"الغساسنة" قبيلة عربية
سكنت بلاد الشام قبل مجيء الإسلام، واتخذت مدينة "بُصرى الشام" عاصمةً لها، تحالفت مع إمبراطورية الروم
(البيزنطيين) التي كانت تسيطر آنذاك على منطقة الشرق الأوسط والتي استعملتهم في
حروبها ضد الفُرس.
حسب المراجع التاريخية
فإن الغساسنة قد تنصّروا ليصبحوا على دين حليفتهم العظمى (الأرثوذكسيّة الشرقيّة)
وبقوا كذلك إلى أن تحالفوا مع المسلمين بعد انتصارهم في معركة اليرموك.
في المقابل حَكَمَت
قبيلة "المناذرة" بلاد الرافدين واتخذت
"الحيرة" عاصمة لها، وامتد
حكمهم إلى تخوم الشام وصولا إلى عُمان في الجنوب، وكانت بلاد المناذرة على مذهب
كنيسة المشرق التي تعادي المسيحية الأرثوذكسيّة. تحالف المناذرة مع الفرس (الإمبراطورية
الساسانية) التي كانت تسيطر على ما يعرف بإيران الآن. وكما فعل الروم، قام الفرس
باستعمال المناذرة في حروبهم ضد الروم!
ونتيجة لذلك خاض
الغساسنة والمناذرة حروباً طويلة وداميةً ضد بعضهم البعض في سبيل خدمة القوى
العظمى ومشاريعهم الاستعماريّة في المنطقة. الأدهى من ذلك أن حرباً من نوع آخر
دارت بين هاتين القبيلتين، حيث تبارى الشعراء وأصحاب الكلمة كلٌ في الدفاع عن حقوق
قبيلته كما يراها من وجهة نظره، واتهام الطرف الآخر بالخيانة والعمالة، وعلى رأي
المثل (كل ما دقّ الكوز في الجرّة) بين الفرس والروم، اشتعلت المنابر بين الغساسنة
والمناذرة وصهلت الخيل واستُلّت السيوف، وهكذا دخلوا التاريخ كمضرب مثل للتناحر
بين أبناء العمومة لحساب "القوى العظمى"!
عندما كنت في الصفوف
الإعدادية، حدثنا أحد المعلمين عن قصة الغساسنة والمناذرة، وحيث أنى كنت على
سجيّتي ولمّا أتعرف إلى خبايا الدول وعوالم السياسة "غير البريئة" فقد صدمتني تلك
الوقائع وسألت المعلّم مُستنكراً: لماذا كانوا يفعلون ذلك؟! وبدا أن سؤالي لا
إجابة له، فقال لي المعلم من باب تقريب المسألة: نحن حالياً نعيش في عالم يتنافس
فيه الأمريكان والروس (كان هذا قبل انهيار جدار برلين) وكما تعلم فإن دولنا
العربيّة ضعيفة ولا شأن لها، لذا فإنها تطمح بالولاء لإحدى هاتين القوتين في مقابل
الحماية والرعاية وضمان المساعدات، وهذا ما حصل! ولكن ما يهمنا هو العبرة. نعم،
العبرة التي استخلصتها من كلامه ولم ينطق بها لسانه (إياكم أن تكونوا أداةً في
أيدي أحد مهما دعتكم الحاجة وبرّرت لكم الظروف!).
منذ انطلاق شرارة
الربيع العربي، ظهر جليّا وواضحاً أن الشارع العربي كان متقدماً على صالونات
المثقفين والمُفكرين وبالتأكيد السياسيين العرب، مما أثار الشكوك حول قيادة "خفيّة" تدير الأمور من
وراء الستار، وبدلاً من أن تلحق الأحزاب والسياسيون وكذلك المفكرون والمثقفون بركب
الشارع وتقوده نحو ثورة حقيقية في المفاهيم والأفكار، وتساعده على قلب الموازين
وتحقيق قفزة نوعية في التأسيس للحريات العامة وبناء دول مؤسسات حقيقية، تخاذلوا جميعاً
وانقسموا فيما بينهم، وأصبح كل واحد فيهم يقيس الأمور من باب المصالح الفئوية،
ومصالح المعسكر الذي ينتمي إليه، أو الاكتفاء بالوقوف ضد أي شيء تثار حوله الشبهات
من قريب أو بعيد بصلته بالمعسكر الذي يقف ضده!.
لقد وضعنا جانباً قيمنا
الإنسانية، وشيمنا العربية، ووصايا ديننا الحنيف، فخلطنا الحقيقة بالوهم والحق
بالباطل وتطوّعنا بكل جسارة كي نكون أدوات تخدم الآخرين (كل الآخرين) سوى أنفسنا، فتفرّقنا
وتناحرنا وتقاتلنا وخضنا حرباً بالوكالة على أراضينا، فما نلنا غير الدمار والقتل
والتشريد والتنكيل ببعضنا، وأورثنا أنفسنا جراحاً يستعصي شفاؤها على الزمن!
من سخرية القدر، أن بعض
مثقفينا الثوريين المحسوبين على التوجه اليساري وقفوا ضد ثورات الشعوب (التي كانوا
هم أنفسهم يبشّرون وينظّرون لها) بحجّة أنها تخدم المشروع الأمريكي في المنطقة، فانحازوا
إلى الأنظمة السلطويّة. في المقابل وضع بعض المُعارضين يده في يد الغرب من أجل
خلاصهم من الأنظمة الديكتاتوريّة، وعلى رأي المثل (ما أسخم من سيدي إلا ستي) !لقد أصبحت بلادنا
العربيّة اليوم منقسمة على نفسها خدمةً لمشاريع كل الدول الطامعة في المنطقة، بدءاً
من إيران وإسرائيل، وانتهاءً بروسيا وأمريكا!
عقلية نمطية غير قادرة
على التفكير خارج الصندوق، ما تزال تعتقد أن حسابات السياسة السليمة مبنية على
تحالفات المصالح (عدو عدوي هو صديقي) وموازين القوى (على الضعيف أن يجد ظهراً
يحميه)، وهم بهذا لا يختلفون عن أجدادهم الغساسنة والمناذرة، من حيث المبدأ على
الأقل.
هذه العقليّة بالذات، تذكّرني
بالقصة الرمزية "
سكان الكهف " لأفلاطون، وهي تتحدث
عن مجموعة من البشر يقضون حياتهم مُقيّدين في كهف لا يرون فيه سوى ظل الأشياء التي
تنعكس بفعل ضوء الشمس (الداخل إليهم من الخارج) على جدار الكهف فيعتقدون أن الظل
هو الحقيقة وليس مجرد انعكاس الأشياء، وعندما يتحرّر أحدهم ويخرج إلى العالم
الخارجي، يُدرك حقيقة الأشياء وأن انعكاس الضوء هو الظل وليس حقيقة الأشياء، فيعود
إليهم مُحاولاً نقل المعرفة وكشف الحقيقة لهم، ولكنهم يتهمونه بالجنون ولا يقبلون
تحرير قيودهم والخروج إلى العالم الحقيقي، ويصرّون على أن ما يرونه (الظل) هو
الحقيقة.
إن جزءاً غير يسير من أصحاب
القرارات السياسية في عالمنا العربي، ومن يدور في فلكهم من مُفكرين ومثقفين
وإعلاميين لديهم "كهفهم"
الخاص الذي نشأوا على أفكاره وأهدافه المحدودة، فتأسّست لديهم حسبة المصالح والتحالفات
الدولية والمؤامرات السياسية، فخلطوا بين حقيقة الأشياء وظلّها، وعندما اندلعت
ثورة الشارع العربي العفويّة، رفضوا أفكارها فاتهموها بالجنون تارة، وبالعمالة
تارة أخرى، بدلاً من النهوض من غياهب كهفهم، ورؤية الأمور على حقيقتها.
الحقيقة المرّة أن المثقف
الغسّاني في القرن الواحد والعشرين ما زال ينعت المثقف المُنذري بالخيانة والعمالة،
فقط لأنه يظن أنه يخدم سيداً غير سيده والعكس صحيح، وما زال كل واحد فينا يتباهى بهذا الزعيم او ذاك، ويلعن كل من
يتباهى بغيره. لقد تناسينا أن هدفنا هو مصلحة الوطن وليس مصلحة أي جهة كانت، وأن
الأصل هو إعلاء قيم الانسان وليس إعلاء الرموز التي اتخذناها، وأن الظلم ظلم مهما
كانت هوية الظالم، وأن نصرة المظلوم واجبة حتى لو كان المظلوم نقيضي في الفكر، وما
لا أقبله لنفسي لا أقبله لغيري!
لن يذكر التاريخ من
بطولاتنا المزعومة شيئاً، سوى تناحرنا وتسابقنا في قتل بعضنا البعض في سبيل إثبات
أن الظل هو الأصل وليس الأشياء، وأننا متنا وفي داخل كل واحد فينا وشيجةَ قلبٍ
غسّاني أو مُنذري!
أيمن
يوسف أبولبن
كاتب
ومُدوّن من الأردن
15-7-2017