من سمات أي مجتمع مدني مُتحضّر، المحافظة على مبادىء الديمقراطية والعدالة والمساواة، بالإضافة إلى حُريّة الإعتقاد والحُريّة الفكريّة، وأن يكفل حُريّة التعبير لكافة أفراد المجتمع، وهو ما يعني إحترام الإختلاف الفكري بين أطياف المجتمع المختلفة، سواءً كان هذا الإختلاف في كيفية إدارة الشؤون السياسية أو في إدارة شؤون المجتمع أو كان إختلافاً على المستوى الفكري والثقافي.
ويُقاس النجاح الحضاري لأية دولة، في مدى نجاحها بأن تكفل حُريّة التعبير لأفراد المجتمع بغض النظر عن الحزب الحاكم وإتفاقه أو إختلافه مع معتقدات الأفراد والهيئات والمؤسسات أو الأحزاب الأخرى، وباختصار فإن حرية التعبير تعني ضمان حُريّة الفرد في البوح بكل ما يدور في ذهنه من أفكار دون أن يخشى العقاب أو الإنتقام، وهذا يتطلب بالضرورة عدم إستخدام السلطة وسيلةً لفرض وجهة نظر معينة، أوتوجيه المجتمع نحو تبنّي آراء ووجهة نظر السلطة، وكلّما أبتعدت الدولة عن حُكم الحزب الواحد والصوت الواحد والجريدة الواحدة، كانت أقرب إلى تطبيق مبادىء التعددية الفكرية وحُريّة التعبير.
ولكن تطبيق حُريّة التعبير دون ضوابط أو مُحدّدات أخلاقية، يعني خروج المجتمع أو الدولة من حدود التحضّر إلى العبثية الفكرية غير المُمنهجة أو ما يشبه شريعة الغاب. ضبط حرية التعبير وحَصْرِها في المَقْصد الأساسي لها وهو بناء مجتمع حضاري راقي يضمن عدم إستبداد جهة ما وفرض رؤيتها على بقية الأفراد أو إستئثارها بالحق والصواب وتجريم الآخرين أو تكفيرهم، هو الإختبار الحقيقي لتَحضّر المجتمع من عدمه.
وبالنظر إلى تطور مفاهيم المجتمع المدني عبر التاريخ، نجد أن البداية كانت مع نشوء الفلسفة الفكرية المتمثلة بمبادىء أرسطو وسقراط حول حقوق الإنسان، وتجلّت هذه المفاهيم في "المدينة الفاضلة" لأفلاطون، وأدّى تنامي وإزدهار هذه الأفكار، إلى دخولها في صراع مع الكهنوت الديني للكنيسة مما أدى إلى قيام ما سُمّي بالثورة الفكرية التي شنّها المفكرون الغربيون مثل هيغل وفولتير وجان جاك روسو ضد ما أسموه "الجهل المُقدّس" ونجحت هذه الثورة في النهاية بتحطيم المعتقدات القديمة السائدة في المجتمع، وقيّام مجتمعات تؤمن بحرية الإختيار والتعدّدية الفكرية، وكانت ثمرة هذا الإنتصار هو إعلان الميثاق الفرنسي لمبادىء حقوق الانسان، الذي ضَمِنَ حُريّة التعبير لكافة أفراد المجتمع، إلا أن ظهور الماسونية، والشيوعية والفكر الإلحادي أدى إلى إختلال الموازين والمفاهيم فيما يتعلق بالحُريّة المُطلقة للإعتقاد، وتعظيم الحُريّة الفكريّة للأفراد، التي إستغلت مبدأ حُريّة التعبير في تحطيم كل ما هو مُقدّس بما في ذلك تدنيس الأديان ومُعتقدات الآخرين، وصولاً إلى الإنحلال الأخلاقي للمجتمعات دون حَرَجْ أو شعور بالذنب.
ويبدو جليّاً أن فئة مُدّعي الحضارة والثقافة لا تقتصر على العالم الغربي، فما يشهده العالم العربي من أحداث يدل على تورط مجتمعاتنا في نفس الورطة الفكرية، سواءً من حيث إستخدام الماكينة الإعلامية لترسيخ التطبيق الخاطىء لمبادىء الحرية، أو استغلال بعض الناشطين لشعارات الحريّة الرنّانة في سبيل الإنتقاص من مُعتقدات الآخرين وتجريمهم وإزدرائهم. ولقد انتشرت في الآونة الأخيرة ظاهرة إستخدام التعرّي وسيلةً للإحتجاج على قضية ما، أو لِدَعْم حُريّة المرأة وحقّها في نَيْل العدالة والمساواة في المجتمع، ناهيك عن عبادة الشيطان والمثلية الجنسية، وهو ما يُشير بوضوح إلى فهمٍ خاطىءٍ ومعكوس لمبادىْ حُريّة التعبير، وهذا ينطبق أيضاً على كل من يدعم ويؤيد حُريّة التعبير من هذا المنظور.
لقد إقترنت حُريّة التعبير على مر العصور بالتشريف والرُقيّ الحضاري فكلّما كان الفرد قادراً على البَوْح بأفكاره ومعتقداته الداخلية دون خوف أو قلق كلما إرتقى بالمفهوم الحضاري، وفي المقابل فإن تكبيل الفرد وتقييد حريته في البَوْح بمعتقداته هو إنتقاصٌ من قَدْر هذا الفرد، وعندما يتم إستغلال حُريّة التعبير للبَوْح ب "قِلّة الدين" أو "قِلّة الشَرَفْ"، فهذا لا يعني سوى إستغلال هذا المبدأ للحَطْ من قَدْر البشر بدلاً من رفع قَدْرهم، ولا أجد وصفاً أدق من مُصطلح "العُهْر الحضاري" لوصف هذا الفعل، وهو ما يؤكد أن "كل ما زاد عن حدّه إنقلب ضدّه".
ما شهدته باريس مؤخراً من دعم عالمي لحق الإعلاميين والصحفيين في السُخرية من الأديان والأنبياء دون حرج أو أدنى شعور بالخطيئة لهو أكبر دليل على التطرف الذي وصل له العالم في تطبيق مبادىء الحُريّة على عكس المراد لها ولا يتماشى أبداً مع الرُقي الحضاري الذي يسعى له الإنسان، ولا يمكن تصنيف هذا العمل إلا ضمن الإنحلال الأخلاقي والعُهْر الحضاري، وكل من يدعم حُريّة التعبير هذه يجب تصنيفه على أنه "مُتطرّف
فكرياً".
فكرياً".
إن كنا جميعاً نتفق على محاربة التطرف الديني وإستخدام العنف وسيلةً للتعبير، فعلينا أيضاً أن نُحارب التطرّف اليساري في تدنيس الأديان وإزدراء الآخرين بناءّ على معتقداتهم الدينية.
عندما يخشى أحدُنا من التعرّض للمشروع الصهيوني وجرائم إسرائيل خوفاً من إلصاق تهمة مُعاداة الساميّة به، وعندما يتم إعتقال وقتل وتعذيب مئات الألوف ضمن قوانين مكافحة الإرهاب، وعندما يتم تكميم الأفواه بحجّة مساندة الإرهاب، وفي نفس الوقت يتم حشد ملايين الناس حول العالم لدعم حرية التعبير "المُشوّهة"، والذي لا يعدو كونها سوى شكل من أشكال الإرهاب الفكري، فهذا يعني أننا نعيش في عصر "الجهل المقدّس" بمفهوم جديد، وأننا بحاجة إلى ثورة فكرية مُضادة ينتج عنها ميثاق جديد لحقوق الإنسان.
أيمن أبولبن
17-1-2015
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق