كانت هناك العديد من المبادرات الشبابية الثقافية والفنية
التي ترافقت مع ثورة يناير وانطلاقة الثورات العربية، وكانت هناك ظاهرة عامة تتجلّى
في سعي الشباب نحو الحرية واستقلالية التمثيل واتخاذ القرارات، وتم عكس هذه
الظاهرة من خلال تقديم أعمال فنية تمثل فئة الشباب وتعبر عن تجربتهم، لذا تكرّرت
مصطلحات شبابية عديدة، أصبحت فيما بعد لازمة إعلامية او إخبارية (شباب الثورة، مطرب
الشباب، فنان الثورة ...الخ).
كانت تلك الفترة بداية انطلاقة المطرب والموسيقار الشاب "حمزة
نمرة"، والحقيقة أني لم أعطه القدر الكافي من الاهتمام والمتابعة حينها نتيجة
اكتظاظ المشهد الإعلامي، وكثافة الأحداث وعظم شأنها.
ولعل بساطة الكلمات والأداء (في الأغاني التي سنحت لي
الفرصة لاستماعها وقتها) لم تجذب انتباهي كثيرا الى موهبة هذا المطرب الشاب.
وقد نالت اغنيته (احلم معايا) شهرة واسعة في ميدان
التحرير، ومنه إلى باقي المدن المصرية والعواصم العربية، وأصبحت رمزاً للثورة
المصرية "الشبابية"، والتتر المرافق للمظاهرات الشعبية، أو الترنيمة
المرافقة للهتافات الشبابية.
ومع ازدياد انتشار أغانيه خصوصا بعد الانقلاب على الثورة
ورموزها وأهدافها، زاد اهتمامي ومتابعتي لأعماله الفنية، ولكن هذا ترافق مع الأسف
مع انسحابه من الساحة الفنيّة نتيجة المضايقات التي مورست عليه في مصر، مما اضطره في
النهاية الى مغادرة مصر والهجرة الى أوروبا عام 2015، ثم انقطاعه عن تقديم أغان
جديدة لغاية هذا العام.
ولكن عودة حمزة نمرة كانت من الباب الكبير، حيث استضافه
الإعلامي المبدع يسري فودة على قناة دويتشه فيلا DW في بداية هذا العام، قبل أشهر قليلة من
إصدار ألبومه الجديد، وقد ساهم هذا اللقاء وروعة الأغاني التي قدمها في اللقاء،
على زيادة الاهتمام بألبومه القادم.
خلال متابعتي لهذا اللقاء، أعدت اكتشاف أغانيه وموهبته
الموسيقية، وكم راق لي الفن الذي يقدمه والمعاني السامية التي تكمن وراء كلمات أغانيه
والقيم الإنسانية التي يتناولها، بالإضافة إلى جمال موسيقاه وألحانه وما فيها من
الرقي والابداع الفني والإحساس العالي، وهذا كله يستحق الإشادة والتشجيع بلا شك.
عن حمزة نمرة أكتب اليوم، ذلك الشاب الثائر الذي اتخذ من
الفن وسيلة للدعوة إلى حق المواطن العربي في العيش حرا كريما، متمتعا بحقوقه في
ممارسة حرية الرأي والتعبير، والتي يكفلها ميثاق حقوق الانسان وكافة الدساتير.
في أغانيه وأعماله، أشعر بتلك الآه التي تجتاح صدري حينما
أفكر في أحوال عالمنا العربي بالغة السوء، وفي أغانيه أيضاً أحلق في فضاء الحرية
ويتعمق شعوري بضرورة الاستمرار في الدعوة الى التغيير، الى أن تتحقق جميع مطالب
الشعوب العربية المستحقة.
في أغانيه، أحن الى الوطن وإلى حضن امي وذكرى أبي، وتعود
بي الذكريات الى زمن الطفولة والعائلة الصغيرة، وشقاوة أولاد الحي، وبالكاد أحبس دموعي
وانا استمع إلى أغنية (تسمحيلي يامّه من وقتك شوي).
من الملفت في مسيرة حمزة، اهتمامه بالفلكلور الشعبي
العربي وإعادة تقديمه الأغاني الخالدة بأسلوب جديد مستخدما الآلات الموسيقية
الحديثة مع الإبقاء على رقي تلك الأغاني ومستواها الفني، وقد قدّم أغان عديدة من
الشرق العربي والشمال الافريقي، ولكن اهتمامه كان واضحا في التراث الفلسطيني وأغانيه
الشعبية والوطنية، وقد قدّم تلك الأغاني بأسلوب جميل ورائع، وكان أداؤه لافتاً في
أداء أغاني (يا ظريف الطول) و (يا يمّه في دقة على بابنا) (يمّا مويل الهوى).
إبداع حمزة نمرة يعيدنا الى تاريخ الفن العربي الجميل
وبالتحديد الى أعمال سيد درويش، والشيخ إمام وتوأمه الشاعر أحمد فؤاد نجم، لذا ليس
من الغريب تشبيه أعماله بأعمال المبدع الشيخ إمام، وتلقيبه بشيخ إمام هذا الجيل.
قد لا يروق هذه الكلام للبعض من باب علوّ قامة الشيخ
إمام وسيد درويش الفنية، ولكن الحقيقة أننا كبشر نميل الى تقديس الماضي على حساب
الحاضر، وهذا يؤثر على رؤيتنا لجمالية الأشياء التي نعايشها على حساب استجرار الذكريات
والعيش على أطلال الماضي الجميل.
في كل زمان نعيشه، هناك مواهب حقيقية تستحق الإشادة والاستمتاع
بها، كما تستحق أن نعطيها حقها وقدرها من الثناء والتشجيع، ولكن المفارقة، أننا
نكرّم الفنان بعد رحيله، وحينها فقط ندرك حجم موهبته وتفرّده، ثم نبدأ بتخليد ذكره
والبكاء على أطلاله، بينما أثناء حياته نهمله، بل نهاجمه ونحدّ من إبداعه في كثير
من الأحيان.
وهذا الظلم يتضاعف، عندما تقوم أنظمتنا العربية مع كل
أسف، بقمع الموهوبين من شاكلة حمزة نمرة، ومحاصرتهم بدلاً من تشجعيهم وتبنّي
تجاربهم الفنية والأدبية.
سياسة تكميم الأفواه، وقمع كل صوت يغرّد خارج سرب النظام،
ومحاصرته وتقييد حريته، أصبحت السمة الغالبة في معظم بلادنا العربية، وهذه السياسة
لا تفرّق بين معارض سياسي وحزبي أو صحافي او فنان وأديب، كلهم في النهاية يتعرضون
للتغييب القسري والتعتيم الإعلامي والتصفية المعنوية.
من المؤسف ان ترى هذه المواهب وهي تهاجر بعيداً عن أوطانها
نتيجة سياسات القمع والملاحقات الأمنية، ومن المؤسف أيضاً، أن ترى هؤلاء المبدعين
من الشباب وهم يبدعون في بلاد الغرب، ذات البلاد التي نلعنها كل يوم بسبب سياساتها
في المنطقة، ولكنها في النهاية، الوحيدة في العالم التي تمنح أبناءنا مساحة الحرية
الكافية للإبداع والتعبير وتمنحهم حق الحماية الدستورية للاختلاف مع الأنظمة ونقد
المسؤولين.
حمزة نمرة يقيم حاليا في أوروبا، ولا يجد سوى قناة (التلفزيون
العربي) التي تبث من لندن للتعاون معها وتقديم أعماله الفنيّة، وقد اضطر الى إنتاج
ألبومه الأخير بتمويل شخصي، نتيجة غياب الدعم وحالة الحصار الثقافي التي يعيشها هو
وجميع أصحاب المواهب الحقيقية الذين قرّروا أن يعبّروا عن آرائهم بحرية، دون قيود
ودون توجيه.
موهبة حمزة نمرة الحقيقية تكمن في موسيقاه، فهو ليس مجرد
مطرب او مؤدي للأغاني، بل إن معظم أغانيه من تلحينه، وعلى سبيل المثال فقد قام
بتلحين جميع أغاني ألبومه الأخير (حطير من تاني 2018) باستثناء أغنية وحيدة، وهذا
ما يجعل منه موهبة موسيقية قادرة على الارتقاء بالفن من جهة، وايصال هذا الفن
الراقي الى فئة الشباب بشكل عصري قريب من القلوب، إضافة الى تقديم رسالة إنسانية
من خلال هذا الفن وتطويع الموسيقى والألحان لخدمة تلك الرسالة.
من أغانيه الجديدة المفضلة لدي، أغنية (داري يا قلبي) وهي
من ألحانه، ومن أكثر الأغاني العربية رواجاً على موقع اليوتيوب لهذا العام، وتقول
كلماتها:
خايف تتكلم ليه .......في عيونك حيرة وحكاوي كتيرة
متغير ياما عن زمان، قافل على قلبك البيبان
حبيت وفارقت كام مكان، عايش جواك
إحساسك كل يوم يقل، وتخطي وخطوتك تزل
من كتر ما أحبطوك تملّ فين تلقى دواك
بتودع حلم كل يوم، تستفرد بيك الهموم
وكله كوم والغربة كوم والجرح كبير
نحن في أشد الحاجة اليوم، إلى هذه المواهب الحقيقية في
عالمنا العربي، وأرجو ان أعيش اليوم الذي تعود فيه تلك الطيور المهاجرة لتنعم
بالتكريم والاشادة في بلدانها، وتخدم مجتمعاتها وتنال ما تستحقه من عيش كريم دون
تضييق على الحريات أو قمع للإبداع.
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
23-12-2018