مما يثلج الصدر، بعد انتكاسات "الربيع
العربي" المتعددة (والتي حوّلت
الربيع إلى كابوس مُفزع) زيادةُ الوعي لدى الشعوب العربية، وتحركها الواعي ضمن
مبادرات جماعيّة تهدف إلى معالجة مشاكلهم الراهنة ضمن إطار اجتماعي حضاري واضح
الرؤية والهدف، ولديه من التصميم الشيء الكثير. من هذه المبادرات ما تشهده الساحة
الأردنية من حملات مقاطعة متتالية تهدف إلى إعلان رفض الشعب الأردني لسياسة "الجباية"
التي تنتهجها الحكومة تحت بند معالجة النقص في الميزانية.
حملات المقاطعة الأردنية بدأت بالبطاطا والبيض
لارتفاع أسعارهما، وهناك للمصادفة أكلة شعبية تُدعى "المفرّكة"
تتكون من البيض والبطاطا، لذا أطلق على هذه الحملة "مقاطعة المفرّكة"،
وانتقلت إلى حملة "سَكّر
خطّك" للاعتراض على فرض ضرائب
إضافية على خطوط الاتصال والانترنت، وأخيراً حملة "صُفْ سيارتك"
لمواجهة ارتفاع الضريبة على المحروقات.
اللافت أن حملات المقاطعة انتشرت بين فئات المجتمع،
ولاقت رواجاً ومؤازرة بعد تدشين مواقع الكترونية وصفحات فيسبوك تدعو للمقاطعة،
وكانت حملات المقاطعة الأردنية قد بدأت قبل عدة أشهر بحملة "طفّي الضو"
التي دشّنها النشامى اعتراضا على عقود الغاز الإسرائيلي، ولاقت استجابة طيبة.
وخلال الفترة الأخيرة عبّر الأردنيون عن درجة عالية من
الوعي، والرغبة في تغيير الأوضاع "بيدي
لا بيد عمرو" بعد سلسلة مخاض
طويلة خاضها نشطاء أردنيون منذ انطلاقة الربيع العربي، وسلسلة طويلة من الوعود
الاصلاحيّة عبر عدّة حكومات متعاقبة، لم تؤتِ أُكلها ولم يتجاوز أثرها مفعول
المخدّر والمهدئ لغضب الشارع، وهذا بحد ذاته مؤشر ذو حدين فهو من ناحية يشير إلى
إيجابية المواطنين وأخذهم زمام المبادرة، ولكنه يشير من ناحية أخرى إلى حالة فقدان
الأمل، واليأس من أركان اللعبة السياسية، الحكومية منها والحزبية بل وممثلي الشعب
كذلك.
على الجانب الآخر، يبرز خلو الساحة من الأحزاب
السياسية والهيئات المستقلة، فجميع المبادرات هي مبادرات فردية نابعة من المواطنين
بعيداً عن الصبغة الحزبية، أو عن دعم أي من المؤسسات الأهلية، ويبرز أيضاً عدم
تفاعل مجلس النواب الأردني مع هذه الحملات، أو طرح أية مبادرات حقيقية للحل، بعد
أن قام المجلس بإقرار الموازنة العامة (والتي تشمل حزمة التعديلات الضريبية).
ولكن المثير للاستغراب كان ردة فعل الحكومة، التي يُفترض
بها أن تستثني نفسها من لعب أي دور للتأثير على الشارع في خياراته، وعدم التأثير
على الأسواق التزاماً بما كانت تدّعيه من دعم حرية الأسواق، ففي الوقت الذي كان
المواطن الأردني يستجدي فيه الحكومة للوقوف في وجه جشع بعض التجار والحد من
الارتفاع غير المبرر للأسعار، خصوصا في الأعياد والمواسم، كان المسؤولون ينأون
بأنفسهم ويبررون سلبيتهم باقتصاد السوق وعدم إمكانية التأثير عليه، داعين في الوقت
نفسه المواطنين القيام بتقنين احتياجاتهم واستخدام البدائل، أي ممارسة لعبة العرض
والطلب، أما حين استنجدت الشركات واستخدم رجال الأعمال علاقتهم بالمسؤولين
الحكوميين، بدأنا نرى مبادرات حكومية لاستيعاب حملات المقاطعة وتحديدها والتدخل
فيها، وظهر ذلك واضحاً في حملة الاعتقالات وإغلاق صفحات المقاطعة، وتصريحات المسؤولين
أن حملات المقاطعة قد انحرفت عن أهدافها وأنها تشهد أصواتاً "نشازاً"
هنا وهناك.
وما زاد من سخونة الموقف مؤخرا أن الحكومة الأردنية
وفي ظل حملات المقاطعة، أقرّت زيادات كبيرة على قطاع الاتصالات والانترنت، ضاربة
بعرض الحائط كل الرسائل التي بعثها المواطنون إن الحل لا يجب أن يكون جيب
المواطن، وأثبتت أنها تبحث عن الحلول الآنية والسهلة (المهدئات و ليس العلاج)، بل
إنها وقعت في تعارض صريح وواضح مع التوجهات الاستراتيجية المتمثلة في سياسة توفير
المعرفة للجميع، وإيصال الانترنت لكل بيت، وانتهاج الاقتصاد الرقمي الذي يفترض
"أتمتة" القطاعات واعتمادها الكلي على قطاع الاتصالات والانترنت، في
الوقت الذي كان من المؤمّل فيه من هذه الحكومة اتخاذ خطوات جريئة لدعم قطاع
الاتصالات ورفع مستوى الخدمة، وتحريره من الرسوم والضرائب لرفع كفاءته وضمان توفير
الخدمة بأسعار منافسة.
ومما يثير
الحنق أن تتعامل الحكومة مع خدمة الاتصالات والانترنت على أنها وسيلة جديدة
للجباية بدلاً من اعتبارها باباً للمعرفة، وأن تتعامل معها على أنها من الكماليّات
الترفيهية، في حين أنها أصبحت في عصرنا الحالي من أساسيات الحياة التي لا يمكن
الاستغناء عنها. في بعض البلدان الخليجية تقوم شركات الاتصال بتوفير خدمات
الإنترنت المجانية في مواسم الأعياد والمناسبات الوطنية، كما تنتشر كابينات انترنت
مجانية على الطرق الدولية، وفي المطارات، كما تقدم دولة رومانيا خدمة الإنترنت
المجانية في كافة وسائل المواصلات في البلد، ويحذو حذوها العديد من الدول المتقدمة
الأخرى، في الوقت الذي تفكر فيه الحكومة الأردنية بكيفية فرض رسوم على التطبيقات
المجانية للمستخدمين!، وهذا يدفعنا إلى التساؤل: هل هذه الحكومة تشاركنا العيش على
نفس الكوكب؟
عندما توالت الانتقادات على الانفتاح الاقتصادي مع
العدو الصهيوني وفتح باب استيراد البضائع الإسرائيلية، كان رد المسؤولين الحكوميين
واضحاً وصريحاً بأن اقتصاد السوق هو الذي يحكم وأن التدخل الحكومي لم يعد ممكناً،
وببساطة بإمكان المواطن الأردني أن يشتري البضاعة الإسرائيلية او أن يتركها ويشتري
غيرها (وهذه تصريحات رسمية موثقة) ولكن الذي حصل أن التجار و بمعاونة المسؤولين أو
على الأقل بغض الطرف من قبلهم، عمدوا إلى طمس معالم كل ما يشير إلى مصدر المنتوجات
الإسرائيلية بعد أن كسدت بضاعتهم وأُتهموا بالخيانة، أليس هذا نوع من أنواع الغش
والاحتيال ومحاولة التدخل في اقتصاد السوق ؟! وعلى نفس المنوال وقف المسؤولون
الحكوميين على الحياد حين كان المواطن الأردني يجأر بالشكوى من ارتفاع الأسعار
وجشع التجار واستخدموا ذات المبررات، فلماذا تمارس الحكومة الضغوطات الآن على
حملات المقاطعة وتحاول التدخل في اقتصاد السوق ولسان حالها يقول (صحيح لا تِقْسم،
ومقسوم لا تاكل، وكُلْ لمّا تشبع!)
عزيزتي الحكومة: خير مش طالبين، بس كُفّي شرّك عنا!
أيمن
يوسف أبولبن
21-2-2017
كاتب
ومُدوّن من الأردن