*آيات استوقفتني (الجزء الأول)*
فكرة "آيات استوقفتني" بدأت قبل نحو
عشر سنوات، وهي باختصار تدوين الآيات القرآنية التي تستوقفني أثناء قراءة القرآن وتدعوني
الى التفكّر والبحث والقراءة وتصبح علامة فارقة ضمن برنامج القراءة اليومية للقرآن
خلال الشهر الفضيل.
صحيح أن القرآن الكريم بمجمله يستدعي التوقف
عند كل آية وعند كل كلمة، ولكن هناك بعض الآيات التي لها خصوصية ورمزية وتختلف هذه
باختلاف القارئ.
وقد قمت سابقاً بتفعيل هذه الفكرة ومشاركة
آية واحدة يوميا خلال الشهر الفضيل مع إدراج تعليق وشرح بسيط حول خصوصية تلك الآية
عبر الإيميل والمجموعات البريدية ولكني لم أثابر عليها حينها.
وبناء عليه سأقوم بالاجتهاد خلال هذا الشهر
الفضيل، بمشاركة آية أو مجموعة من الآيات مع فكرة بسيطة حولها، وسأحاول أن أجعل
هذا النشاط يومياً (عدا الجمعة والسبت) وأرجو أن أوفق في ذلك.
ملاحظة: يمكنكم ابلاغي بعدم الرغبة باستقبال
الرسائل لمن لا يرغب، وأتمنى عليكم مشاركة أفكاركم والتفاعل مع الرسائل.
وكل عام وأنتم وأحبابكم بألف خير
أيمن
أبولبن
27-5-2017
*آيات استوقفتني (1)*
*(إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ
رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)*
سورة البقرة 62
إن هذه الآية تحدّد القواسم المشتركة بين
الديانات السماوية من عهد نوح الى عهد سيدنا محمد (ص) وهذه القواسم هي أساس رسالة
الإسلام العالمية التي تشترك بها كل الديانات *(توحيد الله، الإيمان بالبعث ويوم
الحساب، والعمل الصالح)* وتؤكد أن من يلتزم بهذه الأساسيات سيلقى الثواب والجزاء
الحسن وسيكون له نصيب في الآخرة على اختلاف ملته وعلى قدر عمله.
وهي دعوة للتعايش المشترك على أساس هذه
القواعد، مع مراعاة عدم مسؤولية البشر عن محاسبة بعضهم البعض على إيمانهم لأن هذه
المهمة هي مهمة الله وحده، أما ما يهمنا فهو العمل الصالح والذي يعني الالتزام
بمجموعة القيم الإنسانية واخلاقيات المجتمع الواردة في الرسالات.
وفي هذا رد على كل خطاب متطرف يهدف الى حصر
رضى الله ونيل الثواب في ملة واحدة محددة، ويعمل على تكفير الآخر ومهاجمة
معتقداته، وهناك آيات عديدة فيها كلام صريح وواضح لسيدنا محمد بأن مهمته هي البلاغ
فقط دون إكراه، أما الهداية وحساب البشر فليست مسؤوليته، وهذا هو النهج الذي علينا
ان نلتزم به، بيان ونشر رسالة الإسلام والتركيز على قواسم العيش المشترك، وترك
باقي الأمور لله سبحانه وتعالى.
هذا والله أعلم
أيمن
أبولبن
28-5-2017
تعقيبا على آيات
استوقفتني
السلام عليكم
وصلتني بالأمس ردود
فعل عديدة حول الآية التي تناولتها بالأمس، وقد انقسمت الردود بين مؤيد ومتفهّم
لرأيي وبين معارض ورافض، ولكن السمة الغالبة على الردود كانت لغة الحوار والنقاش
وهذا هو المهم.
أنا سعيد جداً بهذا
التواصل وتبادل المعلومات وأتمنى ان يستمر هذا التفاعل مع جميع الآيات التي
سأتناولها، ولكني أود التنبيه الى نقطتين هامتين، الأولى أني لا أدّعي علم التفسير
بقدر ما هو اجتهاد ومثابرة ومطالعة للعديد من مؤلفات العلماء والمفسرين والدعاة عبر
سنين طويلة استطعت من خلالها تكوين مجموعة من الأفكار حول تجديد الخطاب الديني،
وانا أسعى لمشاركتها معكم، دون احتكار او ادعاء للحقيقة. هي في النهاية اجتهادات
قد تصيب وقد تخطأ ولكن المهم ان نناقشها بمنطق القرآن والعقل والدليل على الفكرة،
دون مواقف مسبقة مبنية على فهمنا المتوارث التي قد لا تكون مناسبة لعصرنا.
النقطة الثانية،
أننا ما زلنا مع الآية الأولى، وهناك العديد من الآيات التي تستدعي الوقوف عندها وفهمها
بطريقة مختلفة، لذا أرجو ان لا تستعجلوا في الحكم، وأعتقد انه مع مرور الأيام
وتناول آيات أخرى ستتوضح العديد من النقاط التي ستكون مهمة لترابط الأفكار مع
بعضها البعض والخروج بنتيجة نهائية.
تحياتي لكم جميعا،
سعيد وفخور بالتواصل معكم جميعا.
أيمن أبولبن
29-5-2017
*آيات استوقفتني (2)*
*(وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ
الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين* ( آل
عمران 85
هذه الآية تكررت على مسامعي كثيراً في مرحلة
الصغر للتدليل على عدم قبول أي دين غير دين الإسلام في الآخرة، وقد تكررت كثيرا في
النقاشات التي ثارت حول الآية السابقة، لذا رأيت ان من المناسب أن نلقي الضوء
عليها اليوم، راجياً من الله التوفيق.
بما ان القرآن الكريم "الكتاب" هو
من عند الله فإن من المسلّم به تناسق الكتاب وعدم وجود تناقض فيما بين آياته، وعند
البحث في آيات القرآن عن الإسلام والمسلمين نجد الكثير من الآيات، أستشهد منها بما
يلي:
(الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ
الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ
قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ
مُسْلِمِينَ (
هذا خطاب على لسان اهل الكتاب انهم كانوا
مسلمين قبل القرآن، أي أن *الإسلام سابق للقرآن وسيدنا محمد*.
(وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ
بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ
تَمُوتُنَّ إِلاًّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون)
سيدنا إبراهيم كان مسلماً ووصى أبناءه أن
يموتوا على الإسلام
(وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ
أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا
صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (
خطاب على لسان سحرة فرعون
(فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ
بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ (
الحديث عن بيت سيدنا لوط
سيدنا يوسف: (رَبِّ
قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ
فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ
تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (
إذاً فالإسلام هو دين الله، دين الفطرة الذي
نزلت به جميع الأديان السماوية والذي يقوم على التوحيد والايمان باليوم الاخر
وأداء الشعائر والعمل الصالح "الاخلاق" وجاءت دعوة سيدنا محمد استكمالاً
وتتويجاً لهذه الرسالة السماوية بحيث أصبحت في نسختها النهائية من حيث الأحكام أي
أصبحت رسالة عالمية قابلة للتطبيق في كل زمان ومكان مع فتح باب الاجتهاد الإنساني.
حسب الآيات التي مررنا عليها، *جميع الأديان
السماوية جاءت على الإسلام*، ولكن تميزت كل أمة بشعائرها الخاصة (العبادات) فيما
تطورت الشريعة (الأحكام) لتتناسب مع الظروف الموضوعية الى ان أُختتمت برسالة سيدنا
محمد.
لقد أطلق القرآن على اتباع سيدنا موسى اسم "اليهود
أو الذين هادوا"، وأتباع سيدنا عيسى سمّاهم "النصارى" أما أتباع
سيدنا محمد فقد سمّاهم القرآن *"الذين آمنوا أو المؤمنون"*
(آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ
إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ)
(وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى
اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ)
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ
الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ)
من هذا نستنتج أن *الإسلام والمسلمين هم
ليسوا حصراً أتباع سيدنا محمد*، وإنما هم أتباع الديانات السماوية بمن فيهم أتباع
سيدنا محمد، وبهذا يستقيم فهمنا لمعنى الآية ويصبح *(الدين عند الله هو الدين
الواحد الذي نزل على جميع الرسل والذي يقوم على توحيد الله والايمان باليوم الآخر
والعمل الصالح، وهذا الدين هو تذكرة الدخول وقبول الأعمال، وكل من يأتي بدين غير
دين الله فلن يقبل منه)*
وأنهي حديثي بالإشارة الى أن الصحابة عندما
بايعوا سيدنا عمر، أسموه "أمير المؤمنين" وليس أمير المسلمين دلالةً على
انهم استوعبوا القرآن الكريم والخطاب الإلهي وفهموا انهم "المؤمنون"،
ولكن الفهم الخاطئ لمفهوم الأديان جاء في فترة لاحقة وللأسف فقد استمر الى يومنا
هذا.
هذا والله أعلم
أيمن
أبولبن
29-5-2017
*آيات استوقفتني (3)*
(مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ
نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( البقرة 106
اتخذ المفسرون الأوائل هذه الآية دليلا على
نسخ بعض الآيات والأحكام في القرآن الكريم بآيات أخرى، ومن مثال ذلك آيات الإرث والوصية،
عقوبة الزنا، تحريم الخمر وغيرها وهو ما يسمى ب (الناسخ والمنسوخ)
هذا الموضوع استوقفني كثيرا رغم اقتناعي
الكامل بموضوع التدرّج في تحريم الخمر، حيث جاء تحريمها على مراحل (وفي هذا حكمة
ربانية كبيرة)، الا أني لم أجد أي تعارض بين آيات الخمر حيث كانت جميعا متوافقة وغير
متناقضة وتكمل بعضها البعض وهو ما ينفي موضوع النسخ، ويتكرر هذا في جميع المواضيع
الأخرى
كما أن موضوع نسخ آيات في القرآن الكريم يثير
الكثير من التساؤلات المنطقية ويتعارض مع النص القرآني نفسه، ومن ذلك:
كيف يعقل أن يحتوي كتاب الله المُعجز للبشر
وخاتم الرسالات على آيات تم تعطيلها وإلغاء حكمها؟
والله يقول: (واتل ما
أوحي اليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا)
كيف يمكن التوفيق بين الوعد الإلهي بحفظ
التنزيل كاملاً والقول بنسخ بعض الآيات، بمعنى كيف يتم نسيان بعض آيات الكتاب (ننسها)
الذي تعهد الله عز وجل بحفظه كاملاً (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا
الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (؟
كيف يمكن القول بأن الكتاب الذي أحكمت آياته
قد تبدلت وتم تعديلها؟) كتاب
أحكمت آياته ثم فُصّلت من لدن حكيم خبير (
باعتقادي أن بداية اللبس في التفسير كان
اعتبار كلمة آية بمعنى آية قرآنية بينما لفظ آية تكرر في القرآن مع الرسل
السابقين، وليس محصورا في آيات القرآن ولو استعرضنا الآية التي سبقتها (مَّا
يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن
يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ
بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) لوجدنا
ربطاً في المعنى بين الآيات (الأحكام) التي نزلت من قبل والآيات (الأحكام) التي
اختصها الله بنبيه محمد
ومن المعروف انه قد تم تخفيف الأحكام عبر
الرسالات السماوية المختلفة ومراعاتها للتطور البشري، فسيدنا عيسى جاء بتحليل بعض
المحرمات في شريعة موسى
(وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ
يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ
وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ (
وهكذا جاء سيدنا محمد بأحكام جديدة إما ناسخة
لما قبلها (خير منها) او مثبتة لحكم موجود (مثلها)
أو الغاء حكم موجود فيصبح في طي النسيان البشري (ننسها)
وهذا يتوافق مع قوله سبحانه وتعالى عن سيدنا محمد
(ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم)
ونجد تصديق هذا في الآية التي تقول (وَمَا
كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ
* يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ
وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (أي أن الآيات أو الأحكام التي
يأتي بها الرسل هي من عند الله، وهو من يتعهد باستمراريتها أو تعديلها حسب تطور
الشرائع، والله عنده أم الكتاب.
هذا والله أعلم
أيمن
أبولبن
30-5-2017
*آيات استوقفتني (4)*
(كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا
تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ
وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ)
آل عمران 185
بادئ ذي بدئ، هذه الآية تتطلب منا جميعاً ليس
الوقوف عندها فقط، بل جعلها شعاراً لا يفارق وعينا لحظة واحدة.
بداية الآية تقرر أن كل النفوس ستموت ولا
حياة أبدية في هذه الدنيا الزائلة، ثم توجه الانتباه الى ان استكمال الأجور
والجزاء سيكون في يوم الحساب وكل ما نراه في الدنيا من نعيم أو شقاء هو ليس جزاءنا
النهائي على أعمالنا.
ثم نلاحظ استخدام المبني للمجهول في
"زُحزح" والأثر التي تتركه الكلمة في النفوس من تصور
"الزحزحة" عن النار، وكأننا نشاهد أحد الفيديوهات التي تصوّر كيف نجا
أحد الأشخاص من الموت بأعجوبة نادرة!
ثم توضح الآية الميزان الحقيقي للفوز، الفوز
بالجنة وما عداه هو لذة فانية.
جعلنا الله واياكم من الفائزين بالجنة
هذا والله أعلم
أيمن
أبولبن
31-5-2017
*آيات استوقفتني (5)*
*(يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ
وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ
أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)*
سورة المائدة 8
هذه الآية تستدعي ان تكون ميثاق عمل لكل
البشر، وهي تمثل بنداً مهماً في القانون الأخلاقي ومنظومة القيم الإنسانية العامة.
وهذه الآية منقوشة على أحد جدران كلية القانون في جامعة هارفارد ضمن عبارات مأثورة
مأخوذة من الحضارات الإنسانية المختلفة والتي تُعلي من قيم العدالة.
لطالما استوقفتني صياغة هذه الآية وتركيزها
على *قول الحق والشهادة الصادقة والحرص على العدل بين الناس ولو كنّا على خلاف معهم*،
وأن يكون الحق هو الميزان الذي نزن به الأمور ويكون مرجعية لكافة قراراتنا
ومواقفنا التي نتخذها في حياتنا، بدلاً من تغليب المصالح الشخصية او الهوى، او روابط
الدم والقومية والعشائرية ... الخ
لو فهمنا هذه الآية حقاً وراعينا مضمونها في
شؤون حياتنا اليومية صغيرها وكبيرها، لقضينا على معظم قضايا الفساد في مجتمعاتنا.
عندما تعطي صوتك لمن يستحق بغض النظر عن عِرْقه
أو دينه أو جنسه أو عشيرته، وعندما تمنح توصية وظيفية لمن يستحقها بغض النظر عن العلاقات
الخاصة، وعندما تشهد بالحق بعيداً عن المجاملة أو الخوف من العقاب، وعندما تقف مع
الحق ولا يضيرك من يقف على الجانب الآخر، وعندما تُنصف من تختلف معه ولا ترضى له
الظلم، حينها تكون قوّاماً لله، وتستحق الوعد الرباني الوارد في الآية التالية
مباشرةً
*(وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ
الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ)*
هذا والله أعلم
أيمن
أبولبن
1-6-2017
*آيات استوقفتني (6)*
*(وَإِذْ
قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ
وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِين)* سورة
الأنعام 74
من الركائز الأساسية لمنهجية القراءة
المعاصرة لكتاب الله عز وجل، *عدم استخدام
الترادف* في الكلمات، بمعنى أن الله عز وجل استخدم كل مفردة للدلالة
على معنى خاص لا يتم إلا باستخدام تلك المفردة، وأن أي تشابه في المعنى بين مفردات
الكتاب يجب أن يزول حتى يستبين المعنى السليم للآية ومراد الله منها.
على سبيل المثال *الوالد غير الأب، والرسول
غير النبي، والصلاة غير الصلوة، والعباد ليسوا العبيد، والقول غير النطق* والأمثلة
كثيرة، حيث يتم استخدام كل كلمة في مكانها المناسب لتدل على معنى خاص.
وقد وُجد الترادف في الأدب العربي وفي الشعر
بشكل عام حيث يتم استخدام عدة كلمات لتدل على معنى واحد مما يزيد الأدب جمالاً
ووقعاً في الأذن، ولكن هذا لا ينطبق بأي حال على كتاب الله، ولعل الاشتباه الذي
غلب على معظم التفسيرات التي بين أيدينا اليوم للعلماء الأوائل يعود أحد أسبابه
لظنهم بالترادف في كتاب الله مما أوقعهم في العديد من الالتباس.
نعود للآية التي تقول إن آزر هو أبو إبراهيم،
في حين ان العرب قديماً قد نسبوا سيدنا إبراهيم لوالده "تارح"
وكذلك فعلوا أهل الكتاب، مما أحدث جدلاً بين تفسير الآية والمرجعيات القديمة.
وبالتفريق بين الوالد "البيولوجي"
والأب "المُربّي" تزول الإشكالية، فالوالد
قد يكون أباً وقد لا يكون.
يضاف الى هذه الإشكاليّة أن إبراهيم عندما
كان في كنف أبيه "آزر"
استغفر له ثم تبرأ منه عندما تيقن من كفره
(وَمَا
كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا
إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ
إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ)
وعندما كبر ابراهيم ورزق بالولد وبعد
أن أتم بناء الكعبة عاد ليقول
(الْحَمْدُ
لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي
لَسَمِيعُ الدُّعَاء * رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي
رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ)
وهنا وقعت معظم التفاسير في إشكالية كيف عاد
للاستغفار لأبيه بعدما تبين له كفره
في تفسير الجلالين نجد: ((هذا قبل أن يتبين
له عداوتهما لله عز وجل))
تفسير ابن كثير: ((وكان هذا قبل أن يتبرأ من
أبيه لما تبين له عداوته لله عز وجل))
تفسير الطبري: ((وقد أخبر الله عز ذكره أنه
لم يكن استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة))
تفسير القرطبي: ((استغفر إبراهيم
لوالديه قبل أن يثبت عنده أنهما عدوان لله))
علماً بأنه تاريخياً، هناك فارق زمني كبير
بين التبرؤ من الاستغفار الأول (وهو فتى) والاستغفار الثاني (وهو كهل)، أضف إلى
ذلك أنه لم يرد في القرآن شيء عن كفر والدة إبراهيم، ومع هذا
أصر المفسرون على الترادف في استخدام الوالد والأب مما وضعهم في حرج، وهو ما يزول
عندما نفرّق في استخدام كلمة والد/والدة و أب/أم.
وبما أننا في معرض الحديث عن سيدنا إبراهيم،
فقد ورد اسم "إبراهيم"
في بعض الآيات كما ورد "إبراهم"
مع مدّة بين الهاء والميم "ابراهام" ولم يصل أحد (على حد علمي) لتفسير
مؤكد لذلك. هناك بعض الاجتهادات ذهبت للتفريق بين إبراهيم قبل الرسالة وبعدها، أو
حسب مكان تواجد سيدنا إبراهيم (مراحل تنقلاته) ولكنها غير دقيقة لغاية الآن.
هذا والله أعلم
أيمن
أبولبن
4-6-2017
*آيات استوقفتني (7)*
*(فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ
صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً
حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ
الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ)* الأنعام
125
يرد في هذه الآية توصيف دقيق لضيق الصدر وتشبيهه بالصعود
في السماء، ولاحظوا معي استخدام كلمة "في"
وليس "إلى" دليلاً على أن الوصف يخص الصعود التدريجي في
السماء نفسها، وليس السفر إليها بوسيلة ما.
فسر الأولون هذه الآية على
ظاهرها بالقول (يشق عليه الإيمان كما يشق عليه صعود السماء، وأصل الصعود المشقة)
ولكن
بفضل العلم الحديث تم اكتشاف الضغط الجوي ونقصانُ الأكسجينِ كلَّما صعدنا في
طبقاتِ الجوِّ العُليا مما يؤدي الى ارتفاع الضغط، بحيث يشعر الانسان بألم في
الصدر.
وثبت
علمياً أنه بعد 25 ألف قدم ينخفض الضغط كثيراً بحيث لو تنفس الإنسان الأكسجين بشكل
كامل لتمدّدت الأعضاء الداخلية ثم انفجرت، وهو ما يطابق الوصف في الآية تماماً (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً)
وهذه
الآية واحدة من الآيات التي تثبت أن القرآن حي وقابل للفهم والاستيعاب على اختلاف
مستوى المعرفة البشرية وتطور أدواتها عبر الزمن، وهو ما يعبّر عنه د. محمد شحرور
بعبارة "ثبات النص وحركة المحتوى" بمعنى أن النص
القرآني (الثابت في نصّه) قادر على احتواء تراكم المعرفة البشرية وتطور العلوم.
لذا على
البشرية الإبقاء على باب الاجتهاد مفتوحاً دون وضع النص القرآني في قوالب جامدة
والتقيّد بالنسخة الأولى من فهم الجيل الأول، بل إن من واجبنا التعامل مع القرآن
وكأنه يخاطبنا نحن في هذا الزمن وأن نفهمه بأدواتنا المعرفية الخاصة بنا.
وتصديقاً
لهذا القول يقول الله تعالى (وَكَذَّبَ
بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ (66) لِّكُلِّ
نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) فكل نبأ
ورد في القرآن الكريم سيكون له مستقر حين يتحقق الخبر أو حين تتوافق المعلومة مع
علم أهل الأرض.
هذا
والله أعلم
أيمن أبولبن
5-6-2017
*آيات استوقفتني (8)*
*(لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ
وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ
فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)* البقرة
284
الإشكاليّة
في فهم هذه الآية والتي استدعت مني الوقوف عليها ملياً، هو عدم انسجام المعنى
المستخرج منها والذي يفيد بمحاسبة الله لنا على افكارنا التي نخفيها في أنفسنا، مع
باقي آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن المجازاة على العمل فقط، وهو الأصل في
العرف البشري ان العقاب على العمل وليس على ما نحمله من أفكار.
والاشكالية
الأخرى التي دعتني للتوقف عندها، أنها واحدة من الآيات التي اعتبرها المفسرون
الأوائل آية منسوخة أي انها نزلت ثم تغير حكمها بآية أخرى (وكنّا قد تناقشنا في
موضوع النسخ)، والقول إنها نُسخت بالآية (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا
مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن
نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا)
كي يتضح
المعنى علينا ربط الآية بما سبقها من آيات ووضعها ضمن إطار الموضوع ذاته، يقول
الله تعالى (....وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ
وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)
البقرة 283
إذاً
يصبح معنى الآية محصوراً في أداء الشهادة، بحيث يجب على الشاهد أو الشهيد أن يقول
الحقيقة التي يعرفها (في نفسه) وان لا يُخفي ولو جزءاً منها، وان الله سيحاسبه على
ذلك بالثواب او العقاب، وهذا ما ذهب اليه الكثير من العلماء المعاصرين.
ومن هنا
نستنتج ان قول جزء من الحقيقة لا يفي الشهادة حقها، بل يجب قول الحقيقة، كل
الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة.
ملاحظة:
الشهيد هو من يشهد على واقعة عاش أحداثها فتكون شهادته شهادة حضور (وجاءت كل نفس
معها سائقٌ وشهيد)
أما
الشاهد فهو الذي يشهد بعلمه وخبراته دون ان يعايش الواقعة او الحدث فتكون
شهادته شهادة معرفية (وشهد شاهدٌ من أهلها)
لذلك
يقال عمّن يُقتل في معركة (شهيد) أي
أنه شهد تلك الواقعة ودفع حياته ثمناً لها.
هذا والله
أعلم
أيمن أبولبن
6-6-2017
*آيات
استوقفتني (9)*
*(حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا
وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا
أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ
بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)* يونس
24
كنت قد
ذكرت سابقاً أن من ركائز القراءة المعاصرة لكتاب الله عز وجل التسليم بعدم
الترادف، واليوم سأتكلم عن الركيزة المهمة الثانية وهي خاصية عدم وجود إطناب وحشو
زائد على عكس الأدب والشعر الجاهلي، بمعنى أن لكل كلمة فائدة وإضافة للمعنى بحيث
لا يكتمل فهمنا او تفسيرنا للآية دون أخذنا بالاعتبار لكل كلمة وليس للمعنى العام
فقط، وهذا يعني بالضرورة أننا إذا حذفنا كلمة ولم يتغير فهمنا او تفسيرنا للآية
فذلك يعني بالتأكيد قصورنا في فهم تلك الآية.
لو
نظرنا الى تعبير (ليلاً أو نهاراً) للوهلة الأولى سنظن أنها مكملة للآية ولا يوجد
فيها إضافة للمعنى ولكن هذا التعبير يعني أن الأمر الإلهي سيأتي على بعض أهل الأرض
ليلاً وعلى بعضهم نهاراً نظراً لاختلاف موقع الكرة الأرضية بين الشمس والقمر.
مثال
آخر، في الآية التي سبق ان تناولناها (إذ قال إبراهيم لأبيه آزر) قد
نظن أيضاً أن كلمة آزر هي فقط لإعطاء اسم أبو إبراهيم، وهي إطناب وحشو في الآية،
ولكن ما حاجة القرآن لذكر هذا الاسم؟
كلمة
آزر جاءت لتمييز الأب المقصود بالخطاب، بمعنى ان هناك أكثر من أب لإبراهيم وأن
المقصود هنا هو آزر، وكما ذكرنا من قبل فهناك والد بيولوجي لإبراهيم وهو يشترك في
أبوته مع مربي آخر هو آزر، لذا فلا إطناب هنا، وبمجرد تطبيقنا لمسلّمة عدم وجود
إطناب استطعنا استنتاج أن لإبراهيم أكثر من أب وان المقصود بالخطاب هنا هو آزر.
(نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)
لو
سكتنا عن الحياة الدنيا وبقيت الآية (نحن قسمنا بينهم معيشتهم) هل كانت لتؤدي نفس
الغرض؟ بالطبع لا فالقسمة محصورة فقط في الحياة الدنيا، أما في الحياة الآخرة فلا
قسمة بل جزاء وتفاوت في الدرجات والعطاء
(وإن كنتم في ريب مما
نزّلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله)
يقول
القرطبي في تفسيره لهذه الآية ( "ومن" في قوله " من مثله "
زائدة ) !
بينما
من مثله تعني فأتوا بسورة من عند شخص مثل عبدنا (محمد) وبصفاته البشرية، وهو تحدٍ
مختلف تماماً عن قوله في آية أخرى (فأتوا بسورة مثله)
من هنا
نقول ان من ضرورات تجديد الخطاب الديني اعتماد منهجية معاصرة لقراءة واستنباط كتاب
الله عز وجل باعتماد عدم الترادف وعدم وجود حشو زائد، بالإضافة الى إعمال العقل
والتقرير بانسجام كلام الله وعدم وجود اضطراب في المعنى، وصلاحية الكتاب لكل زمان
ومكان وأنه رسالة عالمية أبدية.
وأنا
شخصياً أدركت القيمة العظيمة لتطبيق هذه المبادئ بحيث بت أقرأ كتاب الله وكأني
أقرأه لأول مرة، وبت أتوقف عند بعض الآيات وأتمكن من استنباط العديد من المعاني
والأفكار التي كانت مُبهمة.
والحمد
لله على فضله.
هذا
والله أعلم
أيمن أبولبن
7-6-2017
*آيات
استوقفتني (10)*
*(لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ
لِّلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا
مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (8) اقْتُلُواْ
يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن
بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ
وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن
كُنتُمْ فَاعِلِينَ)*
قصة
سيدنا يوسف قال عنها الله تعالى (أحسن القصص) وهذه السورة نزلت كاملة على سيدنا
محمد كما ورد، ولها وقع خاص عند تلاوتها، ولطالما استوقفتني بعبرها ودلالاتها.
لعل
التركيز في قصة سيدنا يوسف منصب في أذهاننا على كيد الأخوة والظلم الواقع منهم،
ولكن هناك دائماً زاوية أخرى لكل قصة.
بداية
المؤامرة التي حاكها أخوة يوسف كانت بهدف أن يستقيم أمرهم مع أبيهم ويصلح حالهم (إن أبانا لفي ضلال مبين) (يخلُ لكم وجه أبيكم وتكونوا من
بعده قوما صالحين)
وحين
قرروا وضع خطة بدأوا بخيار القتل ثم خيار الاعتداء عليه وتركه مهجوراً، وأخيراً
توصلوا الى القائه في البئر مع ترك باب النجاة له ولكن بعيداً عنهم وعن أبيهم (يلتقطه بعض السيّارة)
ومن
الملاحظ أن كل إنسان يوجد لديه صراع بين قوى الشر وقوى الخير، والانسان الخيّر
يبدأ بالتفكير في الشر ثم يأخذ بعد ذلك بتخفيف الشر وصولاً الى أقل الشرور التي
تقبلها نفسه، أما الانسان الشرير بطبعه فيستمر في المبالغة بالتفكير في الشر
وصولاً الى أقصى الأمور، ثم تأخذه العزة بالإثم ويصر على فعلته.
وفي
سياق السورة أيضاً، عندما يحاول سيدنا يوسف أخذ شقيقه منهم بعد أن تعهدوا لأبيهم
بالحفاظ عليه، يعرضوا عليه أن يأخذ أحدهم الى السجن بدلاً منه حتى يوفوا بعهد
أبيهم
(قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا
شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)
وبعد أن
يفشلوا في ذلك، يرفض أخوهم الأكبر العودة الى ديارهم حتى يسامحه ابوه ويسمح له
بالعودة، وذلك لشعوره بالتقصير ونقض العهد
(فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا
قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم
مَّوْثِقًا مِّنَ اللّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ
الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ
الْحَاكِمِينَ)
وفي
نهاية القصة يعترفون بذنبهم وخطأهم وفضل أخيهم عليهم، ثم يدعو لهم يوسف بالمغفرة
(قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا
وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ
اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)
إن أخوة
يوسف هم بشر أمثالنا فيهم الشر وفيهم الخير، أنهم يشبهوننا، ونحن لا نختلف عنهم
الا ببعض التفاصيل، قد نمر على قصة أخوة يوسف ونتخيل أنهم شرٌ مطلق، وأنهم من جنس
آخر غير موجود بيننا، وهنا بالذات نفقد المغزى الرئيسي من القصة، الذي يركز على
طبيعة البشر والصراع الداخلي بين الخير والشر، وكيف أن كل نفس تسوّغ لنفسها عمل
بعض الأشياء التي لا توافق فطرتها السليمة من أجل الوصول الى هدف سامي (من وجهة
نظر الشخص) وكيف أن الانسان بطبيعته يقوم بتفضيل نفسه وأهوائه الشخصية على مبادئه
الإنسانية وعلى حساب الغير حتى لو كان أقرب الناس اليه.
هذا
والله أعلم
أيمن أبولبن
8-6-2017
*آيات استوقفتني (11)*
(الْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ
وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ) التوبة 71
ما دعاني لتناول هذه الآية والحديث عن الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، هو الفجوة بين الفهم والتطبيق لهذه
"الممارسة" لدى غالبية المسلمين اليوم.
من سياق
الآية يُستشف أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من صفات المؤمنين، وهو جزء من
منظومة الأخلاق والقيم الإنسانية التي حثّ عليها الإسلام "دين
الله" عبر الرسالات المختلفة وأكّدت عليها رسالة سيدنا محمد، تقول
الآية الكريمة على لسان لقمان (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ
وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ
إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)
والمعروف
هو كل شيء حسن تعارف عليه المجتمع واستحسنه، والمنكر هو عكس ذلك، كل شيء استنكره
المجتمع واستقبحه، فالمطلوب هو تقديم النصيحة باتباع الوصايا والقيم الإنسانية
العامة المتعارف عليها والتي لا تقتصر على عقيدة معينة او فئة من الناس (بر
الوالدين، حق الجار، النظافة العامة، احترام القوانين والأنظمة، الصدق في التعامل،
... الخ) والنهي عن الصفات السيئة والأعمال القبيحة (الغش، الكذب، الرياء والنفاق،
خدش الحياء العام .... الخ)
وهو
بهذا الفهم بعيد كل البعد عن الوعظ والدعوة الى الدين والى سبيل الله وإن كان كل
منهما يكمل الآخر، يقول الله تعالى (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ
بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُهْتَدِينَ (
والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر هو واجب على كل مواطن على قدر المستطاع وحسب المجالات
المتاحة له، ولكن دون عصبية أو محاولة فرض بل هو دعوة للخير ونهي عن كل ما هو مسيء،
ومن باب أولى أن يبدأ الالتزام بالمعروف والبعد عن المنكر بالنفس اولاً ثم الأقربين
ثم من يليهم، وكما يقول الشاعر:
لا تنه
عن خلقٍ وتأتي مثله ... عارٌ عليك إذا فعلت عظيم
أما
قوله تعالى (ولتكن منكم أمة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن
المنكر وأولئك هم المفلحون)
فهو
خطوة إضافية نحو جعل هذا المفهوم مفهوماً مؤسساتياً ليشمل مؤسسات المجتمع المدني: الجماعات
الحقوقية والمنظمات الأهلية، المثقفين والنشطاء الاجتماعيين، الكتّاب والصحفيين
والإعلاميين ... الخ، الذين من واجبهم الحثّ على صلاح المجتمع ومكافحة الفساد
والرقي بالقيم الإنسانية والمحافظة على المواطنة الصالحة.
وهكذا يصبح الأمر شاملاً لكافة قطاعات المجتمع
على مستوى الفرد والجماعات.
وقد مدح
الله تعالى المجتمع الذي يتبادل النصح بالمعروف والنهي عن المنكر (ومن باب أولى أن
يلتزم أفراده بالعمل الصالح قبل النصح) ووصفه بخير مجتمع على وجه الأرض، يقول الله
تعالى (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ)
وغنيٌ
عن القول، أن شر المجتمعات هي المجتمعات التي يُترك لأفرادها (أو للمتنفذين منهم) حرية
التصرف دون وازع أخلاقي ودون تبنّي منظومة من القيم الإنسانية المشتركة التي تجعل
هذا المجتمع قابلاً للعيش المشترك.
وللأسف
فإن فهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مجتمعاتنا تشوبه الكثير من المفاهيم
المغلوطة التي عملت على تعطيل ممارسة هذا الأمر بحيث يغلب اتخاذ المواقف السلبية
وعدم التفاعل مع قضايا المجتمع من جهة، ومن جهة أخرى التزمّت والتطرف والتركيز على الدعوة
الى العبادات (الصلاة والصوم) فقط.
هذا
والله أعلم
أيمن أبولبن
11-6-2017
*آيات
استوقفتني (12)*
(قُلْ
هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ
فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) الكهف 103-105
كنا قد
ذكرنا في اليوم الأول، أن الدين عند الله هو الإسلام، المبني على الايمان بالله
واليوم الآخر والعمل الصالح، وأن هذه هي شروط قبول الأعمال يوم القيامة وهي القاسم
المشترك للرسالات السماوية، وان من يبتغ ديناً غير دين الله فلن تقبل أعماله.
وتأكيداً
على وحدة كتاب الله وانسجام آياته، يعرض الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات الصورة
الأخرى لمن يُحجم عن إتّباع دين الله فيكفر بآياته ولا يؤمن بالحياة الآخرة
والحساب، ثم يأتي بالعمل الحسن والصالح والمفيد في حياته الدنيا فيظن أنه "أحسن
صنعاً" بينما في الحقيقة يكون قد ضل سعيه وما له في الآخرة من
جزاء.
كم من
العلماء والمشاهير والفلاسفة الذين أعجبنا بهم وبإرثهم الحضاري الذي أضافوه
للبشرية، سواءً هؤلاء الذين نعايشهم حالياً أو أولئك الذين قرأنا عنهم عبر
التاريخ، ولكنهم للأسف يعلنون انهم لا يؤمنون بالغيبيات ولا بوجود ناظم لهذا
الكون، ولا وجود ليوم الحساب عندهم!
ومنهم
من اتبع بعض الطوائف التي لا تمت للرسالات السماوية بأية صلة، رغم إيمانهم بالقوى
الروحانية ورغم اعتقادهم بالحياة بعد الموت ولكن برؤيتهم الخاصة.
لقد
وصفهم الله تعالى وصفاً مؤلماً وموجعاً حين قال عنهم "الأخسرين
اعمالاً" لأنهم اجتهدوا وحكّموا المنطق الخاص بهم وحققوا إنجازات
هائلة وظنوا أنهم حققوا الغاية المنشودة ليكتشفوا بعد فوات الأوان أنهم قد ضلّوا
الطريق وانحرفوا عن سبيل الله، وأنهم يوم القيامة لا وزن لهم، يا للأسف!.
وفي سورة
طه يقول الله تعالى (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ
مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ
حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا
فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى)
إن
الدعوة الى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، بالعقل والمنطق دون تزمّت وتعصّب
والتركيز على القيم الإنسانية المشتركة ورسالة الإسلام العالمية التي تحث على
الرحمة والتراحم، والعيش المشترك هو واجب على كل مؤمن بالله عسى الله أن يهدي كل
من ضلّ عن سبيله.
هذا
والله أعلم
أيمن أبولبن
12-6-2017
*آيات
استوقفتني (13)*
(وَمَا
كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا ۗ
وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ
الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) آل
عمران 145
هناك
أكثر من فكرة في هذه الآية تستحق التوقف والتأمل، أبدأ من فكرة كتاب الموت، يذكر
الله سبحانه وتعالى أن الموت هو كتاب مؤجل على كل نفس، بمعنى أن هناك شروطاً للموت
وهي الأسباب العضوية الموجبة للموت، وعندما تتحقق الظروف الموضوعية لموت إنسان ما،
يكون أجله قد حان، لذلك تقرّر الآية أن الموت هو مجموعة من الشروط الموضوعية
(كتاب) التي ستتحقق يوماً ما لكل الأنفس.
بناءً
على هذا الفهم، بإمكان البشر الاجتهاد والعمل على تأجيل هذا الكتاب الى أبعد أمد
ممكن بالمحافظة على الشروط الموضوعية النافية للموت (إلى حين)، وهذه نقطة مهمة
جداً يعتقد البعض أنها غير ممكنة أو أنها نوع من أنواع التحدي للقدر!
النقطة
الثانية المهمة، هي قاعدة إلهية ومنحة لكل البشر، تنص على أن كل من يجتهد وتتوفر
لديه "الإرادة" لنيل نصيبه من الدنيا، فإن الله سيوفقه لنيل مراده، وهذا
وعد إلهي غير محدود ولا مشروط سوى بالعمل والإرادة السليمة.
وعلى
نفس المنوال كل من يعمل ويجتهد لنيل ثواب الآخرة، فإن الله سيوفقه لذلك بشرط توفر
"الإرادة" وليس التمنّي أو الطلب.
في علم
الإدارة نقول إن الأقوال تتحول الى أفعال والأفعال تتحول الى عادات والعادات تصبح
سلوكاً وهنا فقط تتحقق الإرادة (العمل الذي يتطور ليصبح سلوكاً)
وتختتم
الآية الحديث بالإشارة الى منحة إلهية أخرى، بأن الله سيجزي الشاكرين، والمقصود هم
الذين أنعم الله عليهم بثواب الدنيا و/أو ثواب الآخرة ثم شكروا الله على ما أعطاهم!
سبحانك يا رب
ومن المناسب الحديث عن آية أخرى يتعهد سبحانه
وتعالى فيها بعدم تغيير حال المجتمع طالما حافظ أفراده على أفكارهم ومعتقداتهم
الإيجابية وسلوكهم الفاعل (من الممكن إسقاط هذا الحال على الازدهار الحضاري أو
الاقتصادي أو .... لبلد ما) ، وعلى العكس إذا أراد قومُ النهوض بحالهم الى مستوىً
أفضل ومستقبل مشرق، وعملوا على التخلي عن عاداتهم السلبية وأفكارهم الخاطئة ووضعوا
أقدامهم على بداية طريق التغيير الحقيقي، فإن الله سيعينهم على
"التغيير" المطلوب.
(إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا
مَا بِأَنْفُسِهِمْ)
ملاحظة:
هذه الآيات من القرآن (كتاب النبوّة) والذي يحتوي على قوانين ناظمة للحياة وهي
قوانين ثابتة لا تتغير موجهة للبشر جميعاً وليست محصورة في أمة أو جيل معين.
هذا
والله أعلم
أيمن أبولبن
13-6-2017
*آيات استوقفتني (14)*
(وَاللاَّتِي
يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً
مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ
يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً * وَاللَّذَانَ
يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ
عَنْهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا (سورة
النساء 15-16
هذه
واحدة من الآيات التي حيّرتني بالفعل، وتأخرتُ في فهمها بسبب عدم منطقيّة كافة
التفسيرات التراثية التي أطلعت عليها الى حين اطلاعي على تفسيرات معاصرة من أهمها
مؤلفات د. محمد شحرور
حسب
التفسيرات التراثية هذه آية تتعلق بحكم الزنا وهي منسوخة بآية الجلد
(الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا
تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) سورة
النور 2
ولكن
الحقيقة أن هذه الآية تتحدث عن المثليّة الجنسية عند النساء والرجال، لأن الحديث
عن الفاحشة (وهي الأفعال الجنسية المُحرّمة) محصور في النساء في الآية الأولى وفي
الرجال في الآية الثانية لتدل على المثليّة الجنسيّة بكل صراحة ووضوح.
وجاءت
العقوبة للنساء بشرط توافر أربعة شهود (مثل حالة الزنا) وهذا يتطلب بشكل أو بآخر
أن تكون الفاحشة علنيّة، لذلك كانت العقوبة شديدة : 100 جلدة في حالة الزنا العلني،
والحجر في البيوت في حالة السحاق.
أما في
حالات الفاحشة غير العلنيّة فهي إثم ومن المحرمات الواردة نصاً في القرآن، ولكن لا
يشترط فيها العقوبة لعدم علنيّتها، وتبقى العلاقة بين العبد وربه بالتوبة النصوح
(الندم على الذنب وعدم العودة اليه، ثم القيام بالأعمال الصالحة) والرجاء
بالمغفرة.
اما في
حالة اللواط، فيشترط فقط ثبوت الواقعة، لذا كانت العقوبة (التعزير) مع فتح باب
التوبة، بعد ان كانت العقوبة في شريعة موسى هي الإعدام!
ملاحظة
أولى:
لا يوجد
في التشريع الإلهي الذي نزل على سيدنا محمد أية عقوبة بالرجم، ولكنها وردت في
شريعة موسى، ونُسخت في شريعة محمد بحكم الجلد (من باب التخفيف والرحمة)، ولا يمكن
الاعتماد على المرويّات التي تقول بالرجم، لتغيير نص ثابت وقاطع في القرآن الكريم.
ومن
المؤسف أنه بسبب تطرف وتشدّد بعض الأئمة وأتباعهم، أصبحت شريعة محمد (دون غيرها من
الشرائع) مثار انتقاد لانتهاك حقوق الانسان، في حين انها جاءت لتخفيف الأحكام
السابقة (رحمةً للعالمين)
ملاحظة
ثانية:
التشريع
الإلهي الوارد في كتاب الله يحرّم الفاحشة على إطلاقها والفاحشة هي (كل علاقة
جنسيّة غير سويّة في المجتمع وهي كل شيء ما عدا العلاقة الزوجيّة الشرعيّة) وهذا
رد على كل الدعوات "الحضارية" الحديثة التي تنادي بالحرية في مجال
المثليّة بزعم أنها طبيعة بشريّة موجودة في DNA وليست إرادة أو رغبة غير سويّة، ولو كان كذلك لكان من
باب أولى ان يشرعها الله سبحانه وتعالى وهو الخالق العالم العليم بشؤون خلقه.
هذا
والله أعلم
أيمن أبولبن
14-6-2017
*آيات
استوقفتني (15)*
(والَّذِينَ
إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ
فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ
يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)
آل
عمران 135
كلنا
عاصٍ إلا من رحم ربي وكلٌ منا يخطئ وتزل قدمه، وهذه هي طبيعة البشر، ولكن العبرة
في التعلّم من الأخطاء وتجاوزها والتوبة عنها.
كلما مررت على هذه الآية أقف أمامها ملياً وأدرك
أن باب النجاة وباب الأمل موجود ومفتاحه ذكر الله والاعتراف بالذنب وعدم الإصرار
عليه ثم التوبة وطلب الاستغفار
وبالإشارة
الى الموضوع الذي طرحناه في المنشور السابق، نلاحظ في هذه الآية أن العلاقة بين
العبد والله مباشرة وان الله سبحانه وتعالى عندما فرض العقوبات كان الهدف تنظيم
المجتمع والدولة والحفاظ على الحقوق، حيث جاءت العقوبات تابعة لجرائم في حق
المجتمع (القتل، الفاحشة العلنية بما فيها من فساد وإفساد، السرقة ... الخ)
أما
التوبة عن الذنوب فالأصل فيها النيّة الخالصة في لإقلاع عن الذنب والندم الشديد واتخاذ
قرار بعدم العودة، ثم الاتيان بالأعمال الصالحة للتكفير عن الذنب.
وكما
قلنا بالأمس فإن الفواحش تتعلق بالعلاقات الجنسية غير المشروعة، وقد حرّمها الله
تعالى تحريماً قطعياً في كتابه العزيز، وشمل فيها ما كان واضحاً وعلنياً وما استتر
وخفي نظراً لأن هذه العلاقات يغلب عليها الخصوصية والكتمان.
(قُلْ
إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ)
ولكن من
رحمة الله علينا أنه أعطانا ثلاثة عهود في القرآن الكريم، فقال في العهد الأول أنه
يتكفل بأن يغفر الذنوب جميعاً
{قُلْ
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن
رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}
وفي
العهد الثاني تكفّل بأن يجيب دعاءنا ويهدينا
{وَإِذَا سَأَلَكَ
عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ
فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}
أما في
العهد الثالث فإنه تكفّل بتكفير السيئات عنّا
(لِيُدْخِلَ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ
اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (
ملاحظة:
الذنب
يكون في حق الله تعالى، والله سبحانه وتعالى تكفّل بأن يغفره لعبده في حالة التوبة
دون شرط، اما السيئة فتكون في حق البشر بعضهم ببعض، وهنا تكفّل الله سبحانه بتكفير
السيئات عن عباده (أي انه يتكفل بتسديد حقوق الآخرين عن عبده المسيء)
فهل بعد
كل هذه الرحمة، ما زلنا نعتقد أن الدعوة الى الله تكون بالتهديد والوعيد
والاقتتال، وما زلنا نكفّر بعضنا البعض ونختص برحمة الله من نشاء!
هذا
والله أعلم
أيمن أبولبن
15-6-2017
*آيات استوقفتني (16)*
(غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى
الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ
لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ)
سورة
الروم 2-4
هذه
الآيات تحمل نبوءة من الله عز وجل لنبيه الكريم تصديقاً لرسالته وتأكيداً على أنها
جاءت من عند الله الذي يعلم الغيب ولا تخفى عليه خافية، وفيها أيضاً بشرى
للمؤمنين.
تاريخياً
فإن مملكتي فارس والروم في عصر النبوّة كانتا في اقتتال شديد في مناطق بلاد الشام
وقد مالت الكفّة لبلاد فارس بعد بعثة النبي في مكة، فكان ان استبشر المشركون لأن
عقيدتهم قريبة من بلاد فارس بينما الروم هم نصارى من أهل الكتاب وهم بعيدون
عقائدياً عن اهل الجزيرة العربية، بينما تعاطف المؤمنون مع الروم لأنهم أصحاب
رسالة.
وقد
جاءت هذه الآيات لتبشّر المؤمنين بان الروم سينتصرون بعد هزائمهم وستعود الغلبة
لهم في بضع سنين (على عكس ما كانت تشير اليه الحقائق)، والبضع هو ما بين 2-10 فكان
أن انتصر الروم بعد تسعة سنوات وسيطروا على بلاد الشام وبيت المقدس، ولكن الأهم من
كل هذا أن الخلافة الإسلامية استطاعت القضاء على مملكتي فارس والروم بعد أن ضعفتا،
واستطاع المسلمون السيطرة على معظم المناطق الخاضعة لسيطرة هاتين المملكتين بعد
وفاة سيدنا محمد (ص).
هناك
لفتة في الآيات بالإشارة الى أدنى الأرض، والتي تشير الى مناطق غور الأردن والتي
كشف العلم الحديث أنها أكثر بقاع الأرض انخفاضاً عن مستوى سطح البحر، وهذه معلومة
لم تكن متاحة للمفسرين الأوائل الذين فسروها على انها "أقرب" بقاع الأرض
لهم وهي بلاد الشام.
وبالرجوع
الى المصادر التاريخية فإن المعارك التي انهزم فيها الروم أمام الفرس وقعت في بلاد
الشام والأراضي المحيطة بها وقد أشارت المصادر الى معارك مهمة وقعت في انطاكية
ودرعا والبحر الميت عام 613 ميلادية.
ومن
المفيد الإشارة الى ان الكتاب الذي نزل على سيدنا محمد يحتوي على أحكام الرسالة
(كتاب الرسالة أو الآيات المحكمات) بالإضافة الى تفصيل هذه الأحكام (تفصيل الكتاب
أو الآيات المفصلات) بالإضافة الى القرآن العظيم وهو نبوءة سيدنا محمد والذي يحتوي
على انباء الغيب سواء الماضية أو القادمة بالإضافة الى الحديث عن الخلق والكون
والقوانين الموضوعية المنظمة للكون، وجاءت نبوءة سيدنا محمد في القرآن الكريم دليل
على صدقه وبالتالي وجوب اتباع الأحكام التي نزلت معه. يقول الله تعالى
(وَمَا
كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي
بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ
الْعَالَمِينَ)
وهذه
الآيات من إعجاز القرآن لتدل على صدق نبوءة سيدنا محمد وتدعو الناس أجمعين للإيمان
به وبرسالته.
ملاحظة:
علم الله بالغيب وإخباره لنبيه وللمؤمنين بأنباء الغيب لا يستوجب بالضرورة جبريّة
القضاء والقدر لأن الله قد جعل لكل شيء سبباً وطلب منا أن نأخذ بالأسباب بمعنى أن
الغيب لم يكتب علينا من باب الجبريّة ولكن من باب علم الله لأنه لا يحدّه زمان ولا
مكان ولأن علمه "محيط" بكل شيء. وبمعنى آخر فإن علم الله بانتصار الروم
كان من باب علمه المحيط بكل شيء، ولم يكن من باب إجبار الفرس على الهزيمة وإنما
جاءت الهزيمة لتوافر الظروف الموضوعية.
هذا
والله أعلم
أيمن أبولبن
18-6-2017
*آيات استوقفتني (17)*
(اللَّهُ
يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا
فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ
مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) الزمر
42
في هذه
الآية يبين الله سبحانه وتعالى أن النوم هو (موت مؤقت) وهو حالة انفصال الحواس
والمشاعر والأحاسيس ودخول الانسان مرحلة من الرؤية التي تتخللها مجموعة من الصور
والأحداث (الأحلام) وسميّت هذه المرحلة بالوفاة التي تحدث في حالتي النوم والموت.
فإذا
دخل الانسان حالة الوفاة وكان أجله قد حان سوف تستمر هذه الحالة خارج الوعي الإنساني
الى حين البعث والنشور، بحيث يشعر الانسان وقتها انه قد نام يوماً أو بعض يوم كما
ورد في قصة "العُزير" في التنزيل الحكيم.
(فَأَمَاتَهُ
اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا
أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)
أما إذا
كان له من العمر بقيّة فإن الله سبحانه وتعالى يعيده الى الحياة إلى أجل مسمى.
وهذه
الآية من الأهمية بمكان بحيث أنها تُقارب بين حالتي النوم والموت وتقرّب إلى
الأذهان حياة ما بعد الموت الى وقت البعث، كما تفرّق بين الموت والوفاة، وتحدّد ان
النفس هي التي تموت وليست الروح كما تعودنا ان نقول في تراثنا، بينما يتحلّل الجسد
المادي ويفنى الى ان يشاء الله أن يبعث فيه النفس والروح من جديد، ولهذا كلّه ختم
الله الآية الكريمة بالقول (إن في ذلك لآيات لقوم يتفكّرون).
وبما
اننا تحدثنا عن الموت والوفاة، فمن المناسب الحديث عن سيدنا عيسى الذي ذكر الله
وفاته في القرآن ورفعه اليه ولم يذكر انه مات (لم يقض أجله)
(إِذْ
قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ
مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ)
وفي هذا
إشارة الى ان سيدنا عيسى لم يمت، وأنه يعيش حالة الوفاة (الموت المؤقت)، وبما أن
الله سبحانه وتعالى قد أقرّ أن الموت سيصيب كل البشر (كُلُّ
نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) فهذا
يفيد بالضرورة ان سيدنا عيسى سيخرج من حالة الموت المؤقت (الوفاة) الى الحياة من
جديد ثم يأتيه الموت.
ويذكر
الله سبحانه وتعالى موت سيدنا عيسى ولكن في حالة المستقبل ليشير الى نبوءة (سوف
تحدث) وليس إلى خبر (سبق أن حدث)
(وَإِن
مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ
الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا)
وهي
نبوءة تشير إلى ان بعضاً من أهل الكتاب (اليهود والنصارى) سوف يؤمنون بعيسى قبل أن
يموت، أي أنهم سيؤمنون به نبياً ورسولاً وسيؤمنون أنه لم يُصلب ولم يُقتل وأنه عبد
الله.
هذا
والله أعلم
أيمن أبولبن
19-6-2017
*آيات استوقفتني (18)*
(وَمَا
خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن
رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ)
الذاريات
56-57
إن غاية
الخلق هو عبادة الله أي أداء العبادات من صلاة وصوم وحج ..الخ هذا هو الفهم
المتوارث عن السلف والذي تعلّمناه ودرسناه في مناهجنا واعتدنا على سماعه من الأئمة
وخطباء الجمعة والدعاة، وهو فهم قاصرٌ للأسف يؤدي الى اختلال في المفاهيم
والأولويات لدى المؤمن المسلم، فهو من جهة يشير الى العبوديّة والى حصر عبادة الله
بالصلاة والصوم والزكاة.
لو
تأملنا في قصة الخلق لوجدنا ان الله قد خلق الملائكة لتطيع دون وجود خيار للمعصيّة،
وأن إبليس اختار المعصية دون طاعة وحلّت عليه لعنة الله الى أبد الآبدين بينما تم
تكليف آدم بحريّة الاختيار بين الطاعة والمعصية وهذه هي الأمانة التي حملها
الانسان
(إِنَّا
عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ
أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ
ظَلُومًا جَهُولًا)
وهذا
تشريف عظيم لجنس البشر بمنحه الحريّة (حريّة الاختيار) دون إكراه او جبريّة، وهذا
ما عبّر الله سبحانه وتعالى عنه بقوله (كلمة الله التي سبقت)
(وَمَا
كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ
سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)
وهناك
فرق بين "العباد" و "العبيد" فعباد الله هم الذين يختارون
الطاعة أو المعصية بملء إرادتهم دون تدخل إلهي وقد ورد وصف العباد في كتاب الله في
حق المطيعين والعصاة على حد سواء
{قُلْ
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن
رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}
بينما
استخدم لفظ العبيد في الحديث عن يوم الحساب حصراً، بعد أن انتهى مجال الحريّة
وأصبح الأمر كله لله (الذي لا يظلم احداً)
(من عمل
صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد)
فعلاقة
الانسان بربه هي علاقة اختيار طوعية تخضع للحساب، وليست علاقة عبوديّة، وعبادة
الله تكون بالإيمان به (التوحيد) واتباع أوامره ونواهيه (صراطه المستقيم) وهو
مجموعة القيم الإنسانية الواردة في التنزيل الحكيم، ومن هذا نستنتج أن عبادة الله
ليست محصورة في الصوم والصلاة والزكاة كما تعارف عليه في التراث الإسلامي
(وإذا
أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى
واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسناً وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا
قليلاً منكم وأنتم معرضون)
من هذا
كلّه نقول إن غاية الخلق هي الحريّة وإعلاء كلمة الله (لا إكراه في الدين) وان
المقصود بالآية المذكورة: وما خلقت الجن والانس الا ليطيعوني او يعصوني بملء
إرادتهم، وهذا يتوافق مع قوله تعالى
(وَلَوْ
شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ
* إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)
إذا
فهمنا هذا نستطيع فهم سورة الكافرون ومعرفة ان الآية التي نظن انها تكرار هي في
الواقع ليست تكراراً (كما سبق وأن أشرنا انه لا يوجد حشو زائد في القرآن الكريم)
(قُلْ
يَا أَيُّهَا الْكَافِرُون * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنتُمْ
عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلَا أَنتُمْ
عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ)
فيصبح
المعنى: لا أطيع ما تطيعون، ولا أعصي ما تعصون!
هذا
والله أعلم
أيمن أبولبن
20-6-2017
*آيات
استوقفتني (19)*
(وَالنَّجْمِ
إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنطِقُ عَنِ
الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى)
سورة
النجم
اخترت
هذه الآيات اليوم لمناقشتها نظراً للمداخلات والنقاشات التي رافقت بعض المنشورات
السابقة، والتي احتجّت
بهذه الآيات دليلاً على أن كل ما ينطق به النبي محمد (ص) هو وحي من الله.
بداية
أقول إن استخدام كلمة "ينطق"
غاية في الأهميّة هنا. النطق هو القاء الكلام والتعبير به ومن هنا نقول (الناطق
الرسمي باسم ...) والنطق هو آلية تحتاج الى أدوات مثل اللسان والأوتار الصوتية
والحنجرة، وهذا يختلف عن القول والحديث الصادر عن ذات الشخص وأفكاره ومكنوناته. فالقرآن
الكريم هو قول الله سبحانه وتعالى وليس قول محمد وإنما نطق محمد.
يضاف
الى ذلك، أن النبي (ص) كان له اجتهاداته ولم يكن مجرد شخص يتكلم بالوحي ليلاً
نهاراً وكأنه روبوت مبرمج على ذلك، ولنا في القرآن الكريم خير دليل:
(وَإِذْ
تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ
عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ
وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ
مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ
فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ
اللَّهِ مَفْعُولًا)
لاحظوا
استخدام لفظ "تقول" هنا،
والآيات تشير صراحةً الى ان النبي محمد يقول ما هو مغاير تماماً للوحي الذي أوحي
له بانه سيتزوج من زوجة مولاه زيد بعد طلاقها منه، ولو كان سيدنا محمد وحي يوحى
(على الاطلاق) لما تمكن من الاجتهاد ومخالفة الوحي!
(مَا
كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ
تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ)
سمح
النبي محمد (ص) للمؤمنين بأخذ أسرى في معركة بدر ضمن اجتهاداته كقائد للمعركة، ثم
جاء التوجيه الإلهي على عكس ذلك ولو كان النبي وحي يوحى على الاطلاق لما استطاع
التصرف من تلقاء نفسه أو الاجتهاد وموافقة المؤمنين على فعلهم!
هناك
أمثلة كثيرة ولكني أكتفي بهذين المثالين للدلالة على أن الوحي المقصود في الآيات
هو القرآن وكلام الله وأن العصمة التي عصم الله نبيه بها هي بلاغ كلامه كما هو دون
زيادة او نقصان أو أدنى تصرّف، وان هذا القرآن جاء عن طريق جبريل، وهناك بعض
التفسيرات التي تقول ان "هو"
تعود الى القرآن، أي أن هذا القرآن ما هو الا وحي من الله.
وكنت قد
كتبت مقالا نشر في القدس العربي في ذكرى المولد النبوي بعنوان (عَظَمة
مُحمّد الإنسان التي أغفلتها موروثاتنا) تحدثت فيه عن الظلم
الذي تعرّض له سيدنا محمد في كتب التراث التي هضمت حقه في الاجتهادات التي قام بها
ومدى تأثير اجتهاداته على نشر الإسلام وإقامة الدولة الإسلامية، وقد كان يمثل دور
القائد والقاضي ورئيس الدولة، والمسؤول عن تنظيم المجتمع.
أخيراً،
من المناسب الإشارة هنا الى ان كيفية أداء الصلاة والزكاة جاءا عن طريق الوحي الى
سيدنا محمد ولم يتم تنزيل آيات تفصيلية بذلك، ولهذا فقد خصّ الله سبحانه وتعالى
هاتين الفريضتين في التنزيل الحكيم بطاعة الرسول فيهما وقد جاء في الحديث (صلّوا
كما رأيتموني أصلّي)
يقول
الله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)
وهذا
دليل على ضرورة اتباع أداء الصلاة والزكاة كما وردتا عن النبي محمد وأنهما تعتبران
تكليفاً من الله سبحانه وتعالى بنص القرآن، ولا اجتهاد فيهما بحجة عدم ورود نص
قرآني ملزم يحدد آليتهما.
هذا
والله أعلم
أيمن أبولبن
21-6-2017
*آيات استوقفتني (20)*
(قَدْ
أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)
وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ
فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى
أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)
فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ
هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى
صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ
يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)
سورة
المؤمنون
بما اننا سبق وأن تحدثنا عن أهمية الأخلاق والقيم
الإنسانية وحسن التعامل مع الآخرين، من المفيد أيضا الالتفات الى هذه الآيات
الكريمة التي تمدح صفات المؤمنين الحقيقيين وتجمع بين أداء العبادات والشعائر
المختلفة والالتزام بالأوامر والنواهي الإلهية، بالإضافة الى الحفاظ على الأخلاق
والقيم الإنسانية.
من اللافت في مجتمعاتنا اليوم الانقسام الحاصل بين من
يركز على الفرائض ويدعو الى أداء الصلوات والصيام والحج ويستخدم الترهيب من العذاب
ويسهو عن منظومة الأخلاق والقيم وحسن التعامل مع باقي فئات المجتمع، وبين من يركز
على الأخلاق الحميدة ويسهو عن أداء الصلاة ثم يتساهل في أمور الصيام، ولا يعلم
بأحكام الزكاة ولا يلقي بالاً لعمرة او حج.
هذا الانقسام ولّد جيلين متناقضين، الأول أصبحت لديه
العبادة عادة لا تزيد عن حركات وأفعال يؤديها دون روحانيات ودون إيمان داخلي
واطمئنان نفسي يدفعانه لتبني صفات المؤمنين الحقّة ويلتزم بأخلاق أمة محمد، والآخر
يعتقد أن الأخلاق وآداب التعامل أهم من باقي العبادات.
والحقيقة ان كليهما قد حاد عن الطريق السليم وأخلّ
بميزان الايمان الحقيقي.
إن عبادة الله الحقيقة تكون باتباع الصراط المستقيم
(الأوامر والنواهي) والالتزام بمنظومة القيم الإنسانية والتحلّي بالأخلاق الحميدة،
وأداء الفرائض والشعائر وأي اختلال بهذه المنظومة معناه الفشل.
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: (إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ
الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ
يَحْزَنُونَ) وسبق أن أشرنا أن الصالحات هي أعمال الخير
وحسن التعامل مع الآخرين وجاءت بعد الايمان مباشرة
ويقول الرسول الكريم:
(إِنَّ
الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ
وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا
وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ
حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ
مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ)
اللهم اجعلنا ممن يتبعون صراطك المستقيم ويلتزمون
بأوامرك وينتهون عن نواهيك، ويؤدون فرائضك، ويلتزمون بأخلاق القرآن، اللهم آمين
هذا
والله أعلم
أيمن أبولبن
22-6-2017
*آيات استوقفتني (21)*
(وَمَا
آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا)
سورة الحشر
آية 7
استكمالاً
لحديثنا بخصوص آية (إن هو إلا وحيٌ يوحى) ارتأيت أن أستعرض هذه الآية معكم اليوم
استثناءً بعد ان كانت النية أن نكتفي بعشرين منشوراً لهذا العام.
بناء
على التفسير التراثي لهذه الآية (أو بالأصح هذا الجزء من الآية) فإن كل ما جاء به
الرسول الكريم (ص) من قول أو فعل أو تقرير هو جزء من التشريع الإلهي ويجب على كل
مسلم الأخذ به حتى ولو لم يرد في كتاب الله (بل إنه في بعض الحالات يتعارض مع نصوص
واضحة وصريحة في كتاب الله)
وبناءً
على هذا الرأي كان من الضروري اعتماد كتب التراث كمصدر للتشريع بعد أن تم اقتطاع
جزء من النص وتحميله ما لا يحتمل.
بدايةً
دعونا نستعرض الآية كاملة
(مَّا
أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ
وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا
يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ
فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ
شَدِيدُ الْعِقَابِ)
من
الواضح ودون لبس أن الحديث هنا عن توزيع الغنائم وليس عن تشريع أو أوامر ونواهي
اختص بها الله رسوله بالوحي دون مرجعية في كتابه.
ولزيادة
التأكيد تأملوا لفظ (آتاكم) في هذه الآية وقارنوه بالآيات التالية:
(آتُونِي
زُبَرَ الْحَدِيدِ)
(وَآتَاكُم
مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا)
(فَلَمَّا
جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ
مِّمَّا آتَاكُم)
إن طاعة
الرسول مطلوبة ولكنها نابعة من طاعة الله وليست منفصلة بتشريع خاص. وفي كتاب الله
وردت عدة آيات تحث على طاعة الله والرسول، والآية الوحيدة التي انفرد فيها الرسول
بالطاعة كانت الآية التي أوردتها من قبل وتخص الصلاة والزكاة فقط.
وقد ذكر
الله تعالى أن الرسول كان لنا أسوة حسنة بمعنى قدوة ومثالاً يحتذى، ولكننا للأسف
حاولنا تقليده بدلاً من الاقتداء به والفرق شاسع!
لقد قام
العلماء الأوائل وأصحاب كتب التراث بعمل كبير وأضافوا الكثير لأبناء عصرهم وكانت
لهم إضافات مميزة، ولكن المشكلة كانت في الأجيال اللاحقة (بما فيهم جيلنا الحالي) التي
أخذت هذه المؤلفات ووضعتها في قوالب جامدة ثم نسبتها الى الله ورسوله كي تصطبغ
بالقدسيّة فأصبحت سقفاً لنا لا نستطيع تجاوزه ولا حتى التفكير خارجه!
مشكلتنا
مع التراث غير محصورة في عدم قدرته على معالجة مشاكل عصرنا بل إنه نقل لنا مشاكل
العصور الماضية وكبّل أيدينا بها بحيث وصلنا الى القرن الواحد والعشرين ونحن نتحدث
عن سفر المرأة وتولي المرأة لمناصب القيادة والخلوة الشرعية وتغطية وجه المرأة وجاهليّة
المجتمع، وخلق لنا مشاكل نحن في غنى عنها حيث بتنا بحاجة الى أجيال قادمة كي
تستأصل هذه المشاكل وتعالج أثرها.
لقد
أنتجت هذه القوالب الجامدة جيلاً يفكر في كيفية أداء الصلاة في الفضاء وكيفية أداء
الوضوء هناك بدلاً من خلق المعرفة للوصول الى الفضاء، لقد خلقت لنا جيلاً يتساءل
هل الساتلايت حلال أم حرام بدلاً من أن تتولد لديه الغيرة من هذا الإنجاز! لقد
خلقت لنا جيلاً يتمنى العودة بالزمن الى الوراء بدلاً من سبر أغوار المستقبل!
عندما
التحقت بالمدرسة لأول مرة أصابتني حالة من الصدمة والرعب، حيث غادرت دائرة الأمان
(المنزل) وانتقلت الى عالم جديد فيه أساتذة يلوّحون بالعصا ويهدّدون، وزملاء
مشاكسين ونظام تعليم صارم، بعيداً عن أجواء الدلال التي تعودت عليها.
وقبل أن تبدأ الحصة الأولى أحضر لنا المُدرّس
عريف صف من الصفوف المتقدمة وهدّدنا أن من يُكتب اسمه على اللوح سيعاقب عقاباً
شديداً (رغم أنه لا يعرف إسم أي طالب فينا!) وما أن نظر اليّ عريف الصف حتى انفجرت
في البكاء خوفاً!
حال
أمتنا اليوم لا يختلف عن حالي وأنا طفل، فنحن خائفون من مغادرة دائرة الأمان والانفتاح
على بقية العالم. نعتقد ان العالم كله يكرهنا ويتآمر علينا ويحاول أن يخرجنا عن
طريقنا المستقيم، ونشعر أننا متخلّفون عنهم ولا نستطيع مواكبتهم ولكننا لا نعلم
ماذا نصنع سوى التقوقع على ذاتنا!
عندما
حاول أبي جاهداً أن يخرجني من الدائرة التي وضعت نفسي فيها، بالحوار والتفاهم ثم
بالترغيب والتحفيز وأخيراً بالتهديد والعقاب، كرهته، نعم كرهته، لأني شعرت أنه
يريد أن يخرجني من عالمي الخاص الذي أشعر فيه بالأمان الى فضاء واسع أشعر بالعجز
في التعامل معه، ولا أثق بقدراتي على التكيّف معه.
واليوم فإن
كل من يحاول اخراج هذه الأمة من صندوق التراث الذي وضعت نفسها فيه، فإنها تُحاربه
وتتهمه بهدم أصول الدين، لأنها لا تمتلك وسائل المعرفة لمجاراة العالم الخارجي ولا
يوجد لديها ثقة في نفسها لخوض هذه التجربة، وبدلاً من ذلك تستكين لتراثها الذي
يقول لها إنها أفضل الأمم وأحب البشر الى الله، وأن نصيبها الجنّة، وكل ما عليها
صنعه هو انتظار العصا السحرية والمعجزة التي ستنتصر لها وتجعلها سيدة الأمم من
جديد دون ان تبذل أي جهد أو تصارع هذه الحياة وتستحق الصدارة!
أما آن
لنا آن نخرج من هذه القوقعة ونؤمن تمام الايمان أن الوحي قد انقطع وأن علينا أن
نعتمد على أنفسنا بإعادة فهمنا للقرآن الكريم وضرورة تغيير المفاهيم المتوارثة
والبدء بالاجتهاد وإنتاج المعرفة بدلا من تقليد الأجيال السابقة، وندرك أن الله قد
خلقنا شعوباً وقبائل لنتعارف ونتعاون وأن رسالتنا عالمية وليست محصورة في الجيل
الأول!
مختصر
القول: إن الله سبحانه وتعالى قد اتمّ رسالته في كتابه، فقام بتضمينه جميع
الأحكام، وقام بتحديد المحرّمات نصاً دون لبس، وذكر أوامره ونواهيه، وذكر مجموعة
الأخلاق والقيم الإنسانية، وأسّس للعلاقة داخل المجتمع ومع الأمم المختلفة وركّز
على المعرفة والعلم والابداع والتفكّر، وترك لنا الباب مفتوحاً للاجتهاد البشري
وإعادة صياغة المفاهيم بما يخدم عصرنا، وكل ما ورد عن النبي الكريم والجيل الأول
هو اجتهاد ضمن إطار التشريع الإلهي وضمن حدود الله، بما يخدم العصر ويتناسب مع سقف
المعرفة البشرية آنذاك، ويلزمنا ان ندرسه ونتعلّم منه لا أن نقلّده ونجعله عباءة
لنا.
هذا
والله أعلم
أيمن أبولبن
24-6-2017
لا يوجد استوقاف في سوره التحريم
ردحذف