الثلاثاء، 14 مارس 2017

فيلم "السياجات Fences" انعكاس انكساراتنا وأحلامنا الضائعة



 نجح فيلم "Fences" من إخراج وتمثيل البطل الأسمر الرائع "دينزل واشنطن" في إلقاء الضوء على عدة موضوعات إنسانية حياتية عميقة، كما نجح أيضاً في الغوص عميقاً داخل شخصيات العمل، وطرح أدق تفاصيل مكنوناتهم الشخصية، أحلامهم وآمالهم، مخاوفهم وانتكاساتهم، علاقاتهم وعواطفهم وكل ما يخصهم، في نسيج متناسق ومتناغم. كما فازت الممثلة "فيولا ديفيس" بجائزة أوسكار أفضل ممثلة مساعدة لهذا العام عن دورها في الفيلم المقتبس عن عمل مسرحي يحمل نفس الاسم.

  ولعلّ عنوان الفيلم "السياجات" (جمع سياج) كان موفقاً في الاختيار، فالسياج هو ما نبنيه من حول ممتلكاتنا لنحافظ على خصوصيتنا أولاً، و لحمايتنا من التطفلات الخارجية، وهو لا يقتصر على ذلك السياج الخارجي الذي نبنيه حول بيوتنا أو حدائقنا، بل يتعدّاه للمعنى الضمني للكلمة ليشمل تلك الحدود غير المرئية التي نرسمها من حولنا للحفاظ على مكنوناتنا الشخصية ونحميها من الاختراق أو حتى المشاركة مع الآخرين، مفضلين التفرّد بالذات والاحتفاظ بانكساراتنا وخيباتنا بعيداً عن تلصّص الآخرين!

كم من السياجات الفعلية التي نبنيها من حولنا كي تحول بيننا وبين الآخر، بين الحقيقة المرّة التي نحتفظ بها، وبين ما نعبّر عنه على أرض الواقع؟!

   تحكي شخصية "تروي" التي يجسّدها "دينزل واشنطن" قصة إنسان مُكافح عانى الأمرّين كي يصنع لنفسه كياناً مستقلاً ومحترماً في المجتمع، وفعلَ كل ما في وسعه كي يؤمّن مستقبلاً أفضل لعائلته وأبنائه من بعده، ومن هنا يبحر بنا هذا العمل الى أعماق هذه الشخصية ويستعرض لنا تفاعلها مع أقرب الناس إليها وتلك التناقضات السلوكيّة التي تفرضها الظروف الاقتصادية والاجتماعية، أو تلك النابعة من تأثير تجارب الماضي عليها.

لقد عانى "تروي" من قسوة أبيه، ولطالما روى لأبنائه كيف أنه أضطر للاستقلال بحياته وهو بعمر السادسة عشرة فقط، وكيف جاهد لتأمين احتياجاته واستمراره في الحياة، والعمل الكبير الذي قام به من أجل بناء عائلته وتحقيق الحماية والأمن لها، ومن هنا كان التناقض واضحاً في معاملته لأبنائه التي تبدو قاسية ظاهرياً ولكنها تُخفي بداخلها كل العاطفة والحنان اللذين افتقدهما هو.

وفي تناقض آخر، يدفع "تروي" ابنه للعزوف عن ممارسة "البيسبول" والتركيز على دراسته وعمله الإضافي رغم أنه شخصياً كان يحلم بأن يكون لاعب كرة مهماً وأن يحترف في فرق المقدمة ولكنه لم ينجح في ذلك، بسبب العنصرية ضد السود، في حين تقول زوجته إنه لم يتم قبوله بسبب سنّه المتقدّم رغم اعترافها بموهبته الفذّة، ولكن هذا لا يغيّر من واقع الأمر شيئاً بالنسبة لتروي، في النهاية كان كل ما يعنيه أنه قد حُرم من فرصة اللعب الاحترافي رغم قناعته بأنه يستحق ذلك، وهو يريد تجنيب ابنه معاناة تكرار تلك التجربة!

تقول الأم لأصغر أبنائها في المشاهد الختاميّة للفيلم (أراد أبوك أن لا تشبهه في شيء ولكن في الحقيقة كان يريدك أن تكون مثله) وكأنها تقول: كان يريدك أن تكافح في الحياة ولا تأخذ شيئاً على أنه مضمون أو مستحقٌ لك، كان يريدك أن تكون أفضل منه في كل شيء بتعبك وجهدك، وأن تستحق كل ما تجنيه دون فضلٍ من أحد وبالاعتماد على نفسك، ولعبة البيسبول لن تجلب لك ذلك.

شخصية "تروي" هي نموذج لكل إنسان شعر بأن الحياة قد سرقت منه شيئا ولم يستطع استعادته، رغم بذله كل ما استطاع من جهد، إنها قصة كل إنسان شعر أن ظروف الحياة كانت قاسيةً عليه وأنه لم يحقّق شيئاً مهما كان بسيطاً دون أن يدفع ثمنه غالياً من صحته وعمره وجهده. إنها قصة كل إنسان يشعر أن الحياة كانت أسرع منه وأنه أخفق في مواكبة وتيرتها!

حتى أن المنزل الذي يملكه ويتباهى أمام أبنائه أنه استطاع تأمينه لهم (رغم أنه حين كان بعمرهم كان يتسكّع في الشوارع) لم يكن ليحصل عليه لولا استفادته من معونة خاصة نتيجة إصابة أخيه بشظيّة في رأسه أثناء الحرب أثّرت على قدراته العقليّة، وهكذا يتولّد شعور كبير لديه (يُغالب مشاعر الزهو والاعتزاز) بأنه رغم كل كفاحه في هذه الحياة ومعاناته المُضنية مع الظروف الصعبة التي فُرضت عليه ورغم اجتهاده، إلا أنه لم يتمكن قط من تحقيق ما يصبو إليه بشكل كامل، وتحقيق أحلامه الشخصية كما رسمها في خياله، وهو بهذا يشعر كأنه عاش نصف حياة!

من المواقف اللطيفة واللافتة أن "تروي" كان دائماً ما يعبر عن رغبته في العمل كسائق لشاحنة القمامة بدلاً من العمل على متنها لجمع القمامة من الشوارع، وكان يُبدي امتعاضه من عدم وجود أي سائق "أسود" في البلدية، ثم أصرّ على مقابلة عمدة المدينة لمناقشة الأمر معه، ونجح في النهاية بأن يحصل على وظيفة سائق بالفعل، ولكن الطرافة في الموضوع أنه لا يملك رخصة قيادة ولا يعرف كيف يقود تلك الشاحنة!

يخطر لي دائماً أن الحياة عبارة عن شبكة عنكبوتية ضخمة، كل فرد منا يشكل جزءاً صغيراً فيها، نقوم بنسج الخيوط من حولنا ونعمل على التوسع والانتشار، فتتشابك خيوطنا مع خيوط الآخرين في علاقات مترابطة وشائكة بل ومعقدة أحيانا، ولكننا نستمر في رحلة الحياة وننتقل من مكان إلى آخر ويكون لزاماً علينا أن نتخلّى عن بعض الخيوط ونسج غيرها في مكان آخر، ومع الزمن تتحلّل وتتلاشى بعض الخيوط ويحل محلها خيوط أخرى ضمن عملية إعادة الإحلال وهكذا دواليك، الى أن يأتي اليوم الذي نتوقف فيه، وننظر من خارج الشبكة العنكبوتية نظرة تأمل وتفكّر في المسار الذي اتخذناه، ونعاين المساحة التي نشغلها، لندرك أنها أقل بكثير من أحلامنا وطموحاتنا بل أقل بكثير من كفاحنا، ثم ندرك أن ثمة عقبات فشلنا في اجتيازها وثمّة فرص أخفقنا في اغتنامها، مما ساهم في تشكيل مسار حياتنا على هذا النحو، ونحتار من نلوم، هل نلوم أنفسنا على التقصير أم نلعن الظروف، أم نكتفي بلعب دور الواقعيّة ونقول: لسنا نادمين لأننا نعلم تماماً أننا بذلنا كل ما في وسعنا وأخذنا حظوظنا في هذه الحياة ؟!

أيمن أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن

13-3-2017  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق