الخميس، 29 أبريل 2021

*آيات استوقفتني 5 (3)*


*الروح* *روحنا* *روح القُدُس*

 

وردت آيات كثيرة بلفظ "الروح" بألف التعريف في إشارة إلى سيدنا جبريل، (نزل به الروح الأمين) وفي هذا إشارة واضحة إلى أن سيدنا جبريل موكل من الله سبحانه وتعالى بأمر الروح في الكون لذا وصفه الله سبحانه وتعالى بوصفه الوظيفي إذا جاز التعبير .

 

لاحظوا معي أن الله سبحانه وتعالى وصف مد البشر بسر الحياة بأنه نفخ من روح الله (نفخت فيه من روحي) وحين تحدث عن سيدنا جبريل وصفه تارة ب "الروح" وتارة بعطف الروح على الذات الإلهية "روحنا"  وتارةً أخرى ب "روح القُدُس".

 

  (فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا) 

(قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ)

 

والقُدُس في اللغة من القداسة والطُهر.

 

ملاحظة أخرى: وردت آيات عدة تحدثت عن تأييد الله سبحانه وتعالى لسيدنا عيسى ب (روح القُدُس) دون باقي الأنبياء. وقد ورد لفظ "روح القُدُس" في القرآن الكريم في أربعة مواضع ثلاثة منها كانت في تأييد سيدنا عيسى، وواحدة عن تنزيله للقرآن على قلب سيدنا محمد (النحل 102) أعلاه.

 

 (ولقد آتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس) 

 

 وهذه إشارة جلية إلى أن تشكيل سيدنا عيسى متفرد ومتميز كما كانت عملية خلقه متفردة، وأن الطاقة الروحية لدى سيدنا عيسى والمستمدة من الله سبحانه وتعالى تختلف من حيث طاقتها وقدراتها عن باقي البشر.

فما هو دلالة قوله تعالى (وأيدناه بروح القُدُس)  (إذ أيدتك بروح القُدُس) ؟

 

في هذا دلالة واضحة على تأييده بالقدرة على مد المخلوقات بسر الحياة بأمر الله وبإذنه تعالى، فكان يحيي الموتى ويخلق الطير.

 

تأملوا معي هذه الآية العجيبة والمتناسقة مع حديثنا عن ألفاظ الروح المختلفة في القرآن الكريم، والذي يتوافق معها فهمنا بإذن الله

 

(وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي)

 

لاحظوا مجددا لفظة النفخ ولكن هنا كان السر الالهي من عطايا الله سبحانه وتعالى لسيدنا عيسى عن طريق تأييده بروح القُدُس (جبريل) والموكل بروح الله في الكون.

 

 

هذا والله أعلم   

 

 

أيمن يوسف أبولبن

29-4-2021

 

#آيات_استوقفتني_5

الاثنين، 26 أبريل 2021

*آيات استوقفتني 5 (2) الروح*

 

*الروح*

 

سبق لنا الحديث عن الموت والوفاة، وعن النفس والجسد، فما هي الروح؟.

 

قلنا من قبل أن التي تموت هي النفس، بينما الجسد يفنى ويتحلل، وأن الجسد مجرد وعاء للنفس، التي تحيا وتموت بأمر الله، فيحيا الجسد بها ويمارس نشاطاته، أو يتوقف عن الحياة ويفنى. فما هي الروح؟

 

﴿ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾ الحجر: 29

 

الروح هي باختصار إكسير الحياة، هي سر الحياة الذي يمد الجسد بالطاقة اللازمة لممارسة حياته، وبدونها يتوقف الجسد عن العمل.

 

فالوفاة تحدث حين تنقطع هذه الروح عن الجسد وقد يحدث هذا قضاءً وقدراَ أو بفعل فاعل (القتل والحوادث) التي يتعطل فيها الجسد ولا يعود قادراً على العمل وفي كلتا الحالتين تكون النتيجة موت النفس ومفارقتها للجسد، الذي يصبح بلا حياة فيتحلل ويفنى.

 

ومصدر هذه الطاقة وإكسير الحياة الغامض فهو بلا شك الله سبحانه وتعالى أما الكيفية التي تعمل بها فهي ما زالت في علم الغيب بالنسبة لنا. ولكن هذه الطاقة او الروح ليست متفردة لكل شخص، ففي حين ان المرء يتميز بجسده وصفته الخلقية، كما يتميز بنفسه التي تختلف حسب طبيعة خلقه  وحسن إيمانه أو عدمه

(ونفسٍ وما سواها فألهمها فجورها وتقواها)

 

إلا أن الروح التي تمدنا بالحياة لا تصطبغ بشخصيتنا لأنها من الله وقد نسبها الله إليه وليس لأي أحد من خلقه.

 

(ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا ) التحريم : 12

 

لاحظوا معي (من روحي) (من روحنا)

وفي علوم الفيزياء وحسب قانون حفظ الطاقة فإن الطاقة لا يمكن استحداثها من العدم ولا تنعدم ولكن يمكن تحويلها من شكل لآخر. فالروح مصدرها الله سبحانه وتعالى وهي لا تنضب ولا تنعدم ولا تنقص، وقطعها أو فصلها عن أي مخلوق يعني موته، فنحن نحيا بروح الله.

 

لذا كان حقا قوله تعالى (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي)

 

وهذا يقودنا إلى القول بأن جميع المخلوقات وكافة أشكال الحياة تستمد أسباب حياتها من روح الله، فإذا انقطعت هذه الروح بأمر الله انتهت الحياة، ، فالكون كله يحيا بروح الله.

