأولمبية سابقاً والذي إنضم إلى صفوف المُقاومة العراقيّة بعد الإحتلال الأمريكي، ولُقّبَ "بقنّاص بغداد" حيث شكّل كابوساً للأمريكان وأصابهم في مقتل مما دفع الجيش الأمريكي الى رصد جائزة مالية لكل من يُدلي بمعلومات عنه.
بعيداً عن الإبداع والتميّز الفنّي للفيلم، يبدو واضحاً للمُشاهد وجود خط درامي أساسي للفيلم يهدف إلى تخليد ذكرى القنّاص الأمريكي بإعتباره بطلاً قومياً، قام بالدفاع عن وطنه وحماية الجنود الأمريكان من التهديدات التي تعرّضوا لها، وفي نفس الوقت، يتبنّى الفيلم تكريس هذه السيرة والبطولات التي خاضها هذا الجندي لتبرير المعارك التي يخوضها الجيش الأمريكي خارج الديار سواءً في حرب أفغانستان أو حرب العراق، أوالحرب على الإرهاب بشكل عام، وهو ما أثار الكثير من الجدل، بسبب تبنّي الفيلم الواضح لمُبرّرات الحرب التي تُروّجها دوائر إتخاذ القرار في أمريكا، وما تشمله هذه الحروب من إعتداءات وقتل وجرائم ضد الإنسانية بإسم الدفاع عن الوطن، فحرب العراق على سبيل المثال كانت جريمة حرب بكل معنى الكلمة، ولا يمكن وصفها إلا أنها وصمة عار على جبين أمريكا وبريطانيا وحلفائهما في المنطقة، ولو كان هناك قضاءٌ عالميٌ عادل لتم محاكمة كافة المسؤولين عن هذه الحرب وإعدامهم وعلى رأسهم "جورج بوش" و "توني بلير".
بعد مرور عدة سنوات على حرب العراق، وتكشّف حقائق مهمة عن تلفيق وتزييف عدّة تقارير إستخباراتية بشأن إمتلاك العراق أسلحة كيماوية، وثبوت عدم وجود أي صلة للعراق بهجمات سبتمبر أو بالقاعدة وتمويل الإرهاب، فإن هذا يشير بوضوح إلى جريمة كُبرى بإختلاق وإفتعال حرب ضخمة، دون أسباب موجبة لها، وإذا أضفنا إلى هذه الجريمة، ما تم الكشف عنه من إستخدام قوات التحالف أسلحة محظورة ومُحرّمة دولياً، ناهيك عن جرائم التعذيب في سجن أبوغريب، وغيرها من الجرائم ضد المدنيين والأبرياء بالإضافة إلى تدمير البنية التحتية للعراق وإسقاطه في مستنقع العنف الطائفي والمذهبي، فهذا كله يشير إلى جريمة ضد الإنسانية مكتملة الفصول.
ويبرز هنا سؤال مهم، هل يُمكن إعتبار هذا الجندي بطلاً تاريخياً، بسبب ما قام به من أعمال بطولية ومساهمته في خدمة جيش بلاده، أم أنه مُجرمُ حرب لمشاركته في حرب غير شرعيّة؟! وهذا بدوره يفرض علينا سؤالاً مهماً حول معيار البطولة والخلود في التاريخ، وهل بالإمكان نيل شرف البطولة بمعزلٍ عن توافق العمل "البطولي" مع الضمير الإنساني والقيم الإنسانية العليا ومنطق الحق والصواب.
المسألة في النهاية تتعلق بنزاهة وشرعية القضية التي يدافع عنها الفرد وليس عن النوايا الداخلية حتى وإن كانت حسنة، والمقياس الذي يُستخدم للحكم على نزاهة أي قضية هو مقياس الفطرة السليمة والمبادىء الإنسانية العامة، وهي قاسم مشترك لجميع البشر ولغة عالمية يتقنها الجميع فهي كالموسيقى والرياضة لا تحتاج إلى تُرجمان، ويبقى في النهاية ميزان الحق الذي وضعه الله تعالى لهذا الكون وهو الميزان الذي سنحتكم اليه جميعاً في النهاية.
يقول الله تعالى ((قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا))
هناك بالتأكيد فاصل بين البطولة الحقيقية والجريمة، بين الحق والباطل مهما حاولنا تزييف الحقائق وقلب الوقائع، وبالعودة إلى الفيلم موضوع المقال، نجد أن هذا القنّاص قد خاض حرباً غير شرعية وذهب إلى بلد لا يشكل أي تهديد لبلاده وقتل كل من سنحت له الفرصة لقتله، بما في ذلك النساء والأطفال، وذَنْبُ ضحاياه الوحيد أنهم إستخدموا حقهم الشرعي الذي ضَمِنته القوانين السماوية وضَمِنته كل القوانين والأعراف الدولية، في الدفاع عن أرضهم ومقاومة المُحتلّ.
في المشاهد الأخيرة للفيلم يتحاورُ أحدُ الإستشاريين النفسيين مع بطل الفيلم، ويقول له "لقد قرأت في ملفك أنك قتلت 150 شخصاً في الحرب، كيف تتعامل مع هذا الموضوع؟"، وهنا يَظْهر لنا أن هذا الجندي لم يشعر بأي تأنيب ضمير ولم يُراجع نفسه حتى بعد إنتهاء الحرب وإنقشاع الغمامة عن كذب المسؤولين وعن عدم شرعية هذه الحرب، وأنه يعيش في حالة توافق نفسي مع الذات رغم معاناة الحرب التي خاضها، فيجيب بكل هدوء وطمأنينة "لقد قتلتهم دفاعاً عن زملائي وكنت أقوم بدوري المطلوب مني، وانا مستعدٌ أن أقف بين يدي الله وأن أُسأل عن كل شخص قتلته، أنا لم أقتل بدون سبب!". أرجو ان تكون قد إستعدّيت جيداً للإجابة على هذه الأسئلة وعن الدفاع عن نفسك أمام كل من قتلتهم، لأنك ستواجههم هذه المرة بدون بندقيتك، وأعتقد أن عليك ان تستعد أولاً للإجابة عن سؤال بديهي أهم من تبريرك لقتلهم، ((ما الذي أتى بك إلى العراق بادىء الأمر ؟!))
أيمن أبولبن
24-1-2015
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق