الأربعاء، 20 مايو 2020

*آيات استوقفتني 4 (10) لما بين يديه*



من أكثر الآيات اختلافا في التفسير بين العلماء هي التي وردت في صيغة (مصدقاً لما بين يديه) أو (تصديقاُ لما بين يديه)، حيث أشار المفسرون القدماء أن الكتاب الذي نزل على سيدنا محمد جاء مصدقا للكتب السابقة (التوراة والأنجيل) واستكمالا لها، أي أن المقصود ب (بين يديه) بين يدي سيدنا محمد في عصره من الانجيل والتوراة، وهذا التفسير غير دقيق، كما أنه لا ينطبق على جميع الآيات كما ورد في التفسيرات.

وبعد البحث أيضاً في القراءات المعاصرة والتفسيرات الحديثة، كان هناك أيضاً تناقض واضح في الاجتهادات، ومحاولة تعميم تفسير واحد على جميع الآيات رغم اختلاف المواضيع والصيغ والقصد منها.

في هذا البحث المتواضع محاولة لفهم الآيات حسب المنهجية التي اعتمدناها، من خلال استعراض  الآيات التي وردت فيها هذه العبارات وتحليلها كليّة وربطها بمجمل الموضوع.
وقد توضح لنا أن الله سبحانه وتعالى قد استخدم هذه العبارات للدلالة على معان مختلفة حسب واقع الحال، كما هو موضح أدناه:


الحق ومطابقة الوقائع:


(الم * اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ) آل عمران


في البداية الحديث هنا عن الله سبحانه وتعالى وتنزيله للكتاب على قلب سيدنا محمد "بالحق مصدّقاً لما بين يديه". ومن الضروري توضيح أن ضمير (يديه) هنا لا يعود بأي شكل من الأشكال على سيدنا محمد لأنه هنا هو المخاطب (عليك) ولا على سيدنا جبريل لأنه غير مذكور وقد نسب الله فعل التنزيل الى إرادته ومشيئته الالهية، وبالتالي فإن بين يديه هنا تعود إلى الكتاب نفسه، فالكتاب (كل الكتاب بموضوعيه الرئيسين النبوة والرسالة) قد جاء "بالحق" أي أنه جاء مصدقاً ومتطابقاً مع الواقع والحقائق المعاصرة والمتجددة، ومتفاعلاً معها أيضاً فالكتاب ليس كتاباً مجرداً بل هو كتاب تفاعلي مع الأحداث والوقائع وليس معزولاً عن الذات البشرية ومن هنا فهو يكتسب صفة المصداقية المتجددة مع الواقع.

وهذه الآية تحمل ذات المعنى أيضاً:

(قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ) البقرة 97
والضمير هنا يعود إلى الكتاب أيضاً وليس إلى جبريل كما ذهب البعض.


تصديق النبوءات السابقة:

(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) المائدة 48

في هذه الآية يتضح هناك معنىً جديداً يُضاف إلى ما سبق، فالكتاب الذي نزل على سيدنا محمد جاء مصداقاً للنبوءات الحاضرة في الكتب السماوية الأخرى والتي بشّرت بنبي آخر الزمان، فهو من هذه الزاوية أيضاً جاء لاثبات تلك النبوءات واستمراراً لدين الله الواحد من ناحية الأحكام (الرسالة) مع اختلاف الشرائع أي العبادات والشعائر.

وبما أن الكتاب الذي نزل على سيدنا محمد فيه اكتمال للرسالة وفيه وصلت الأحكام إلى شكلها النهائي فإن هذه النسخة من الكتاب (الأحكام) هي المهيمنة والمسيطرة على ما سبقها فيما يخص التشريع الانساني والسلوك وليس من ناحية الشعائر التي تركها الله سبحانه وتعالى لأصحاب الرسالات السماوية كما هي (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً)

 فالاختلاف في الشعائر لا يجب الالتفات إليه أو محاولة تغييره، فهو يدخل من ضمن باب حرية العبادة المكفولة للأفراد، بينما على الدولة أو السلطة العمل بما ورد في الرسالة المحمدية من حيث الحرام والأوامر والنواهي والوصايا وهي الكفيلة بضبط المجتمع بصفته المدنية فيما تبقى الشعائر مكفولة ضمن باب حرية العبادة وهذا هو شكل الدولة الاسلامية المطلوب.   

وهذه آية أخرى تحمل ذات المعنى:

(قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) ألأحقاف 30

النبوّة وتصديق الرسالة:

(وَمَا كَانَ هَٰذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَىٰ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) يونس 37

هنا نلاحظ الفرق في استخدام مفردة القرآن، وكما تحدثنا سابقاً فإن القرآن هو كتاب النبوّة ويحتوي على حقائق الكون والطبيعة والغيبيات والقصص، وهو بهذا يحمل صفة الاعجاز التي تثبت أن مصدره هو الله سبحانه وتعالى خالق هذا الكون والعالم بأسراره، ولهذا كان القرآن معجزة سيدنا محمد.

 لهذا فإن القرآن ذاته يكون دليلاً على صدق هذه الرسالة المحمدية والأحكام والمنهج الذي جاءت به (كتاب الأحكام أو الرسالة)، لأن الرسالة والأحكام الواردة فيها لا تحمل صفة الاعجاز بذاتها وإنما بكونها جزء من الكتاب ككل، وبهذا يكون القرآن وحسب فهم هذه الآية هو الدليل على وجوب تصديق ما بين يديه من الرسالة (الأحكام) والعمل بها.
ولهذا يقول الكافرون وحسب نص الآية التالية أنهم لن يؤمنوا لا بالقرآن المُعجز (النبوة) ولا بالأحكام الواردة معه في الكتاب (الرسالة).   

(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) سبأ 31

وهذه الآيات تحمل ذات المعنى أيضاً:

(وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ۚ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ ۖ وَهُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) والحديث هنا عن القرآن (كتاب لأنه جزء من الكتاب وليس كله)

(وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) القرآن – من الكتاب

وهذه إجمالاً المعاني المختلفة التي حملتها هذه العبارة والتي تنوّعت حسب واقع الآيات، وباقي الآيات الواردة والتي لم أذكرها تحمل واحداً من هذه المعاني.

  هذا والله أعلم.

أيمن يوسف أبولبن
20-5-2020

الثلاثاء، 19 مايو 2020

هل أدركنا اخيراً قيمة الحياة؟





وأنتم تقرأون هذا المقال يكون الدوري الألماني لكرة القدم قد عاد إلى النشاط مرة أخرى بعد توقف دام لمدة ثلاثة شهور بسبب الحجر الصحي وإجراءات مكافحة فيروس كورونا.
ورغم أن الدوري الألماني ليس من الدوريات الأكثر متابعة في أوروبا والعالم إلا أنه من المتوقع أن تصل نسبة المشاهدات في اليوم الأول للعودة نحو مليار مشاهدة حول العالم، بالنظر إلى أنه أول الدوريات الأوروبية عودةً للأضواء.
في ثمانينيات القرن الماضي كانت التلفزيونات الأرضية في المنطقة تنقل مباريات كرة القدم على استحياء حيث ينصب التركيز على البطولات الكبرى مثل كأس العالم وبطولة الأمم الأوروبية أو المباريات النهائية في المسابقات المختلفة.
وأذكر أن التلفزيون الأردني كان يبث مباريات الدوري الألماني بالذات من بين باقي الدوريات الأوروبية، لذا فقد كان هذا الدوري يحظى بمتابعة معظم فئات المجتمع ولم يكن الأمر محصوراً في المهتمين بالرياضة، بل على العكس كان الدوري الألماني حديث العائلات وتلاميذ المدارس وعمال الوطن.
 لم يكن هناك تعصب أو تحيّز أعمى لفريق أو لاعب معين، وكانت مشاهدة الدوري الألماني نوعاً من الترفيه والمتعة بل والبرستيج أيضاً، إذ كنّا حينها نستشعر قيمة الأشياء ونُقدّرها!
وما أن انفجرت ثورة الاتصالات والانترنت والبث الفضائي حتى بات العالم كله يُطلّ عليك من نافذة تلفازك المنزلي، من أمريكا الجنوبية إلى أقصى الشرق مروراً بالقارة العجوز، ونحن مستلقون في بيوتنا بلا عناء منّا ولا تعب، ورغم ذلك تسلّل الملل إلى نفوسنا، وكان يقتلنا روتين الحياة الذي صنعناه بأنفسنا!
كنت في السنوات الأخيرة، وأنا أشاهد مباريات الكرة وأستمتع بمتابعة أفضل اللاعبين التي أنجبتهم ملاعب الكرة، أفكّر في نفسي وأقول في سرّي "الحمد لله على هذه النعمة" الحمد لله على تسخير هذه التكنولوجيا وهذه المحطات الفضائية لإمتاع البشر وتمكينهم من الترويح عن أنفسهم ونسيان ضغوط العمل وهموم الدنيا ولو لبعض الوقت. كانت الآااه التي تنطلق من الحناجر كفيلة برفع الأدرينالين ومدّنا بهرمون السعادة!
عاد بنا الزمن إلى الوراء، ولا يوجد أمامنا اليوم سوى مباريات الدوري الألماني بل وبدون جمهور, ورغم ذلك فإني أراهن أن هذه المباريات ستشهد متابعة عريضة ولن تكون محصورة في عشاق الرياضة فحسب، وأزعم أيضاً أننا بتنا ندرك اليوم أكثر من أي وقت مضى مدى النعمة التي كنا نعيش، لذا فإننا نقول في سرّنا كل يوم، الحمد لله على كل النعم السابقة التي لم نكن نقدّرها.
عندما كنتُ أتساءل في معنى رمضان بالنسبة لي كنت أجيب وبدون تردد: صلاة التراويح، نعم صلاة القيام وما تحمله من ترويح عن النفس والجسد، وما تحمله أيضاً من حالة إيمانية خاصة تسمو بنا فوق كل شؤون الدنيا، هي الصبغة التي تصبغ هذا الشهر بنكهة خاصة مميزة.
وفي رمضان من هذا العام، أدركنا أكثر من أي وقت مضى، بأننا مستعدون للتضحية بالكثير مقابل أن تعود مساجدنا للحياة من جديد، وأن نقف متكاتفين خلف إمام يقرأ بخشوع في ليالي رمضان ويرتّل علينا (يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ).
في الماضي، لم يكن يفصلنا عن أحبابنا سوى مكالمة هاتفية نقول فيها (أنا قادمً إليك)، ورغم ذلك كنا نتثاقل في الوصال واللقاء والاجتماعات.
حين يجمعنا أحد المقاهي في شوارع عواصمنا كنا نرتشف القهوة مع رفاقنا ونلقي النكات ونسترجع الذكريات، ونحرّر أنفسنا من كل المشاعر السلبية، وحين نفترق كنّا نقول لبعضنا من باب المجاملة "سعدنا بلقائكم" ولكنّنا في الحقيقة نكون مشغولين بما تركناه وراءنا من أمور تخص العمل أو المنزل، أو لعلّنا ننشغل بهواتفنا "الذكية" وفي قرارة أنفسنا قلّة قليلة منّا فقط، كانت تشعر بتلك السعادة لمجرد اللقاء!.
كنّا أحرار في التنقل والسفر والتجوال، وقضاء الاجازات الصيفية والتمتع بالطبيعة، والمناظر الخلابة، والذهاب إلى دور المسرح والسينما ومتابعة الفعاليات الثقافية والاجتماعية، ورغم كل ذلك لم يكن يخطر ببالنا أن نتوقف لحظة واحدة للتأمل في الحياة ومعناها، وتقدير هذه النعم، إلى أن حُرمنا منها تماماً، وبات الجزء اليسير من تلك الحريات حُلماً كبيراً وأملاً بعيداً، أقرب إلى المعجزة!
قبل أسبوع تعطّل جهازي الخاص للمشي، وتعذّر عليّ الوصول إلى أحد عمّال الصيانة لإصلاحه، ونظراً لظروف الحجر الصحي والصيام، وإغلاق النوادي الصحيّة، فقد مضى علي أسبوع كامل لم أتمكن فيه من المشي أكثر من المسافة الفاصلة بين غرفة النوم وغرفة المعيشة مروراً بالمطبخ! وأول ما خطر على بالي هو سؤال نفسي، هل سبق أن قدّرت حقيقةً نعمة المشي، ونعمة أن يكون لدي جهاز خاص للمشي في منزلي؟! أشكّ في ذلك!
لا أدري من القائل ولكني أقول بتصرّف، باتت أكبر أمانينا اليوم أن تعود الحياة المُملّة الروتينيّة التي لم نكن نطيق من قبل، لأننا ولأول مرة في عمرنا الطويل، نكتشف القيمة الحقيقية لحياتنا!


أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
18-5-2020

الاثنين، 18 مايو 2020

*آيات استوقفتني 4 (9) الاقتصاد وترشيد الاستهلاك*



في زمن كورونا وفي ظل الضائقة الاقتصادية، وإرهاصات الكساد الاقتصادي لم أجد افضل من التوجيه الرباني الخفي إلى ضرورة ترشيد الإستهلاك، والعمل على توفير وتخزين السلع الأساسية والبضائع (أصل التبادل التجاري) و الثروة أو النقود (وسيلة التقايض) لحين العوز.

(قَالَ تَزۡرَعُونَ سَبۡعَ سِنِینَ دَأَبࣰا فَمَا حَصَدتُّمۡ فَذَرُوهُ فِی سُنۢبُلِهِۦۤ إِلَّا قَلِیلࣰا مِّمَّا تَأۡكُلُونَ ۝ ثُمَّ یَأۡتِی مِنۢ بَعۡدِ ذَ ٰلِكَ سَبۡعࣱ شِدَادࣱ یَأۡكُلۡنَ مَا قَدَّمۡتُمۡ لَهُنَّ إِلَّا قَلِیلࣰا مِّمَّا تُحۡصِنُونَ ۝ ثُمَّ یَأۡتِی مِنۢ بَعۡدِ ذَ ٰلِكَ عَامࣱ فِیهِ یُغَاثُ ٱلنَّاسُ وَفِیهِ یَعۡصِرُونَ) سورة يوسف

وهذه التوجيهات ليست موجهة للأفراد فقط، بل جاءت في الأصل الى المؤسسات والمجتمع (الدولة).
ففي الوقت الذي عاشت فيه كثير من الشركات والدول في حالة من الرفاهية والترف الشديدين لسنوات مضت، جاءت اليوم أمام أول تحد بسيط مقارنة بسنوات الرفاهية، لتصبح مهددة بالإفلاس، ولم تجد أمامها سوى الموظف أو العامل والتاجر البسيط والمواطن الغلبان لتعويض خسائرها.

وصدق الله العظيم حين قال :
(لَقَدۡ كَانَ فِی قَصَصِهِمۡ عِبۡرَةࣱ لِّأُو۟لِی ٱلۡأَلۡبَـٰبِۗ مَا كَانَ حَدِیثࣰا یُفۡتَرَىٰ وَلَـٰكِن تَصۡدِیقَ ٱلَّذِی بَیۡنَ یَدَیۡهِ وَتَفۡصِیلَ كُلِّ شَیۡءࣲ وَهُدࣰى وَرَحۡمَةࣰ لِّقَوۡمࣲ یُؤۡمِنُونَ)

ولا بد لنا أن نذكر هنا، أن الشركات الكبرى والعابرة للقارات، ومن خلفها الدول الرأسمالية، ورجال الأعمال، هم من أسسوا وروجوا لفكرة زيادة الإستهلاك، بدءا من الفرد البسيط، وصولا إلى الدول والحكومات، ومرورا بالمجتمعات، إلى أن تغلغلت ثقافة الاستهلاك في وعينا وسلوكنا، وباتت جزءا من شخصيتنا، بل وتقييمنا لبعضنا البعض، انطلاقا من فكرة الملكية وليس المشاركة أو العطاء.

وهذه الثقافة تطورت فيما بعد لتصبح تهديدا للطبيعة ولمواردها، وللبيئة والمناخ، وقد تصل إلى محاولة نهب ثروات الكواكب الأخرى، اذا اتيح لنا المجال.

في المقابل هناك العديد من الآيات والتوجيهات التي تدعو إلى الاقتصاد والترشيد والتعفف والزهد و الموازنة بين الرغبات والحاجات، وإلى العطاء والبذل، ولكننا للأسف بعيدون كل البعد عن البصيرة والوعي الحقيقي.

ومن هذه الآيات على سبيل المثال لا الحصر:

(وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا) الفرقان 67

وتقدير اسم كان هو :إنفاقُهم" أي (وكان إنفاقهم وسطاً لا ينحدر إلى حدود التقتير ولا يصل إلى حدود الإسراف)

وفقنا الله وإياكم إلى حسن التدبير والترشيد والعطاء.

هذا والله أعلم.

أيمن يوسف أبولبن
18-5-2020

السبت، 16 مايو 2020

*آيات استوقفتني 4 (8) ولا يخافُ عُقْباها*



(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا) سورة الشمس

في تفسير المفسرين الأوائل ذُكر في تفسير (ولا يخافُ عُقباها) أن الله سبحانه وتعالى لا يخاف عاقبة ما فعل، فهو ليس كالبشر أمثالنا الذين يحسبون عاقبة أفعالهم. بمعنى أن الفاعل هنا مستتر وتقديره (ولا يخاف ربهم عقباها).

والحقيقة أن هذا التفسير غريب ولا ينسجم مع النسق القرآني في تقديس الذات الآلهية، ولا يوجد في القرآن الكريم كله أي لفظ مشابه يقرن الخوف أو الخشية بالذات الآلهية أو ينفيها، فهي صفة موجودة في المخلوقات، وليس من المنطقي أصلاً افتراض الحاجة إلى نفيها عن الذات الآلهية.

وكلمة عُقباها من كلمة عُقْب وهي آخر كل شيء أو الذي يليه.

فلو حلّلنا هذا المعنى وربطناه بالضمير أي الاشارة إلى ثمود، لاكتشفنا أن المعنى الحقيقي ل "عُقباها" هو: آخر من بقي من ثمود وهم المؤمنون (صالح وأتباعه) وأن "عقبى" هي الفاعل ولا يوجد أي داع للبحث عن فاعل مستتر فالله سبحانه وتعالى يقول إن رهط المؤمنين لن يضرّهم ما فعله الله بقوم ثمود وعقابه لهم، ولن يخافوا أيضاً من انتقام ثمود، أو أي رد فعل منهم بعد ذلك.
وهي رسالة طمأنينة لكل المؤمنين الصالحين أن عذاب الله وانتقامه لن يصيب المؤمنين بظلم، ولن يكون له ردة فعل انتقامية تضر بهم، لذا جاء الفعل (ولا يخافُ) باستخدام المضارع المستمر.

وهذا يأخذني إلى آية أخرى غريبة وعجيبة في سورة نوح لم أجد لها في كتاب الله مثيلاً:

(وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا)

هذا الدعاء على القوم الكافرين وعلى ذريتهم من بعدهم من قبل أحد الأنبياء لم يتكرر في القرآن، مما يدعونا إلى استيضاح الأمر:

في البداية لقد سبق لنوح أن أوحي إليه من قبل الطوفان أنه لن يؤمن له من قومه أحدٌ بعد اليوم باستثناء من كان قد آمن:
(وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)

ومن هنا، جاء تخوّف نوح من بقاء نسل هؤلاء الكافرين الذين وصلوا إلى نقطة اللاعودة بحيث يستحيل عدولهم عن كفرهم، وبالتالي فإن نجاة فئة منهم ستؤدي إلى مواجهة عنيفة وردة فعل إنتقامية من نوح والمؤمنين معه، والذين هم يومئذ قليل:

(حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ ۚ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ)

وهذه الأفعال الانتقامية سوف تهدد بقاء الفئة المؤمنة القليلة وسوف تشغلهم عن الله وعن حمل الرسالة (إنك إن تذرهم يضلّوا عبادك) وهذه الحالة من الاضطراب والعنف لن تولّد سوى المزيد من العنف وتوارث عقيدة الانتقام والكفر بالله (ولا يلدوا إلا فاجراً كفّاراً).

ومن هنا كان لا بد من العقاب الآلهي أن يقضي على ذرية الكفار (أمة نوح وصالح وغيرهم) بعد ان تم استنفاذ كل أساليب الدعوة والتهديد والوعيد، لكي تعيش الفئة المؤمنة في هدوء وسكينة ويستقيم أمر الدين لله.


هذا والله أعلم.

أيمن يوسف أبولبن
16-5-2020

الأربعاء، 13 مايو 2020

*آيات استوقفتني 4 (7) إن جاءكم فاسقٌ بنبأ*


(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)
الحجرات 6

ينبغي فهم كلمات (جاء، فاسق، نبأ، فتبيّنوا) كي نفهم المراد من هذه الآية ونستنبط الحكم العام حول التوثّق من المعلومات المتناقلة والمتداولة بين الناس، وهل علينا التحقّق من الأخبار بالنظر إلى مصدرها فقط؟

في الحقيقة فإن هذه الآية تم اعتمادها من قبل العلماء كسند لمراجعة سند الأحاديث من حيث الراوي والتحقق من عدله، ولكنها أغفلت متن الحديث ذاته وضرورة التحقق من صحته.

جاء وأتى، الخبر والنبأ

في القرآن الكريم يستخدم الفعل (جاء) ليفيد خارجيّة المصدر، فعندما تقول جئتك، أي جئت لك بشيء أو معلومة من مصدر خارجي وليس من عندي. فالمرء يأتي بالشيء من دائرته، ولكنه يجيء بالشيء من دائرة أخرى.

(وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا)
آتيتموهن هنا: أي أعطيتموهن من أموالكم الخاصة

النبأ: هو المعلومة غير المتحقق منها بعد، وهي من أصل (نبوءة) فهي معلومة جديدة وحين تتحقق تصبح خبراً.

(لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون) أي أن كل الأنباء التي أوردها الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم سوف تتحقق وسوف نعلم عنها فتدخل في ضمن دائرتنا المعرفية وحينها (تستقر) أي تصبح أخباراً.  

لاحظوا معي:

(أحطت بما لم تُحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين)
أحطت بما لم تُحط به: علمتُ ما لا تعلم
(وجئتك) وأنقل لك من سبأ (بنبأ) هذه المعلومة الجديدة التي لا تعرف عنها (يقين) ولكني تحققت منها بنفسي

من هو الفاسق

الفسق في اللغة من الخروج أو الاتفصال وتستخدم في مجال الخروج عن طاعة الله وأوامره (حتى لو مؤقتاً) أو عن المألوف أو عُرف المجتمع

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)
فهنا الفسق لا يعني الكفر ولا يعني دوام المعصية، بل يعني عدم الالتزام بأصول الشهادة، لذلك كان من الضروري عدم اعتبارهم من الثقات الذين يصلحون لادلاء الشهادة في المستقبل.

أما كلمة تبيّنوا فتعني التحقّق

(من بعد ما تبيّن لهم الحقّ)
(حتى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود)

وبهذا نستطيع القول إن المعنى الاجمالي للآية يصبح كما يلي:

(يا أيها الذين آمنوا بمحمد واتبعوه، إن جاءكم شخص غير موثوق بمعلومة منقولة لا تعلمون شيئاً عن مصداقيتها، فتحقّقوا منها قبل أن تتداولوها أو تنشروها كي تدرءوا عن أنفسكم أن توقعوا الضرر في شخص أو جماعة من حيث لا تعلمون)

وبهذا يدخل فعل تناقل الإشاعات والأخبار الزائفة والكاذبة ضمن باب المنهيات الالهية بنص القرآن.

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل التحقّق مشروط بورود الخبر عن طريق شخص غير موثوق فقط؟

في الحقيقة فإن القرآن الكريم جاء دقيقاً جداً في الأحكام وفصّلها بين محرّمات ونواهٍ وأوامر ووصايا إنسانية، وفي هذه الآية جاء الأمر الصريح بوجوب عدم نقل الأنباء عن مصادر غير موثوقة، ولكنه في ذات الوقت نهى عن التعامل مع المعلومات التي لا نعلم مصداقيتها أو إتباع أي منهج أو رأي دون ان نعيه ونتحقق منه

(وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) الاسراء 36

وهذا جاء ضمن باب الحكمة التي وضّحها لنا الله سبحانه وتعالى في كتابه:

(ذَٰلِكَ مِمَّا أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) الاسراء 39

*الخلاصة: أعطى الله سبحانه وتعالى المؤمن المرونة الكافية بالتعامل مع الأشخاص والمصادر الموثوقة دون إسقاط المسؤولية في حال كانت الأنباء أو المعلومات المتداولة غير صحيحة، حيث أن كل إنسان يتحمل مسؤولية التحقق من المعلومة سواء كانت من مصدر موثوق او غير موثوق.
وفي حالة النقل عن مصدر مشكوك به او غير موثوق فأنت تقع في الإثم مباشرة، ويضاف لذلك الاساءة الشخصية إذا حصلت لأحد*.

وما أحوجنا في هذه الأيام إلى التوقّف مليّاً عند هذه الآيات واستشعار مدى خطورة تناقل الاشاعات والأخبار الكاذبة وما يدّعي أصحابها أنها مؤامرات حيكت في الظلام دون دليل أو أدنى تحقّق من المعلومة ويثيرون بذلك النعرات أو المخاوف وينشرون الفساد في الأرض من حيث يدرون أو لا يدرون.
وأعلموا أخواتي وإخواني أن العبارة الخجولة على شاكلة (على ذمة الراوي أو كما وصلني) لن تدفع عنك الإثم أو تحمّل المسؤولية، لأن شرط التحقّق في الآية جاء بصيغة الأمر (فتبيّنوا) والنهي (لا تقفُ).



هذا والله أعلم.

أيمن يوسف أبولبن
13-5-2020

الأحد، 10 مايو 2020

*آيات استوقفتني 4 (6) الإسراء - المسجد الحرام والمسجد الأقصى*



(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ*وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا) سورة الاسراء 1-2

هناك عدة امور تستحق التوقف عندها في سورة الاسراء، ولعل من أولها تلك النقلة من الحديث عن حادثة الاسراء إلى الحديث عن سيدنا موسى وإفساد بني اسرائيل.

دعونا نبدأ بالقول إن الآيات قد ربطت بين المسجد الحرام (أول بيت لله وضع في الأرض) وبين المسجد الأقصى وهذا الربط له دلالات إيمانيّة كبيرة أدركها المسلمون الأوائل عندما فتح سيدنا عمر بيت المقدس وطهّر مكان المسجد الأقصى وأعاد تجهيزه، وندركه نحن اليوم أكثر من أي وقت مضى.

وأعتقد أن الله يشير لنا من خلال هذا الربط، أنه وكما أرشد سيدنا إبراهيم إلى موقع الكعبة والمسجد الحرام وكلّفه بإعادة ترميم البناء وإزالة آثار الوثنية منه، فإنه أيضاً قد أرشده إلى موقع المسجد الأقصى في الأرض المباركة، وكلّفه بترميمه، ومن هنا بدأ الربط.
 ومن خلال معجزة الاسراء فأن الله قد سلّم عهدة المسجد الأقصى إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وإلى أتباعه من بعده، بعد ان عهد له بالكعبة والمسجد الحرام، وهنا يكون قد اكتمل الربط بين المكانين المقدسين.

*المسجد*
ونلاحظ أن الله سبحانه وتعالى أطلق لفظ "مسجد" على دور العبادة للمؤمنين، حيث ورد في سورة الكهف (قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا)
وهذا اللفظ (مسجد) لم يُستخدم من قبل في اللغة العربية بهذا المعنى، وهو مشتق من فعل سجدَ، لذا اصبحت كلمة "مسجد" تستخدم للدلالة على مكان العبادة لدى المسلمين أتباع سيدنا محمد، ولاحقاً قام العلماء بإضافة مفاهيم الجامع والمصلّى.

*عبده*
وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى سيدنا محمد ب (عبده) ليدل بإشارة ضمنية على حمله لواء الدين وهو آخر أنبياء الله في الأرض. ومن مراجعتي لآيات القرآن الكريم وجدت أن كلمة "عبده" منفردة لم ترد في القرآن سوى للاشارة إلى سيدنا محمد، وقد ورد هذا اللفظ في ستة مواقع مختلفة (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب) (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده) (أليس الله بكاف عبده) (فأوحى إلى عبده ما أوحى) (هو الذي ينزل على عبده آيات بينات). بينما في سورة الكهف ورد ذكر العبد الصالح بوصفه (عبداً من عبادنا). وورد مرة وحيدة مع سيدنا زكريا، (ذكر رحمت ربك عبده زكريا) ولكن هنا تم ذكر سيدنا زكريا مباشرة للدلالة عليه.


*الاسراء وقصة بني إسرائيل*
أما الخلاف حول علاقة حادثة الاسراء بقصة سيدنا موسى وبني اسرائيل، فنقول إن من خصائص القرآن الكريم الربط الموضوعي في الآيات، ومن أهم واجبات التدبّر في القرآن هو البحث عن الرابط بين الآيات والاسترشاد به، وهنا نقول إن الله ذكر حادثة الاسراء ووضّح أنها معجزة إلهية (سبحان الذي أسرى بعبده) ثم ذكر أنه كشف لسيدنا محمد عن بعض آياته الغيبية في الكون، (لنريه من آياتنا) وختم بقوله (إنه هو السميع البصير) ونفهم من هذا أن سيدنا محمد قد أُطلع على رؤية إعجازية وأنه قد رفع الغطاء عن قدراته السمعية والبصرية لإدراك هذه الآيات الغيبية بقدرة إلهية.
وفي الآية التالية مباشرة أوضح الله سبحانه وتعالى موضوع هذه الرؤية التي ارتبطت بالمكان (المسجد الأقصى) والشخوص وهم (سيدنا موسى وبنو اسرائيل) وهنا يتضح أن الآيات مترابطة موضوعيا ولا يوجد هناك نقلة مفاجئة في الحديث.
وهكذا نستطيع القول أن الله سبحانه وتعالى قد أسرى بعبده روحاً وجسداً من المسجد الحرام في مكة إلى المسجد الأقصى في القدس، وأنه قد كشف الغيب لسيدنا محمد عن ماضي وتاريخ بني اسرائيل وإفسادهم الأول، ثم كشف له عن الافساد الثاني المرتبط بالمسجد الأقصى، وبشّره بنصرة الله لعباده المؤمنين.

وللحديث سريعا عن آيات بني اسرايل في هذه السورة نقول:

·       ذكر الله تعالى ان بني اسرائيل ينحدرون من نسل من حُملوا مع نوح.
·       ذكر الله تعالى فساد بني اسرائيل في الأرض في المرة الأولى بصيغة المفعول أي الذي مضى (وكان وعداً مفعولا).
·       بينما ذكر الفساد الثاني بصيغة المستقبل، اي أن هذا الفساد هو نبوءة مستقبلية سيتحول إلى خبر عيان ويشهده المؤمنون. ونرجو من الله أن نشهد هذا الحدث ونكون من المشاركين فيه.
·       بعد الانتهاء من قصة سيدنا موسى وفساد بني اسرائيل قال الله تعالى مباشرة (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) ليربط قصة فساد بني اسرائيل مع فاتحة السورة والاعجاز الذي ورد فيها من ناحية الاسراء وليضيف هذه النبوءة إلى إعجاز حادثة الاسراء.

*الخلاصة: لقد ربط الله سبحانه وتعالى عقائديا بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى، ووضح ان معجزة الاسراء لا تقتصر على الاسراء بشخص وجسد سيدنا محمد بل وفي إطلاعه على أخبار الغيب من قصص بني اسرائيل وإفسادهم في الأرض، وإطلاعه أيضاً على غيب المستقبل وما سيؤول له الوضع في المكان الذي أسرى به إليه (المسجد الأقصى وما حوله)، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى هذه النبوءة التي اطلع عليها سيدنا محمد في القرآن الكريم لتكون واحدة من الدلائل على إعجازه*


هذا والله أعلم.

أيمن يوسف أبولبن
10-5-2020

الجمعة، 8 مايو 2020

*آيات استوقفتني 4 (5) البصيرة والدعوة إلى الله*



(قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المُشركين) يوسف 108
هذا الخطاب ورد إلى سيدنا محمد بعد الانتهاء من قصة يوسف، وفيه إرشاد إلهي بما يلي:

أولاً: دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم للالتزام بسبيل الله  (قل يا محمد هذه هي طريقتي المثلى في الحياة كما أرشدني لها الخالق من خلال الالتزام بالصراط المستقيم)

ثانياً: الدعوة إلى الله (أدعو إلى الله على بصيرة)

ولعلنا بحاجة إلى التأمل مليّاً في تعبير "على بصيرة"، فالدعوة إلى الله مقرونة بالبصيرة والتي تمثل "الوعي" الناتج عن العلم والمعرفة والتبصّر، فالدين لا يُتّبع بالجهل، وأنما بالعلم والإدراك.
فهذه البصيرة تُمكنّنا من التمييز بين الحقّ والباطل باستخدام التعقل والتبصّر والتدبّر. وجميعها هبات من الله سبحانه وتعالى، (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ) أي أن الانسان على إطلاع على حقيقة نفسه ومدى التزامه بعيداً عن كل الأعذار التي يسوقها.
وهذه القدرة على كشف الحقيقة، حقيقة الخلق والخالق والكون وأسرار الحياة، واستيعاب الدين بشكله الصحيح، هي شروط الدعوة إلى الله، وليس المطلوب الدعوة على جهالة ودغدغة المشاعر والاطناب في الوعيد والتهديد. ومن أجل ذلك علينا التعرّف على الدين الذي ارتضاه الله لنا (ورضيت لكم الاسلام دينا) من خلال كتاب الله سبحانه وتعالى والتدبّر فيه حتى نكون على مستوى هذه الأمانة ونكون في حياتنا مثالاً حقيقياً لعباد الله وللدعاة إلى سبيله.

ثالثاً: لاحظوا معي من هو المكلّف بالدعوة (بعد تحديد شروطها) محمد صلى الله وعليه وسلم، وأتباعه أي أن الدعوة واجبة على كل المؤمنين (كلٌ على قدر استطاعته) وليست مسألة اختيارية أو محصورة في فئة معينة بصفتها الشخصية او موقعها الاجتماعي. وهذا الاتباع يعني الالتزام، فبدون التزام بسبيل الله لا يكون للدعوة معنى ولا تأثير، والنفوس البشرية قادرة على التمييز بين الغث والسمين، صحيح أن البشر قد ينخدعون في بعض الأشخاص لبعض الوقت، ولكن سرعان ما تنكشف الأمور وتتضح الحقيقة وحينها سيسقط هؤلاء الدعاة المُخادعون ولن يكون لهم أية مصداقية تُذكر.

وفي آية أخرى يقول الله سبحانه وتعالى: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) النحل 125

وهنا تتكرر الدعوة إلى سبيل الله (الصراط المستقيم) والتي تشكّل قواعد العيش المشترك تحت مظلة الايمان بالله تعالى، وحرية العبادة، لذلك انتهت الآية بالقول: (إن ربك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمُهتدين) أي أن الله وحده يحكم على البشر من حيث الضلال والهداية وعلى البشر ألاّ ينشغلوا بهذه الأمور، بل بالتركيز على الحياة المثلى من حيث الالتزام بالقيم الانسانية المشتركة والابتعاد عن المحرمات، والتحلّي بالأخلاق.
الحكمة والموعظة الحسنة: استخدام الحكمة جزء من البصيرة، والحكمة هي القدرة على الحكم على الأمور ووضعها في نصابها الصحيح، تليها الموعظة الحسنة، وهي حسن اختيار المواعظ وغيرها من الأدلة العلمية والعملية.
وجادلهم: ومن شروط الدعوة والاجتهاد في الدين هو مقابلة الحجة بالحجة واستخدام البراهين العقلانية والمنطقية والجدال يختلف عن الخصومة أو المحاججة غير المنطقية (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَىٰ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ)

أما عبارة (بالتي هي أحسن) فهي تعني سلامة الفكرة التي تروّج لها وحسنها، بالاضافة إلى حسن النوايا، فالمطلوب هو الحسن الداخلي والخارجي أي النقاش بنية الوصول إلى الحق وليس المكر والخداع وتغطية الحق، إذ وصف الله المنافقين بقوله (ولتعرفنهم في لحن القول).


*الخلاصة: كما تحدثنا في المنشور السابق فإن الدعوة والاجتهاد والتدبّر في الدين هي واجب على كل فرد حسب استطاعته وقدرته، وهذا التدبّر يقود إلى الوعي في الدين (البصيرة) وإدراك الحكمة من اتباع تعاليم الدين وفن العيش (سبيل الله)، وهذا بدوره يُهيىء الفرد لممارسة الدعوة والحوار الايجابي ومقابلة الحجة بالحجة والابتعاد عن التزمّت والعصبية والمخاصمة*

هذا والله أعلم.

أيمن يوسف أبولبن
8-5-2020