وما يميز الجنس البشري عن بقية المخلوقات ليست الروح بل النفس، فالنفس هي مستقر الارادة الانسانية وحرية القرار التي حملت على اكتافها الرسالة السماوية.

 

 (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)

 

 

لذلك كان حقا قوله تعالى (ومن قتل نفساً بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعا) فالقتل يكون للنفس وليس للجسد ولا للروح، لاحظوا كيف استخدم القتل للنفس ثم جمعها على الناس، ولو كانت عقوبة القتل على قتل الأحياء أو الأجساد لتساوت باقي المخلوقات مع البشر في الحكم. لاحظوا معي دقة البيان والوصف واستخدام المفردات.

 

وفي المنشور القادم سنتكلم إن شاء الله عن لفظ *الروح* *روحنا* *روح القُدُس*

 

هذا والله أعلم   

 

 

أيمن يوسف أبولبن

26-4-2021

 

 

 #آيات_استوقفتني_5

 

السبت، 24 أبريل 2021

*آيات استوقفتني 5 (1) بماذا سينبئنا الله؟*


 

((وَهُوَ ٱلَّذِى يَتَوَفَّىٰكُم بِٱلَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِٱلنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰٓ أَجَلٌ مُّسَمًّى ۖ ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)) سورة الأنعام  (60)

 

كما أشرنا في منشورات سابقة وفي المنهجية التي نعتمدها، فإن لكل كلمة معنى محدداً يختلف عن غييرها من المفردات، وتحدثنا أيضاً عن الموت والوفاة والفرق بينهما، وهنا يتحدث الله سبحانه وتعالى عن "الوفاة" التي تحدث عند النوم ثم بعثنا إلى الحياة من جديد إلى أن يحين أجل الموت وحينها يكون الرجوع النهائي إلى الله. ولكن الذي استوقفني في هذه الآية هو قوله تعالى

 

"ثم ينبئكم بما كنتم تعملون" وكما أشرنا سابقاً فإن النبأ يكون من علم الغيب (من خارج النطاق المعرفي للمتلقي)، ومنه جاءت النبوة (الاتيان بأنباء من علم الغيب) فكيف تكون أعمالنا من علم الغيب لنا، وبماذا سينبئنا الله؟

 

اقتصرت التفسيرات التراثية على حصر هذه الجملة بالجزاء والموافاة بالحساب. وهو جزء بسيط من المعنى الكلي.

ولعلنا إذا استرجعنا قصة العبد الصالح مع سيدنا موسى، لزال بعض الغموض، ففي هذه القصة لم يصبر سيدنا موسى على أفعال العبد الصالح ووجد فيها تناقضاً بين الرسالة التي يحملها وما علمه الله، وبين هذه التصرفات التي تبدو في ظاهرها خارجة عن كل القيم والأعراف والتعاليم السماوبة، وحين وصل الأمر إلى الفراق، قال العبد الصالح لسيدنا موسى: (سأنبئك بتأويل ما لم تسطع عليه صبراً)

فالنبأ من العبد الصالح كان مجهولا عند سيدنا موسى أي أنه من علم الغيب بالنسبة له. والتأويل هو ربط الأسباب بالنتائج والأحداث بطريقة منطقية تزيل كل غموض وسوء فهم.

 

وحين يقول الله سبحانه وتعالى (ثم ينبئكم بما كنتم تعملون) كان واجباً ان يكون هذا العلم غيباً بالنسبة لنا، أي أنه ليس ما كنا نعمل وإنما خفايا ما كنا نعمل، الوجه الآخر للأحداث التي حصلت لنا وكيفية تعاملنا معها.

 

سينبئنا الله سبحانه وتعالى بأسرار حياتنا وتجاربنا والاختبارات التي تعرضنا لها، الشدائد والمحن، أسبابها ونتائجها، سيخبرنا عن المرض والغربة والفشل والضيق والفقدان والحاجة والحروب والظلم ولكنه سيبئنا عن الوجه الآخر لهذا الأحداث، وعن حكمة الله وعفوه ولطفه.

 

ثم سينبئنا عن أثرنا في هذه الحياة،  ماذا أفدنا وماذا استفدنا، سينبئنا عن أثر أعمالنا، بدءاً من الكلمة الجميلة أو القبيحة ونهاية بأخلاقنا الكليّة وضررنا أو نفعنا للناس، عن الايجابيات التي زرعناها والسلبيات التي نشرناها، عن الضيق الذي فرجنا به عن الآخرين، وعن المصائب التي تسببنا بها عن علم وعن قصد أو بلا علم أو قصد!

سينبئنا بأثر أعمالنا التي لم نكن نعلم عنها شيئا.

(أفحسبتم إنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون)

 

ومن هنا تأتي ضرورة تصفية الحسابات أولاً بين الله وعباده من جهة، ثم بين البشر جميعا من جهة أخرى، فتنتهي الخلافات وتعاد الحقوق لأصحابها فتصفى النفوس ولا تعد هناك مظلمة أو حسد أو بغض.

وهذا بالنهاية يقودنا إلى النتيجة النهائية الإجمالية عن أعمالنا وجزائنا. وصدق الله العظيم حين قال :

(كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا)

 

وقبل دخول الجنة ينزع الله فتيل الغل والبغض من نفوس أهل الجنة فلا يعد هناك لا شحناء ولا بغضاء وهذه هي قمة الصحة النفسية والسلام الداخلي.

(وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) 

 

 

اللهم اجعلنا ممن حسنت أعمالهم واستبشروا بلقائك.

 

هذا والله أعلم.

 

أيمن يوسف أبولبن

24-4-2021

 

 #آيات_استوقفتني_5

الجمعة، 23 أبريل 2021

آيات استوقفتني الجزء الخامس


 

#آيات_استوقفتني_5

 

بسم الله نبدأ العام الخامس من هذه الدراسة

 

نستمر بإذن الله تعالى في استكمال مشروع "آيات استوقفتني" في عامه الخامس.

ولمن فاته الموضوع نقول باختصار إن فكرة هذا العمل، هي إلقاء الضوء على مجموعة من الآيات القرآنية والتفكّر فيها، للخروج بفهم جديد أو التركيز على دلالة خافية، من خلال التفكّر والبحث وإعادة القراءة خلال الشهر الفضيل. برجاء التوفيق من الله.

 علماً بأن ما يرد في هذه المواضيع، هو مجموعة من الاجتهادات الشخصية النابعة من البحث والمتابعة للعديد من المؤلفات والكتب المختصة، على مدار سنوات طويلة، وهي بالتأكيد محاولة تحتمل الصواب والخطأ.

 

أتمنى عليكم مشاركة أفكاركم والتفاعل مع الموضوعات، مع حرية مشاركتها أيضاً مع أصدقائكم.

ومن أجل الفائدة هذا الرابط يحتوي جميع مشاركات الأعوام الماضية.

 

الجزء الرابع

 

الجزء الثالث

 

الجزء الثاني

 

الجزء الأول

 

 وكل عام وأنتم وأحبابكم بألف خير

 

وقبل أن نشرع في استعراض الآيات، أود استرجاع بعض الركائز الأساسية لمنهجية القراءة المعاصرة لكتاب الله عز وجل، والتي تناولناها في الأعوام الماضية، وهي المنهجية التي نعتمد عليها في بحثنا هذا:

 

1.     *عدم استخدام الترادف*، بمعنى أن الله عز وجل استخدم كل مفردة للدلالة على معنى خاص لا يتم إلا باستخدام تلك المفردة، وإن أي تشابه في المعنى بين مفردات الكتاب يجب أن يزول حتى يستبين المعنى السليم للآية ومراد الله منها.

 

على سبيل المثال *الوالد غير الأب، والرسول غير النبي، والصلاة غير الصلوة، والعباد ليسوا العبيد، والقول غير النطق* والأمثلة كثيرة، حيث يتم استخدام كل كلمة في مكانها المناسب لتدل على معنى خاص.

ملاحظة: لا يشترط ان يكون المعنى متقاطعاً أو مختلفاً بين الكلمتين، بل عادةً ما يحمل دلالة مشتركةً فعلى سبيل المثال الصلاة هي دوام الصلة بين العبد والله من حيث الذكر واستذكار الوصايا ..الخ، في حين جاءت الصلوة للدلالة على شعيرة الصلاة الحركية، وهنا يتضح ان الصلاة ذات دلالة عامة، بينما الصلوة لها دلالة خاصة.

 

2.     "ثبات النص وحركة المحتوى"، بمعنى أن النص القرآني (الثابت في نصّه) قادر على احتواء تراكم المعرفة البشرية وتطور العلوم. ولهذا اهمية كبيرة في عدم تحديد النص القرآني بفهم عصر التنزيل وإقفال باب الاجتهاد فيه.

 

3.     *عدم وجود إطناب وحشو زائد*، على عكس الأدب والشعر الجاهلي، فلكل كلمة فائدة وإضافة للمعنى بحيث لا يكتمل فهمنا او تفسيرنا للآية دون أخذنا بالاعتبار لكل كلمة وليس للمعنى العام فقط، وهذا يعني بالضرورة أننا إذا حذفنا كلمة ولم يتغير فهمنا او تفسيرنا للآية فذلك يعني قصوراً في فهم تلك الآية.

 

4.     *انسجام كلام الله وعدم وجود اضطراب في المعنى*، فحيثما وجد اشتباه في تعارض الآيات، يكون ذلك دليلاً على مشكلة في الفهم، وهذه المشكلة هي التي أدّت بالقول إلى وجود نسخ في آيات القرآن.

 

5.     *صلاحية الكتاب لكل زمان ومكان وأنه رسالة عالمية أبدية*، لهذا علينا حين نفسر القرآن ان لا نضع إطاراً زمكانياً أو موضوعياً يقيّد من فهمنا، وبناء عليه فإن محاولة قصر فهمنا للآيات بناء على مناسبات النزول سيؤدي الى فهم ناقص وعاجز عن استيعاب التغيرات المعرفية.

 

ملاحظة: استخدمت كتب التراث مصطلح أسباب النزول، وهو مصطلح خاطئ والصحيح مناسبة النزول، حيث ترافق نزول بعض الآيات مناسبة معينة ولكنها ليست سبباً للنزول.

 

6.     *فهم الآيات من خلال سياق النص الكلي*، حيث أن سلخ آية أو جزء منها عن النص ومحاولة تفسيرها أو استنباط المعنى المجزوء، سيؤدي الى فهم خاطئ، حيث أن ترتيب سور وآيات القرآن الكريم جاء من عند الله تعالى، وهو وقف لا يجوز تجاهله او محاولة تفسير الآيات جزئياً.

وهذا يفيد أيضاً بأن أي محاولة لفهم الآيات بناء على ترتيب النزول التاريخي، هي محاولة محكوم عليها بالفهم الخاطئ.

 

7.     *جمع الآيات موضوعيا (ترتيل الآيات)* ودراستها من أجل ربطها موضوعياً والاجتهاد فيها على عكس ما فعله المفسرون الأوائل حين فسّروا الآيات بناءً على الفهم التاريخي لها حسب ترتيب النزول، لا بالفهم الموضوعي لها.

إن فهم القرآن ينبع من التبحّر في داخله والقراءة المتأنيّة بنيّة التدبّر وعرض بعض الآيات على البعض الآخر لمقاربة الفهم وإزالة الشك، وإن فهم قواعد الخطاب القرآني ككل، والأسلوب اللغوي، هو شرط لفهم آيات الكتاب.

 وهذا الترتيل يتيح لنا فهم النصوص من خلال مقاربتها، فالتنزيل الحكيم لا يناقض بعضه بعضا بل انه يفسر بعضه بعضا، وهذا الترتيل من شأنه أيضاً أن يرفع شبهة الناسخ والمنسوخ، فكتاب الله لا ينسخ بعضه بعضاً، بل يُكمل بعضه بعضاً.

 

وعطفاً على هذا القول، فإننا نقول إن محاولة فهم مجموعة من الآيات أو موضوع معين في الكتاب إعتماداً على البحث بالكلمات الدلالية في القرآن، دون أن يكون الشخص ملماً بفهم القواعد الكليّة للقرآن الكريم، ودون أن يكون باحثاً ومطلعاً على كامل القرآن هي محاولة ستؤول إلى فهم مشوّش وناقص بالتأكيد.

 

ودائماً ما أعلق على هذه المحاولات بالقول، إذا كان الكاتب في مجالات الأدب والفن أو العلوم أو التاريخ، يفقد مصداقيته حينما يكتب عن كتاب لم يقرأه شخصياً بالكامل ويستوعب كل فصوله وأفكاره، او عندما يقوم بتحليل عمل فني لم يشاهده بنفسه، فما بالكم بكتاب الله عز وجل!

 

8.     *عدم الاعتماد كلية على النقل والمرويّات لتفسير آيات الكتاب* كما اعتمد عليها المفسرون الأوائل حين انحصرت مهمتهم في تبيان المرويّات والتفضيل بينها، بل يجب إعادة فهم الآيات بمفهوم عصرنا ضمن قواعد تجمع بين التفسير والتاويل.

 

9.     *استخدام قواعد التفسير*

 

أولاً الالتزام بقواعد اللغة العربية والاعتماد على معاجم اللغة للربط بين الكلمات وأصولها وبين معانيها ودلالاتها، فالتنزيل الحكيم استخدم اللغة العربية كوعاء، ورغم أنه ارتقى بها وأثرى مفرداتها اللغوية وأعطاها بعداً جديداً، إلا أنه لم يتعارض مع قواعد اللغة ولم يقفز عنها.

 

ثانياً دراسة مناسبات النزول وفهم الجيل الأول لها، لأن فهم مناسبات النزول وربط التنزيل بالواقع المعاش ضروري لاستنباط الحكم الخاص للآيات، غير أن هذا الفهم "الأولي" لا يجب أن يكون سقفاً لنا، إذ يجب علينا بعد ذلك، الاجتهاد في إدراك الحكم العام للآيات كما نفهمه نحن في يومنا هذا، وكما يمكن تطبيقه ضمن قواعدنا المعرفية وظروف عصرنا.

بمعنى آخر، علينا أن نربط بين التنزيل الحكيم وواقعنا المُعاصر كما قام المسلمون الأوائل بفهمه وربطه بواقعهم، لا العكس، فليس المطلوب اجترار أو استنساخ الواقع المعاش في القرن الأول للهجرة.

 

10. التأمل والاجتهاد – حركة الذهن - (الربط المنطقي بين مُعطيات النص ومُعطيات العصر) وهو ما يطلق عليه التأويل أو التدبّر، من خلال التأمل والاجتهاد الشخصي اعتماداً على البصيرة والعلم والمعرفة.

فحين نقرأ عبارة (تأويل الأحاديث) نفهم أن سيدنا يوسف كان يربط بين الحديث الذي يرويه الشخص عن رؤياه وبين مآل هذه الرؤيا أي كيفية تحقّقها على أرض الواقع.

ونفهم أيضاً أن سيدنا موسى عجز عن الربط بين تصرفات العبد الصالح وبين مفاهيمه الدينيّة وقيمه الانسانية الذاتية، فوقع في نفسه ذلك الالتباس، وحين جاءه التبيان زال الالتباس (ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً).

 

أما التأويل الذي يعتمد على الميول الأيدلوجية والأهواء الشخصية دون نهج، فهو التأويل المذموم والمنهي عنه (فأما الذين في قلوبهم مرض فيتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله).

 

وما يساعدنا على تحقيق ذلك الاجتهاد، أن نعامل التنزيل الحكيم بما يليق به من قدسيّة نصٍ وصلنا من خالق هذا الكون، وهو بذلك لا بد أن يحتوي الدقة والبيان والتفصيل والاعجاز في نظمه، لذا لا يصح معاملته معاملة الأدب أو الشعر .

 

 

ونبدأ إن شاء الله تعالى بدءاً من يوم الغد، بأولى الوقفات التدبريّة مع التنزيل الحكيم.

 

أيمن يوسف أبولبن

23-4-2021

الاثنين، 5 أبريل 2021

بقرات بيت ساحور

 



 

في غمرة أحداث الانتفاضة، ثمّة قصص إنسانية تعبر عن إرادة الشعب ورفضه الخضوع لذهنيّة الاحتلال، والقبول بترويض أحلام التحرر والاستقلالية والعيش بكرامة وأنفة. كثيرٌ من هذه القصص والحكايات مضى مع الزمن ولم يجد من الاهتمام الاعلامي والرسمي إلا القليل، رغم انه يستحق الاشادة والتنويه.

من هذه القصص والحكايات التي لا تخلو من التخطيط والتنفيذ على أعلى المستويات، ولا تخلو من الطرفة أيضاً، قصة أهل بيت ساحور مع تربية الأبقار.

 

بدأت الحكاية في بيت ساحور، تلك البلدة المتاخمة لبيت لحم، والتي حجزت لها مكاناً في الذاكرة التاريخية لأهالي المنطقة، منذ كان للرعاة فيها موعدٌ مع بشارة مولد المسيح عليه السلام.

وفي التاريخ الحديث، قرر أهالي البلدة إعلان العصيان المدني ورفض الخضوع لقانون الضرائب الاسرائيلي، كشكل من أشكال المقاومة الشعبية، التي وصلت ذروتها بما بات يُعرف ب "الانتفاضة الأولى" بين عامي 1987-1993.

 

واستمراراً لهذا النهج الذي اتخذه اهالي بيت ساحور، كان لا بد من مقاطعة كافة المنتجات الاسرائيلية، والبحث عن بدائل أخرى.

 

للوهلة الأولى، قد لا يظن أكثر المتفائلين أن هذا العصيان المدني ومقاطعة البضائع سيصمد اكثر من أيام معدودات، أو أسابيع قليلة، بالأخذ بعين الاعتبار الحصار الذي تفرضه قوات الاحتلال على المناطق الفلسطينية، ونقاط التفتيش، والحواجز، والضائقة المالية والاقتصادية التي تعاني منها جميع المدن الفلسطينية. ولكن المثير للدهشة، أن اهالي بيت ساحور رغم كل تلك الظروف، ورغم الاعتقالات والتعذيب، والتهديد، استطاعوا تنفيذ مخطط استراتيجي بعيد المدى لخلق بدائل عن المنتجات الاسرائيلية الأساسية وأولها الحليب، مما وضع جيش الاحتلال في ورطة اقتصادية-فكرية-ثقافية ناهيك عن الورطة العسكرية!

 

شكّل اهالي بيت ساحور لجاناً شعبية مهمتها توفير البدائل المناسبة لاحتياجات البلدة، والتوقف عن استهلاك أي بضاعة اسرائيلية. ومن أجل ذلك كان لا بد من البحث عن مصدر بديل للحليب وهي مادة أساسية لا غنى عنها. ومن هنا فقد تم طرح فكرة تربية مجموعة من الأبقار في البلدة مع إبقاء مكان وجودها سراً والعمل على رعايتها وتوزيع الحليب على أهالي البلدة من منتجاتها عبر اللجان الشعبية وبالسر أيضاً.

 

كانت في البداية مجرد فكرة، تبدو في الوهلة الأولى بعيدة المنال، ولكن عندما توجد الارادة تنتفي كل الحواجز والمعوقات. قام أهل البلدة بشراء مجموعة من الأبقار من مستوطنة قريبة ونقلوها بسرية كاملة إلى حظيرة تم تخصيصها لهذا الغرض، وبدأ مسلسل الاكتفاء الذاتي ورفض التبعية الاقتصادية للمحتل، بوسائل تقليدية بسيطة رغم شح الموارد وقلة الخبرات ونقص الرعاية.

 

وفي ليلة وضحاها، أصبحت بيت ساحور تلك البلدة الصغيرة شوكة في حلق العدو وقصة كفاح وتحد، بل ومدعاة للسخرية من هيبة دولة الاحتلال وأسطورة الجيش الذي لا يقهر، حيث وقفت كل الوسائل الأمنية عاجزة عن كسر إرادة اهالي هذه البلدة ومن خلفهم باقي المدن والبلدات الفلسطينية.

 

المثير للسخرية أن هاجس جيش الاحتلال بات يتمثل في مطاردة تلك البقرات والقاء القبض عليها باعتبارها تهديداً للأمن القومي الاسرائيلي، مما يجعل من هذه القصة أشبه ما يكون بروايات الفانتازيا. ولولا أننا عايشنا الحدث وشهدناه لقلنا إنها قصة خيالية، وهذا ما يؤكد أن الواقع عندما يقترن بالارادة والتصميم يصبح أغرب من الخيال!

 

بلدة بيت ساحور شهدت حصاراً عسكرياً لكسر إرادة الأهالي، وقد تم استخدام كافة الوسائل بما فيها الطائرات العسكرية للبحث عن حظيرة الأبقار تلك. فيما استمر الأهالي في نقل الأبقار وتغيير مكانها مع الحفاظ على خط الانتاج والتوزيع في ذات الوقت!

 

التفكير خارج الصندوق والابداع في التنفيذ، ثم التصميم على نجاح المشروع وتكاتف الأهالي هو ما جعل لهذه  القصة بعدا إنسانياً وحضارياً، بل إنه يؤسس لمنهجية عقائدية في مقاومة الاحتلال ورفض كل أشكال التطبيع والانصهار في دولة الاحتلال.

 

ولعل المحزن والمؤسف أن كفاح الشعب الفلسطيني الذي وصل ذروته في الانتفاضة الأولى، لم يصل إلى مبتغاه وتم إجهاضه في سبيل الوصول إلى إتفاق مهين لا يراعي أدنى حقوق الفلسطينيين.

 

ولم تتوقف الآثار السلبية لهذا الاتفاق على اجهاض الجهود الشعبية للفلسطينين في الداخل، بل إنه مهّد الطريق لعقد اتفاقات سلام مماثلة مع باقي الدول العربية أسوة بما فعلته السلطة الفلسطينية.

 

واليوم ونحن نشهد اتساع رقعة الاعتراف باسرائيل وتطاير الاتفاقيات االاقتصادية والمشاريع المشتركة مع دول المنطقة، لا يسعنا إلا ان نستذكر تلك الملاحم البطولية التي خاضها أبناء الشعب الفلسطيني، وتدوين احداثها وتفاعلاتها أملاً في أن توقظ ضمير الأمة ولو بعد حين!

 

كانت بقرات بيت ساحور حاضرة في رواية "دبابة تحت شجرة عيد الميلاد" للروائي الفلسطيني ابراهيم نصر الله التي حازت على جائزة كتارا عام 2020، ومنها أقتبس ما يلي:

 

((- الرجال لا يبكون هنا-

 ومتى على الرجال أن يبكوا، هنا، يا خالتي؟ هل عليهم أن يحبسوا دموعهم إلى الأبد، إنهم يفاجئوننا بالموت، كل مرة يفاجئوننا، حتى قبل أن نبكي البكاء الذي كان علينا أن نبكيه، لا أريد أن أبكي في القبر أو في الجنة أو في الجحيم، أريد أن أبكي هنا، جورج يريد أن يبكي هنا، ليقول لهم إنه حي، وإنهم يؤلمونه، وإنه لن يغفر لهم، أريد أن يخافوا من بكائي، لأن عليهم أن يعرفوا أن عليهم أن يدفعوا ثمن هذا البكاء يا خالتي))

 

كما تم إنتاج فيلم فلسطيني عام 2015 بعنوان "المطلوبون ال 18" -نسبة إلى البقرات- عمل فيه المخرج الفلسطيني عامر الشوملي على المزج بين الرسوم المتحركة والمشاهد التمثيلية إضافة إلى شهادات الشخوص التي عاصرت الحدث، لمحاكاة أحداث الإنتفاضة في بيت ساحور. وقد نال الفيلم عدة جوائز وترشيحات دولية.

 

إن قصة بقرات بيت ساحور تختصر في طياتها، القدرة التنظيمية للشعب الفلسطيني، والالتزام الجماعي والفردي في كل المجالات (الزراعة، الانتاج الحيواني، توزيع المنتوجات، النظافة، العمل الخيري....إلخ) كل هذا بموارد محدودة وتحت حصار عسكري متشدد، وهذا ما جعل من بيت ساحور تهديداً حقيقياً للأمن الاسرائيلي، وفي النهاية استطاع أهل هذه البلدة كشف ضعف ووهن دولة الاحتلال.

 

وهذا ما يدفعني للقول بأن كفاح الشعب الفلسطيني غير محصور أبداً في المقاومة المسلحة، بل إن وراء هذه المقاومة المسلحة أفراداً وجماعات وعائلات ومجتمعات صغيرة قادرة على احتضان العمل الوطني، وتنشئة الأجيال التي تتسلح بسلاح المقاومة المدنية والحضارية والتاريخية والثقافية والفكرية والسياسية إضافة إلى حمل السلاح، بل إننا نثبت يوماً بعد يوم، أننا شعوباً قادرة على إنتاج قيادتها، دون وصية أحد. لا شكّ إذاً، اننا نشكّل تهديداً للأمن القوميّ!

 

إن صراعنا مع المحتل هو صراع هوية وحضارة في الأساس، ونتيجته الحتميّة أننا أمة ترفض أن تموت!

(( إحنا إللي رمينا الهوية

في بيت ساحور الأبية

مسلمين و مسيحية))   

 

 

أيمن يوسف أبولبن 

كاتب ومُدوّن من الأردن

4-4-2021

 

الجمعة، 26 فبراير 2021

الفرص الضائعة من أعمارنا!



في دراسة مثيرة نشرتها الممرضة الأسترالية "بروني وير" عبر تدوينات متلاحقة، ناقلة بدقة وأمانة لا يخلوان من المشاعر الإنسانية، والأدب الراقي، ما يمكن وصفه بالوصية الأخيرة لعدة مرضى أتاح لها عملها رعايتهم في أسابيعهم الأخيرة، قبل أن يترجلوا عن صهوة جوادهم.


ثم قررت "بروني" بناءً على المتابعة الكثيفة لمدوّنتها، والتفاعل معها، إلى نشر هذه اليوميات والانطباعات في كتاب أطلقت عليه عنوان "أهم خمسة أشياء يندم عليها المرء عند الموت". 

وكأن هذه الممرضة الأسترالية أرادت أن تنقل لنا من قلب غرفة العناية المركزة، خلاصة التجارب الحياتية، والوصايا المقدسة التي يمكن للمرء أن يورثها للجيل الذي يتبعه، لعله يستفيد من أخطائه وعثراته، ولا يرتكب ذات الأخطاء، ويكرر مرارة التجربة. أعني تجربة الندم، حين يدرك الفرد فينا، دنو أجله، وقصر عمره، وتوقف نشاطه، ومحدودية الأهداف والإنجازات التي يمكن أن يحققها أو يطمح لها.


على طول الخط الزمني الذي ينتقل بنا من مرحلة إلى أخرى، أو نتنقل نحن على متنه في رحلتنا الغرائبية، نتعرض وبشكل دوري إلى محطات تدعونا للتوقف قليلا، واستعراض شريط حياتنا بعين التجرّد والتأمل.

ومع هذه المراجعة النقدية، لأسلوب حياتنا وقراراتنا نستشرف المستقبل متطلعين إلى حياة أفضل ومتأملين أن يغدو الواحد فينا، إنساناً أفضل! نعم هذا هو الهدف الأوحد والأكثر نبلاً على سلم الأولويات الانسانية، رغم اختلافنا على تحديد ماهية هذا "الأفضل"!


الدرس الأول الذي تذكره بروني في كتابها، هو "امتلاك الشجاعة كي يعيش المرء حياته كما يريد وليس كما يتوقع منه الآخرون".

 

من اكثر الأشياء التي تجلب الندم للمرء، أن يعيش حياته كما يحددها له الأخرون، والآخر هنا قد يكون المجتمع أو العائلة، او المسؤول في العمل. إن الفرد فينا قادر على التكيف مع الواقع والتخلي عن احلامه بشكل مخيف، بل إننا نميل في معظم الأحيان إلى تطويع خياراتنا الشخصية لتتوافق وتتلاءم مع الآخرين، متجاوزين رغباتنا الحقيقية، وأحلامنا الفتيّة في الحياة، وغالباً ما نفشل في إدراك تلك الحقيقة إلا في وقت متأخر، بل ومتأخر جدا!


أما الندم الثاني فكان "قضاء وقت أكثر مما ينبغي في العمل"، على حساب لحظات حياتية كان من الممكن أن تكون لحظات فارقة في حياتهم لو استغلوها بشكل مختلف. 

ومن اللافت أن هؤلاء الأشخاص الذين كانوا على وشك مفارقة الحياة، أقروا بأن بساطة الحياة والابتعاد عن ضغوطات العمل الزائدة عن الحد، كفيل بتحقيق السعادة حتى ولو كان ذلك على حساب الدخل المادي. 


أما الندم الثالث فكان الندم على "عدم التحلي بالشجاعة الكافية للتعبير عن المشاعر"، حيث أن كبت المشاعر أدى بهم في كثير من الأحيان إلى علاقات سلبية، واستياء داخلي متراكم. 

حيث كانت أمنية هؤلاء أن يعود بهم الزمن إلى الوراء للتعبير عن مشاعرهم بكل أريحية وأن ذلك كان سيؤدي بهم إلى علاقات أكثر صدقاً ووضوحاً، ولكان أيضاً ساعدهم على التخلص من علاقات سلبية أثّرت على مسار حياتهم أو بناء علاقات أكثر حميمية وجلباً للسعادة.


وفي المرتبة الرابعة، جاء الندم على "عدم المحافظة على الأصدقاء الحقيقيين". لقد أقرّ هؤلاء بأنهم لم يبذلوا الجهد الكافي لبناء صداقات جيدة أو المحافظة على صداقات حقيقية قائمة، بسبب أولويات أخرى.

اللافت للانتباه أن الوصيّة التي خلفها هؤلاء من ورائهم، ركّزت على أن حب الأصدقاء ودوام العلاقة الطيبة معهم، هي أهم بنظرهم من النجاح في جمع المال أو النجاح المهني الذين سعوا إلى تحقيقهما .


أما الندم الخامس والأخير في القائمة، فهو أمر يستدعي الدهشة والاستغراب، "أتمنى لو أنني سمحت لنفسي بمزيد من السعادة" وهو ما يشير إلى حالة تناقض الذات التي نعيشها!

أستطيع القول أننا وفي خضم سعينا نحو السعادة، نسمح لأنفسنا أن نقولب ذواتنا في قوالب تجعل منا أكثر نجاحاً في أعين الآخرين، ولكننا وإذ نفعل ذلك، نكون أبعد ما يكون عن السعادة الداخلية، والراحة النفسية، وإرضاء الذات! بل إننا نسمح لأنفسنا وفي معظم الأحيان، أن نلعب دور البلسم الشافي، ومصدر السعادة والدلال لمن حولنا، على حساب سعادتنا (أتمنى لو أنني سمحت لنفسي بمزيد من السعادة!).


مما نستفيده من هذه النصائح، ومشاعر الندم في الختامات، أن الندم هنا يتمحور حول مساقين منفصلين نظرياً، ولكنهما يتقاطعان في النهاية. الأول هو الندم على أشياء لم نفعلها، أما الثاني فهو الندم على أشياء فعلناها بالفعل، حيث يكون الندم أكثر بكثير في الحالة الأولى، لسبب بسيط، أننا لم نعش تلك التجربة، لذلك يستمر معنا الشعور بالحرمان طوال الحياة، دون أن نستطيع التخلص منه. 

في حين لو أننا أخطأنا في فعل ما، فإن الندم والتكفير عنه كفيل "في أحيان كثيرة" على منحنا الإحساس بالرضى عن ذواتنا ولو بشكل نسبي.


إن تفويتنا لمناسبة عائلية أو إهمالنا للحظة خاصة تجمعنا بالأصدقاء، أو ترددنا في اتخاذ قرار أخلاقي كان واجباً علينا، أو عدم امتلاكنا الشجاعة الكافية للبوح بمشاعرنا والتعبير عنها، وتغليفها بالحزم والرسميات والجمود غالباً ما يورثنا الندم الذي لا ينفع معه الزمن!


والحديث هنا يدفعني لإلقاء الضوء على نظرية لها علاقة مباشرة بالندم الذي نتحدث عنه، وهي "نظرية الفرصة الضائعة"، وقد طرحت في الأساس في مجال الاقتصاد والإدارة وتقول، إن كل شخص يُقدم على اتخاذ قرار ما، فإنه مُطالب بأن يدرس قراره بشكل منطقي، وهذه الدراسة تستدعي تحليل كافة المتغيرات والعوامل المحيطة بشكل علمي وبناءً على معلومات موثوقة ودقيقة. ولكي يكون هذا القرار رشيداً، عليه أن يضع في الحسبان كل الخيارات المطروحة، وليس خياراً واحداً فقط، ثم القيام بالمفاضلة بينهم بعد الدراسة والتحليل.

وبناءً على ما سبق، فإن مقابل كل خيار نتخذه، هناك فرصة ضائعة أسقطناها من حساباتنا، وهذا ما يُسمّى بالفرصة الضائعة؛ ففي حال قيامك باتخاذ خطوة استثمارية خاطئة لا تكون قد خسرت في استثمارك ذاك فقط، بل تكون قد أضعت فرصة أخرى ناجحة من يدك، ولم تعد الآن في متناولك!


ومن هنا يمكن القول -ولو من باب الفلسفة النقدية- إن مقابل كل ساعة تقضيها في عملك فائضةً عن الحاجة، هناك ساعة مفيدة كان بالإمكان أن تقضيها في القراءة أو الاستجمام، او الترفيه عن النفس. في مقابل كل ساعة فراغ تمر من عمرك بلا طائل، هناك ساعة كان يمكن فيها أن تتقرب إلى الله، أو أن تزور رحمك، أو ان تُحسن إلى جارك.

في مقابل المال الذي تقرر أن تدفعه على نزواتك، هناك فرصة ضائعة في أن تصطحب عائلتك إلى مطعم هادىء وأن تستمتعوا جميعاً بوجبة مسائية وسهرة عائلية. في مقابل كل تردد في محادثة أحد الأصدقاء أو المماطلة في ود أحدهم هناك فرصة صداقة ضائعة، وسلام نفسي كان يمكن أن تكتسبه.


تُرى، كم هي الفرص الضائعة التي نقفز عنها في حياتنا، ولا نلقي لها بالاً؟!  


خلاصة القول، إن أسلوبنا في العيش يجب أن يراعي التوازن بين أهدافنا في الحياة، وأن خلف كل خيار، فرصةٌ ضائعة!


أيمن يوسف أبولبن 

كاتب ومُدوّن من الأردن

26-2-2021

السبت، 16 يناير 2021

أهمية اسم المنتج في ذهن المستهلك

 

 


في إطار حملة توعوية لتغيير تصورات المستهلك عن علامتها التجارية ، قامت شركة Payless بحيلة دعائية أدت ببعض الشخصيات العامة والمشاهير والمؤثرين في عالم الموضة إلى دفع نحو 600 دولارًا مقابل أحذية لا يتجاوز سعرها أكثر من 40 دولارًا !!

وفي التفاصيل فقد قام المسؤولون عن الحملة بإنشاء علامة تجارية مزيفة " Palessi " ورصدوا لها إعلانات ضخمة على انها ماركة تجارية راقية جديدة في السوق، ووضعوا لافتة على أحد المتاجر الراقية، وقاموا بتكديس المتجر بأحذية تُباع في Payless بأسعار لا تتجاوز 40 دولارا، ثم أقاموا حفل افتتاح ضخم دعوا  له كبار الشخصيات للاحتفاء بالعلامة التجارية الجديدة.

المفاجأة كانت أن هذه الشخصيات المعروفة في عالم الموضة والأزياء أشادوا بتصميم وتصنيع أحذية الماركة "الراقية" ودفعوا ما يصل إلى 600 دولارًا مقابل الحذاء الواحد!!

بعد الحفل قام الفريق القائم على الحملة بكشف تفاصيل "الخدعة" وتصوير ردة فعل هؤلاء الأشخاص ثم قاموا بنشر هذه المقاطع ضمن الحملة الخاصة بشركة Payless.

 

تعليق:

الهدف من الحملة كان للتأكيد على أن منتجات Payless تحقق التوازن الصحيح بين الجودة والسعر للمستهلك، ولكنها من ناحية أخرى تؤكد بوضوح التوجه الاستهلاكي للبشر الذي يرفع من قيمة المنتج بناء على "العلامة التجارية BRAND NAME" وليس بناء على جودة المنتج ، بل إنه في بعض الأحيان يتوجه بعض المستهلكين إلى البضاعة الأعلى سعراً لظنهم أن ارتفاع السعر هو مؤشر على ارتفاع نسبة الجودة.

  

أيمن يوسف أبولبن

17-11-2020