تتناول الكاتبة والصحفية الكندية "نعومي كلاين"
في كتابها القيّم "عقيدة
الصدمة" فكرة "النظام العالمي الجديد"
أو "الاقتصاد الحر"
التي تبنّاها بروفيسور الاقتصاد في جامعة شيكاغو "ميلتون
فريدمان" في خمسينيات القرن الماضي، وتُبيّن
كيف ترسّخت هذه المبادئ أيدلوجياً وأصبحت فيما بعد "عقيدة" لدى الإدارة الأمريكية بشقيها السياسي–الاقتصادي،
والعسكري-الاستخباراتي، وكانت تستهدف في الأساس البلاد الشيوعية والاشتراكية.
وهذه العقيدة
مبنية في الأساس على مبدأ استغلال الصدمة الجماعية للمجتمعات أو البلدان، والناشئة
إما نتيجة ظواهر طبيعية غير مألوفة (أعاصير، فيضانات، أو زلازل مدمرة) أو نتيجة ظروف
الحروب والنزاعات العسكرية، وذلك لإعادة بناء وتشكيل هذه المجتمعات من جديد على
أسس الخصخصة وتحرير الأسواق التي تؤدي في النهاية الى انسياب المال العام من عامة
الشعب ومؤسسات الدولة، الى أيدي قلة قليلة من رجال الأعمال والشركات الخاصة
المتآلفين بدورهم مع مجموعة من الطغمة الحاكمة.
اللافت أن عملية التحوّل الاقتصادي أو السياسي، تكون
مصحوبة بوعود النهضة الاقتصادية وجلب الاستثمارات الأجنبية، ولكن المحصلة النهائية
تكون في الغالب على العكس تماماً: زيادة في الدين العام، مع ازدياد في معدلات
الفقر والبطالة، وذوبان في الطبقات الوسطى للمجتمع، مقابل فوائد هائلة لفئات
محدودة!
وقد تم تطبيق استراتيجية
"عقيدة الصدمة"
في الولايات المتحدة بعد أحداث سبتمبر، حيث استغلت إدارة بوش حالة الهلع والصدمة،
لتمرير أكثر من مشروع استراتيجي، على رأسها غزو العراق وسرقة موارده لصالح شركات الطاقة
الأمريكية، مع ضمان عقود إعمار وخصخصة طويلة الأجل، ثم استغلال الحدث داخلياً
وعالمياً للترويج لما يُسمّى "الحرب
على الإرهاب" لضمان استمرار ازدهار صناعة الأسلحة
الأمريكية.
ولكن الأهم من
ذلك كله، هو خلق "فوبيا
الأمن والأمان " التي انتشرت من أمريكا الى العالم
كالنار في الهشيم، وكان لها الدور الرئيس في نشوء صناعة أمنية جديدة تُعنى بأنظمة حماية
المباني والمنشآت، ووسائل التنقل، وأنظمة التفتيش والكشف عن المواد المحظورة، الى أن
وصلت الى تكنولوجيا المعلومات والقرصنة، وما زالت في طور النمو الى يومنا هذا!
وقد أدت إرهاصات الحماية الأمنية، الى رفد الشركات
الخاصة الأمريكية بأرباح هائلة، مع تضاعف معدل إنفاق القطاعات الحكومية والخاصة بل
والفردية على متطلبات الأمن والأمان عدة مرات في السنوات القليلة الماضية.
وقد تم تطبيق ذات العقيدة، في العراق أثناء حربي الخليج
الثانية والثالثة، ولعلكم تذكرون معي أن القيادة الأمريكية أطلقت على الضربة
الجوية الأولى التي قامت بها عام 1990 عن طريق الجو والبحر والبر، اسم "الصدمة والرعب" وكان
الهدف منها شل حركة "العدو" وإفقاده القدرة على الرد.
وخلال فترة الحصار الاقتصادي والعقوبات الدولية على
العراق، تحدثت الإدارة الأمريكية عبر أكثر من مسؤول، عن إعادة العراق الى العصور
الحجرية!
ولكي نستوعب المقصود بهذا المصطلح، علينا أن ندرك جانباً
آخر لعقيدة الصدمة لا يقل فظاعة عما ذكرناه آنفاً، وهو المبدأ القائم على غسل
الأدمغة ووضعها تحت تأثير الصدمة بحيث تفقد رشدها وإدراكها وتنهار، وقد تم تطبيق
هذا التكتيك في عمليات التعذيب المُمنهجة في معتقل غوانتنامو وسجن أبوغريب، والعديد
من مراكز الاعتقال الآمنة”Safe House”
المنتشرة في جميع الدول الحليفة لأمريكا ومن ضمنها دولنا العربية
(حتى من يزعم منها المقاومة والممانعة)، من أجل سحب الاعترافات وجمع المعلومات
الاستخباراتيّة من جهة، ولإرهاب كل من يفكر في الوقوف ضد سياسات العالم الجديد!
وما يُضاعف المأساة، أن معظم المعلومات المنتزعة تحت
التعذيب كانت خاطئة ومضلّلة، إما نتيجة الخوف والهلع الذي يصيب المعتقل أو حالة
التشتت الذهني التي تؤدي الى الهذيان وفقدان الذاكرة.
أساليب التعذيب هذه، اعتمدت في الأساس على فكرة إعادة
العقل البشري الى مراحل الطفولة "غسل
الدماغ" بحيث يصبح العقل صفحة بيضاء يمكن
تلوينها وتشكيلها حسب رغبة من يتحكم بها، ثم انتقلت هذه الفكرة من مستوى البشر الى
الدول، بحيث أصبح الهدف هو إعادة مجتمعات بأكملها الى "العصر الحجري"
مجازياً، بحيث تفقد أخلاقياتها وحضارتها بل وقيمها الإنسانية، بما يكفل تشكيل هذه
المجتمعات أو البلدان على أفكار النظام العالمي الجديد، وقيم السوق الحرة.
المفارقة أو المأساة الحقيقية، أن ما حصل في معظم
تطبيقات عقيدة الصدمة، كان فشلاً ذريعاً في إعادة تأهيل البشر الذين خضعوا الى
عمليات غسل الدماغ، وفشل أكبر في إعادة تأهيل المجتمعات التي تعرضت لصدمات الحروب،
بل إنها غرقت في ظلمات العصور الحجرية، والرابح الوحيد كان كما ذكرنا هو الشركات
الخاصة ورجال الأعمال.
خلال قراءتي لهذا الكتاب الصادم، مثل العنوان الذي
يحمله، أدركت أن الحركة الصهيونية قد سبقت الأمريكان بتبنّي هذه العقيدة جوهراً
ومضموناً، حيث نجحت في نشر الرعب بين صفوف الفلسطينيين عن طريق ارتكاب سلسلة من
المجازر الوحشية (دير ياسين، الطنطورة، صفد، بيت درّاس، اللد ومعظم المناطق
المحتلة عام 1948) لإحداث تأثير الصدمة على السكّان (التي أفقدتهم القدرة على
التفكير العقلاني) ومن ثم تطويعهم لا إرادياً لفكرة الهجرة والبحث عن ملاذ آمن، من
أجل حماية أعراضهم وأرواحهم، وصولاً الى قمع رغباتهم بالمقاومة.
وفي خضم تلك الحالة من الصدمة تم البدء فوراً في تغيير
ملامح الجغرافيا والتاريخ على أرض الواقع، قبل أن يتمكن السكان الأصليون من امتصاص
أثر الصدمة والمطالبة بإعادة أراضيهم المسلوبة أو حتى السماح لهم بالعودة!
ومن هنا اعتبرت الدولة الصهيونية كل من غادر البلاد خلال
فترة الهجرة الأولى أجنبياً عن الدولة وتم حرمانه من كافة حقوق المواطنة، أما
الذين بقوا فقد استمر العمل على طمس هويتهم ومحاولة خلعهم من جذورهم، وقطع أي
تواصل بينهم وبين ذويهم في الخارج.
هذه كانت النسخة الأولى لعقيدة الصدمة في اعتقادي، والتي
يعزى لها إعادة تشكيل خارطة فلسطين، جغرافياً وديموغرافياً بل وتاريخيا!
ما زالت عقيدة الصدمة تلعب دوراً كبيراً في تهيئة
الأجواء والظروف الملائمة كي ينقض مصاصو الدماء على ضحاياهم، ولكنهم على عكس أفلام
الفانتازيا لا يتشحون بالسواد ولا نرى لهم انياباً بارزة، فهم يرتدون ملابس أنيقة
وربطات عنق فاخرة، يتحدثون عن الخصخصة والازدهار الاقتصادي، وحماية أمننا من
جيراننا واعدائنا على حد سواء، ويعرضون علينا المساعدة في القضاء على الإرهاب
والفكر المتشدد والمتطرف، وكل الفزّاعات التي تثير خوفنا!
أختتم مقالي باقتباس النص التالي من الكتاب ((إن النظام
الديني المتشدد والمتعصب للعرق، هو الذي يطالب عادة بإبادة جماعات وحضارات كاملة
بهدف تحقيق رؤيته إلى عالم طاهر)).
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
13-11-2017
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق