الاثنين، 14 مايو 2018

سبعون عاماً من النكبات!




سبعون عاماً مضت على نجاح المشروع الصهيوني، سبعون عاماً على احتلال عكا وحيفا ويافا، سبعون عاماً من التشرّد والقهر ومخيمات اللاجئين، والنزوح القسري، سبعون عاماً من الحروب المسرحيّة ومعارك السلام العبثيّة، سبعون عاماً تخلّينا فيها عن يحيى وزكريا وعيسى، ورحلنا عن برتقال يافا وبحر حيفا، وسور عكّا.

سلامٌ عليك أرض فلسطين المباركة، مات أبناؤك أيتها الأم الصابرة، ونزفت جراحهم فروّت ترابك وأنبتت زهر الحنّون، الذي اصطبغ باللون الأحمر، ليكون شاهداً على قبور الشهداء الذين ماتوا ولم يجدوا من يدفنهم أو يتعرّف على هوياتهم.
سبعون عاماً، انتشرت فيها حقول الدحنون، تخرج دون بذور ودون لواقح، ودون ماء، يكفي أن تمشي على أرض فلسطين، لترى الدحنون يشقّ الصخر ويطل برأسه ليقول ها هنا شهيد.

أتوا من وراء البحار حاملين معهم إرثهم من الذل والاستكانة وعُقدة الدونيّة، جاؤوا من الغيتوات الأوروبية، ومعسكرات الاعتقال وبؤر الفقر والشقاء، احترفوا العيش في العوالم السفلية، وحيك المؤامرات وبناء التنظيمات السرية، واستغلال نقاط ضعف الآخرين.
لم يفلحوا أبداً تحت الشمس، فكانوا أول من ابتدر التجارة في السوق السوداء، والمضاربة، والربا ولعب القمار، وتسويق الجنس.
أتقنوا لعبة المصالح واللوبيات وبرعوا في ابتزاز الصديق والعدو وانقضوا كالجراد على خيرات فلسطين، فعاثوا فيها الفساد، في خير تمثيل للمثل القائل (هجين وقع في سلّة تين)، هؤلاء هم مغول القرن العشرين!

أمّة توارثت الأساطير التوراتيّة جيلاً عن جيل، وأبدعت في اعتناق الخُرافة، حتى باتت جزءاً من عقيدتها وثقافتها وشخصيتها، وجاءت تبحث عن شمشونها وهيكلها الأسطوري في أرض داليدا، وتعيد الكرّة على قوم جبّارين، وتأخذ بثأر خيبر من بنات محمد!

سبعون عاماً على مذبحة دير ياسين، واللد، والطنطورة، والطيرة، والدوايمة، سبعون عاماً من قتل الأطفال، وبقر بطون الحوامل، اعدام الشباب، وذبح الحياة، سبعون عاماً من السجن والاعتقالات والتعذيب، وحرب الجواسيس.
سبعون عاماً على تهجير أهل الأرض الأصليين، والاستيلاء على بيوتهم ومصادرة مزارعهم وحقولهم. سبعون عاماً على هجرة عائلتنا من "زكريا"، تلك القرية الصغيرة التي تم تطهيرها عرقياً، ومسحها عن الخارطة، فباتت تُعرف اليوم ب "كفار زخاريا"، مستوطنة يهوديّة، قَدِمَ أهلها من غبار صُحف قديمة مُصفرّة، فأقاموا بيوتهم على أنقاض ذكرياتنا ورفاة أجدادنا.
  
كان والدي دائما ما يفخر بقريتنا وبالصيت الذي رافق أهلها لإتقانهم اللغة العربية الفصحى وتمسكهم بقواعد النحو، وكان دائماً ما يذكر لنا كيف أن قريتنا الصغيرة رغم ضعف امكانياتها وتواضع أحوال أهلها كانت منارةً للأدب ومركزاً لكتابة الرسائل والعقود والصكوك، وكان يذكر لنا حلقات الذكر، وطرائق الصوفيّة، وقصص الولاة الصالحين.

كان يُرينا صورة قديمة جمعته مع زملائه الطلاب أمام مدرسة زكريا الابتدائية، واحدة من أوائل المدارس التي تطوّرت عن الكتاتيب في فلسطين، وكانت تقع مقابل منزل العائلة. كما كان يذكر بيت المُختار والراديو الذي كان ملاذ أهل القرية، يلجأون إليه لمتابعة الأخبار والاستماع لخطب الزعماء السياسيين ومتابعة أحوال البلاد.

كان يذكر لنا تفاصيل مغادرة القرية، والرعب الذي قذفته الأخبار الواردة من القرى المجاورة، وأهوال المذابح وعار الاعتداءات على العرض. خرج أهل القرية وتركوا متاعهم وأغراضهم، ظانّين أنهم عائدون عمّا قريب، وإن هي إلا بضعة أيام حتى يهبّ العرب لنجدتهم، فلجأوا الى القرى المجاورة ثم إلى التي تليها، ثم نزحوا إلى الأبعد عنها حتى غادر معظمهم فلسطين كلها.

ما زلت أذكر الحسرة التي تحدث فيها عن المرة الوحيدة التي عاد فيها لزيارة قريتنا في الثمانينيات، حينها لم يتعرّف على أي معلم من معالم القرية وبالكاد تعرف على "السنسلة" التي كانت تحيط ببنيان المدرسة، بالإضافة إلى جامع زكريا الذي تركه الصهاينة مهجورا يحظر ترميمه.
يومها قال للمستوطنين وهو بصحبة أمي، أنا ابن هذه القرية، أنا من سكانها الأصليين، فأخرجوه منها مرّة أخرى!
سبعون عاماً مرّت على خروجك الأول يا أبي، رحلت عنا ولم تعد إلى زكريا!

أذكر فيما أذكر، أنك حدثتنا عن قصف الطائرات والمدفعية، في الوقت الذي كان فيه عدد "البواريد" في قريتنا لا يتجاوز الأربعين، قلت لنا إن المعركة كانت مشروع مجزرة أخرى.

سبعون عاماً مضت، تفرّقنا فيها أحزاباً وفصائل، وتشتّتنا في بقاع الأرض وأصقاعها، فكنّا شعوباً وقبائل، اختلف العرب علينا، فقرّرنا ألا ندع لهم علينا سبيلا، فانفصلنا عنهم، وطالبنا بحق تقرير المصير، كي لا يقرّروا عنّا، ثم وافقنا على ربع الوطن المسلوب، وربع الكرامة الإنسانية، في سبيل السلطة ونزاع الكراسي، ولكي ننشد في طابور الصباح نشيد "فدائي"!

سبعون عاماً، يجمعنا الوطن وتفرّقنا السياسة، يجمعنا دين الله فلا نكاد نفرّق بين مسجد وكنيسة، ويفرقنا ملوك الطوائف!

سبعون عاماً، أما آن لشعبك يا فلسطين أن ينتصر، وأن يكسر صور الزعامات الكرتونية المعلّقة على الحائط بصفة القدسيّة، ويقوم بتهشيم الرايات الملوّنة كي تنصهر تحت علم فلسطين. أما آن لنا أن نؤمن أن المهدي المنتظر هو فتىً وُلد من ظهورنا، يُدافع عن مقدّساتنا بحجر، وفتاة لم تنبت مفاتنها تلعن الشرطي المحتل وتطرده من حوش بيتها، وعجوز تبصق في وجه جندي، ومزارع كهل يشير من فوق حماره إلى ضابط صهيوني بإشارة النصر. المهدي المنتظر هو هذا الشعب، لا ملاكٌ يهبط علينا من السماء!

 أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن

12-5-2018

الاثنين، 7 مايو 2018

أهلُ القرآن ولغات العصر



حسب المراجع التاريخيّة، فقد نزل القرآن وفي قريش نفرٌ قليلٌ يُتقن القراءة والكتابة، وما أن نزل القرآن حتى باتت الحاجة مُلحّة لإتقان القراءة والكتابة، وكان ذلك إيذاناً ببزوغ فجرٍ جديد للحضارة العربية، التي نزل فيها الوحي أول ما نزل بلفظ "اقرأ".

ولمّا استتب الأمر للمسلمين في المدينة المنورة، أوعز الرسول (ص) لكَتَبَتِه تعلّم لغات الأمم الأخرى مثل السريانية والآراميّة واللغة العبرية وغيرها، فكان الرسول (ص) يُراسل ملوك الدول الأخرى بلغتهم ويتواصل معهم بما يفهمون ويُدركون، وبرز حينها (زيد بن ثابت) بإتقانه للّغات الأجنبية وتولّيه شؤون المراسلات ومحاورة علماء اليهود.

وفيما بعد، كان لهذه الخطوات فوائد جمّة لرفعة الحضارة الإسلامية، فقد امتزجت ثقافات الأمم الأخرى بالثقافة الإسلامية وتأثرت حضارة الدولة الإسلامية في بداية عهدها بحضارات الأمم الأخرى، فأخذت عن الفارسية شؤون الدواوين والمراسلات والتأريخ، وأخذت عن الحضارة الرومانية طرائق إدارة شؤون البلاد والحُكْم، ونقلت الفلسفة اليونانية وفن التأليف والتدوين والكتابة العلمية والتبويب.

وكان للترجمات ونقل مؤلفات الحضارات الأخرى للعربية أثر واضح وجلي في تطور العلوم عند المسلمين ورقي حضارتهم فيما بعد حتى أن اللغة العربية نقلت العديد من المفردات عن اللغات الأجنبية، مثل السندس والياقوت والفيروز والمغناطيس وغيرها الكثير، كما نقلت الكثير من الحِكَم الفارسية وقصص الأدب والخيال مثل (كليلة ودمنة) و (السندباد)، وتأثرت الحضارة العربية بمُنتجات الفلسفة اليونانية، ولكنها نجحت في ذات الوقت في المحافظة على أصالة اللغة والدين وتفوقهما على باقي الحضارات، فاندثرت اللغات القديمة وبقيت العربية، وانضوى السواد الأعظم من سكّان البلاد المجاورة تحت راية الإسلام.

هذا ما حصل في القرن السابع الميلادي، ولكن المفاجئ أن يشهد القرن العشرين بعد ظهور ما يعرف بالمدارس التعليمية الحديثة (والتي تطوّرت عن الكُتّاب) دعوة علماء الدين لعامة الناس العزوف عن تعلّم اللغات الأجنبية واعتبارها من المنكرات أو المحرّمات، بل إنهم شدّدوا على أن العلوم الشرعية هي فقط العلوم النافعة فيما اعتبروا باقي العلوم من العلوم الهامشية التي لا فضل لها على البشر ولا فضل لمن تعلّمها ولا حتى أجرٌ أو وثواب، وينطبق هذا في واقع الحال على الأدب والفن وباقي نواحي المعرفة.

المُدهش أن تجد ان هذا الأمر بشكل أو بآخر ما زال يتكرر الى يومنا هذا، ليس فقط في عقول البعض ورسوخه في قناعاتهم ولكنه موجود بشكل مؤسسي ومنهجي في بعض الدول، وفي معظم المؤسسات الدينية والعلوم الشرعية والقضائية في عالمنا العربي.

أذكر أن أحد أصدقائي في المرحلة الثانوية نصحني وأنا أناظر بعض الكتب في أكشاك وسط البلد، بأن أتوجه إلى كتب الفقه والشرع قائلاً أشتري كتاباً يُفيدك في علوم الدين، أمّا ما سواها فهي علوم موضوعة لا قيمة لها (وهو لا شكّ صادقٌ في نصيحته ونيّته الطيبة لي).

هذا الانعزال عن العالم والخوف من الانفتاح على ثقافات الأمم الأخرى وما نتج عنه من تقوقع داخل قالب جامد من المفاهيم حول الدين والحياة والطبيعة، أدّى في النهاية الى انفصال الدين عن المعرفة، وانفصال الدين عن باقي نواحي الحياة. وخير دليل على هذا اختزال لفظ "العالِم" في عالمنا العربي في "رجل الدين" فقط، دون باقي العلوم من فضاء وذرة وكيمياء وهندسة...الخ
أما صفة هذا العالِم، فهي صورة نمطيّة في المظهر والجوهر مفادها أن الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر، في تجاهل كامل لرسالة الانسان الأولى على هذه الأرض ألا وهي إعمارها والعمل على استصلاحها والتعاون مع باقي الأمم لتوفير الحياة الطيبة على ظهرها، باستخدام العلم والمعرفة وإنتاجهما، وتطبيق منظومة القيم الإنسانية المشتركة، ناهيك عن الحديث عن الجمال والفن والأدب وحلاوة الإنجاز والابداع والتفوّق في علوم الحياة، وانسجام هذه العلوم والآداب مع التقوى وصلاح القلوب والأعمال وتحقيق غاية الله من الخلق.
وبهذا ترسّخ البحث العلمي في أذهان الناس وتم اختصاره في العلم الشرعي بينما تم الحطّ من قدر باقي العلوم بما في ذلك التدريس والتعليم ما دام لا يتعلق بالدين والشرع.

لا يمكن فهم الدين بمعزل عن العلم والأدب والفلسفة كما لا يمكن لرسالة الله على الأرض (الإسلام العام الشامل والعالمي) أن ينتشر وتتحقّق مجموعة القيم الإنسانية والقواسم الأخلاقية المشتركة بدون الانفتاح على الآخر وتقدير حضارته وثقافته. يقول الله تعالى (وخلقناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا).

من المؤسف العلم أن بعض مؤسساتنا الحكومية وقطاعات مهمة في عالمنا العربي، ما زالت تعاني من مشكلة اللغة الأجنبية، والاطلاع على العلوم وأبواب المعرفة المختلفة الى يومنا هذا، ناهيك عن استخدام أدوات العصر مثل أجهزة الحاسوب والهواتف الذكية والانترنت والتطبيقات الذكية، في الوقت الذي تتعامل فيه بعض الدول المتقدمة مع الأجهزة الذكية وتطبيقات الحاسوب، بصفتها لغة أساسية ورسمية، بل إن مفهوم الأميّة في هذه البلدان قد تطوّر ليشمل كل من لا يتقن التعامل مع الأجهزة الذكيّة والشبكة العنكبوتيّة!

كيف يمكن فهم القرآن وهو كتاب الله الى البشرية جمعاء بمعزل عن العلم والمعرفة وأدب اللغة والجيولوجيا والمناخ والفلسفة والمنطق وفن الخطاب، وكيف يمكن إصدار فتوى أو حكم ديني دون دراسة هذه العلوم والتخصّص فيها، يقول الله تعالى (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ).

إن من أولويات تطوير الخطاب الديني هو تطوير أدواتنا المعرفية وترقية قدراتنا لتشمل جميع نواحي الحياة والانفتاح نحو كل مجالات الحياة من أدب وفن وحضارة وإتقان لغات العصر، ولهذا أعتقد أننا بحاجة الى إعادة النظر في جميع مناهجنا الجامعية وبالأخص مناهجنا الدينية والعلوم الشرعية، وتوسيع دائرتها أفقياً وعمودياً بحيث تشمل مناحي الحياة كافة.

إن الاهتمام بالبحث العلمي، وتطوير المناهج الدراسية، والعمل على تنمية قدرات الأفراد والمجتمعات، جنباً إلى جنب مع تطوير الخطاب الديني واقتراب الدين أكثر فأكثر من الواقع الحياتي واقترانه بالمعرفة والعلوم والأدب، هو السبيل الوحيد لنهوض هذه الأمة واستعادة مكانتها بين الأمم.
وإذا كان الأفق مغلقاً في عالمنا العربي فيما يخص الإصلاحات الاقتصادية والسياسية، ولو مرحلياً، فإني أعتقد أن علينا نحن الأفراد والمواطنين واجب القيام بثورة فكرية في المفاهيم، وتطوير أدواتنا المعرفية، وإعادة النظر في كل الموروثات الثقافية والدينية والتاريخية، بما يخدم النهضة المأمولة، وهي مهمّة لا تقلّ أهمية أو صعوبة عن المطالبات الشعبية المتكررة للحكومات بضرورة الإصلاح السياسي والاقتصادي.

 أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن

6-5-2018

الأربعاء، 25 أبريل 2018

عندما ينتصر ترامب وبوتين والأسد على السوريين، ويُهلّل المُمانعون!




عدة معارك على مختلف الأصعدة، تدور رحاها على الأراضي السورية، والشيء المشترك الوحيد بينها هو الضحية: سوريا البلد والشعب!
الإدارة الأمريكية والغرب عموماً شعروا بالحرج بعد الهجوم الكيماوي الأخير، وباتوا مطالبين بردّة فعل، (على ما يبدو فإن الغرب قد ورّط نفسه بمسألة الخط الأحمر)، وكان أن تمخّض الغضب "المفتعل" بضربة خاطفة ليس لها أهداف استراتيجية؛ لا تحدّ من قدرة النظام العسكرية ولا تقوّض من فرص تكرار استخدام الأسلحة المحظورة.
ولكن ترامب قام باستغلال هذه الضربة إعلامياً، ليظهر بمظهر القوي الذي ينفّذ تهديداته ولا يخشى التصعيد الروسي، فغرّد قائلاً "المهمة أُنجزت" على غرار الأفلام الهوليوودية!
وبذلك نجح الغرب في إسكات المنتقدين والمدافعين عن حقوق الإنسان، ونجح كذلك بالتغرير بالمعارضة السورية، لكنه (وهذا هو الأهم) أثبت لروسيا وللأسد أنه لا يرغب بتغيير النظام.
وفي المحصلة، ترك السوريين لمصيرهم، فالموت بالقنابل العنقودية أو البراميل المتفجرة هو شيء يمكن قبوله أو التغاضي عنه!

من جهته استغل النظام السوري تلك الضربة ليستدر عواطف الشارع العربي بالحديث عن انتهاك السيادة السورية وعدم شرعية الهجوم، وعاد لينفخ في قِرْبة "المؤامرة الكونية" (التي تنز سذاجة وجهلاً) من جديد، وكرّس أدواته الإعلامية لإظهار نفسه بمظهر الصامد في وجه الهجمات الإمبريالية الصهيونية.
 أحد الخبراء الاستراتيجيين الموالين للنظام قال على تلفزيون فرانس 24 إن الدفاعات السورية البطلة أسقطت 69 صاروخاً من أصل 110 في الهجمة الأخيرة، فيما لم تنجح بقية الصواريخ التي سقطت في تحقيق أهدافها على الأرض، كما أصرّ على استخدام عبارة "العدوان الثلاثي" لدغدغة مشاعر المواطن العربي من خلال المقاربة مع العدوان الثلاثي على مصر.
وقال آخر إن صاروخ توما هوك قد تم إسقاطه سليماً وكاملاً دون أن ينفجر، وقامت قيادة الجيش السوري بإهدائه الى القيادة الروسية الحليفة!
بعد ساعات من الهجوم قام النظام بحشد جماهير غفيرة للاحتفال بالنصر ورد العدوان!

أما روسيا، فقامت بخوض صراع ديبلوماسي أمام الكاميرات وفي أروقة الأمم المتحدة، لحماية النظام السوري من تبعات استخدام الأسلحة الكيماوية، وأحبطت قرارات أممية لإنشاء لجنة تحقيق دولية، أو إدانة النظام، كما شكّكت بوقوع الهجوم الكيماوي تارة، وبمسؤولية النظام عنه تارة أخرى، وبعد الضربة الغربية، قامت بتعطيل دخول فرق التفتيش ولجان التحقيق الى مناطق دوما (الغوطة الشرقية) لغاية كتابة هذا المقال.
ولكنها في المحصلة، لم تقم بفعل شيء لمنع الضربة كما لم تتدخل في التصدي لها، ولا نفّذت تهديداتها بتصعيد الأزمة.

الذي يقرأ بين السطور ويتابع تصريحات لافروف وتسريبات اللحظات الأخيرة في أروقة البيت الأبيض، يدرك بوضوح أن تنسيقاً أمنياً جرى بين الجنرالات الأمريكية والروسية، يقضي باستهداف أهداف غير مؤثرة، تم الاتفاق عليها، مع عدم التعرض للمواقع الروسية (والتي تم نقل عتاد الجيش السوري الاستراتيجي إليها) أو المواقع السياديّة، وبناءً عليه، التزمت روسيا من جهتها بعدم التعرض للطائرات والصواريخ الغربية وكذلك عدم تصعيد الأزمة.

روسيا وأمريكا يخدعان العالم بتجسيدهما دور طرفي نزاع ديبلوماسي سياسي عسكري في سوريا، بينما في الحقيقة يتفقان على الخطوط العريضة (بقاء الأسد، عدم المساس بأمن إسرائيل، ومحاربة المتشددين) ويختلفان في التفاصيل، ثم يقومان بتمرير الاتفاقات والتفاهمات من تحت الطاولة، ودوماً ما يكون السوريون هم الضحية.

أما نحن من جهتنا، فأحدنا مُحتدّ ومعتدّ بنفسه يعتقد أن النظام السوري صامد في وجه المؤامرات، وتأخذه العزة بالإثم، فيخرج للاحتفال بالانتصار الموهوم، ويملأ فضاءاته بشعارت فارغة عن الصمود والتصدّي للمشروع الصهيوني، لا ينقصه سوى إضافة مصطلح "العلوج" أو عبارة (تجوّع يا سمك البحر)!

وأحدنا الآخر، ما زال يظن في المجتمع الدولي خيراً، ونيةً طيبة في مساعدة الشعب السوري، ويعلّق آماله على تدخل غربي يقضي على نظام الأسد، ربما بعد الهجوم الكيماوي القادم!

أجد صعوبة في قبول وتفهّم موقف مجموعة كبيرة من المثقفين أقنعوا أنفسهم أن الوقوف الى جانب النظام السوري في مواجهته لمطالب التغيير، هو موقف وطني يصب في مصلحة قضية فلسطين والمنطقة عموماً، بل وإقناع الآخرين أن ما يحصل للنظام السوري هو مؤامرة تستهدف إسقاطه للنيل من مواقفه الوطنية الداعمة للمقاومة.

النظام السوري الذي سبق له المشاركة مع الحلف الغربي بقيادة أمريكا ذاتها، في مؤامرة حقيقية على جاره العراق، ضاربا في عرض الحائط كل شعاراته عن الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة، والذي سبق له أن اتخذ من لبنان الشقيق "مُستعمرة"، يحكمها كيف أراد ويقرّر مصيرها ومصير شعبها لنحو ثلاثين عاماً.
النظام الذي مارس دور الوصاية على منظمة التحرير وشقّ صفوفها بالنتيجة، ثم استقبل على أراضيه كل الفصائل التي تختلف في الرؤية السياسية مع القيادة، كي يفرض نفسه لاعباً أساسياً في المنطقة، ولكي يمتلك أكبر عدد ممكن من أوراق الضغط.
النظام الذي لا يعترف بالرأي الآخر، ولا يُلقي بالاً بالقيم الإنسانية وحقوق الانسان، بل إنه لا يقبل الاختلاف في الرأي داخل الحزب الواحد ولا يؤمن بالمشاركة في صنع القرار.
هذا النظام وكل من على شاكلته، هو أبعد ما يكون عن قيادة البلد (ناهيك عن الأمة) نحو مستقبل واعد بالانتصارات وبالتقدم والمعرفة.

بعد نكسة حزيران قرّر الرئيس عبد الناصر تحمّل مسؤولية الهزيمة التاريخية التي أضاعت ما بقي من فلسطين وهضبة الجولان وسيناء، فألقى خطاب التنحّي الشهير، وأعلن تحمّله المسؤولية (كاملةً)، ولكن المفاجأة أن الشعوب العربية رفضت تحمّله أي جزء من المسؤولية، بل إنها ذُعرت من فكرة التغيير، وثبت أن إيمانها بالقادة والأسماء وصور الزعامات كان أقوى من إيمانها بنفسها وقدرتها على النجاح.

للأسف، فإن طائفة كبيرة من مثقفي زماننا هذا، ما زالوا يفكرون بنفس الطريقة وبذات العقلية، يرفضون قبول فكرة أن الشعب السوري قادرٌ على حكم نفسه وتقرير مصيره خارج إطار عائلة الأسد أو كلاشيهات حزب البعث،
كيف يمكن لمجموعة من المثقفين والكُتّاب وأصحاب الرأي، أن يختزلوا بلداً يعيش فيه نحو عشرين مليوناً من البشر في شخص واحد وحزب واحد ورأي واحد، بحجّة البوصلة؟!
يطرحون سؤالاً يظنون أنه الضربة القاضية: ماذا بعد الأسد، جماعات إرهابية أو موالين لإسرائيل وأمريكا!
سأتجاوز عن سطحيّة السؤال، وعن إطلاق التعميمات على المعارضة السورية، ولن أخوض في المسؤولية المباشرة للنظام في تحويل الصراع السياسي الى صراع عسكري وصراع طائفي، ولكن سأسألكم بدوري: وماذا بعد الشعب السوري؟ ماذا بعد خراب الدولة وتدمير الشجر والحجر والبشر؟ ماذا بعد رهن مصير البلد ومقدّراته وقراره السياسي بالكرملين وبالمرشد الأعلى؟ هل وجدتم ضآلتكم، وانتصرتم للقضية، ام أصبحتم على بعد سنوات ضوئية من نُصرتها؟!

إن نظاماً سياسياً وصل الى سدّة الحكم عن طريق حيك المؤامرات في الظلام وتنفيذ الاغتيالات، وران في قرارة قلبه ألاّ استقرار لحكمه إلا باستخدام القبضة الأمنية وممارسة اللعبة البوليسية مع كل من يختلف معه، لا يُعوّل عليه، ولا يمكن أن يكون في يوم من الأيام مفتاح حلٍّ لقضية الشرق الوسط، أو دافع استقرارٍ للمنطقة، بل هو أحد أهم مشاكلها وأسباب أزمتها.

 أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن

24-4-2018

الاثنين، 9 أبريل 2018

الفلسطينيون، حين يكسرون حاجز الصمت





تستمر فعاليات "مسيرة العودة الكبرى" للأسبوع الثاني على التوالي، بمشاركة واسعة من كافة أطياف الشعب الفلسطيني، الذين اتّحدوا جميعاً، في سبيل إعلان استمرار تمسّكهم بحقهم في العودة الى أراضيهم التي سلبت منهم قسراً، رغم كل ارهاصات "صفقة القرن" المشبوهة، وتردّي الأوضاع السياسية في المنطقة والأراضي المحتلّة على حد سواء.
النشطاء القائمون على مسيرة العودة الكبرى كانوا قد قرّروا استمرار فعاليات المسيرة لغاية ذكرى النكبة (15-أيار)، بعد انطلاق فعالياتها بالتزامن مع ذكرى يوم الأرض (30 آذار)، وهم مستمرون بهمّة عالية ومشاركة شعبية واسعة، رغم كل محاولات الترهيب التي يقوم بها العدو الصهيوني، ورغم افتقادهم إلى دعم رسمي وعلني من السلطة الفلسطينية وحكومات دول الجوار.

المهم اليوم، هو أن الفلسطينيين قد حطّموا جدار الصمت ورفضوا القبول بالأمر الواقع، لقد أعلن الفلسطينيون أن هاجس العودة الى وطنهم الأصلي هو شغلهم الشاغل، وأنهم ما زالوا يحتفظون بحقوقهم التاريخية، وذكرياتهم ورائحة أرضهم، وأن أحداً لن يسلبهم هذا الحق.

لدي حلم، قال مارتن لوثر كينغ ذات يوم، (أنه في يوم ما سيعيش أطفالي في مجتمع لا يُحكم فيه على الفرد من لون بشرته)؛ اغتيل مارتن لوثر كينغ على يد مُتعصّب أبيض، ولكن أحداً لم يستطع أن يغتال حلمه، في الحقيقة لقد انتصرت أحلامه في النهاية، ولقد عاش أبناؤه في ظل أمّة تؤمن بالتعددية، كما أراد، ليس هذا فحسب، بل إن هذه الأمة ستختار بكامل إرادتها الحرّة، رئيساً لها من أبناء البشرة الملوّنة، وما كان ذلك ليحصل لولا إيمان مارتن لوثر كينغ وحركة مناهضة العنصرية بقدرتهم على تحقيق أهدافهم وصناعة التاريخ، ولولا تشبّثهم بحقوقهم.

عندما ناضل عمر المختار ورفاقه بما توفّر لديهم من إمكانيات بسيطة، ووقفوا في وجه دولة عظمى تحكمها الفاشيّة، وترتعد من لفظ اسم قائدها "موسوليني" فرائص جنرالات العالم، لم يكن أحدٌ يظن أنهم يملكون أي فرصة حقيقية في الانتصار، بل إن بعض المتخاذلين وصفوهم بمجموعة من المتهورين الذين يدفعون بأبناء الشعب الليبي الى الموت "المجاني"، تماماً كما حصل مع عبد القادر الجزائري في نضاله ضد الاستعمار الفرنسي، وكما يحصل اليوم مع حركات المقاومة الفلسطينيّة.
أُعدم عمر المختار، ومات عبد القادر في منفاه، ولحق بهما العديد من رفقاء السلاح ومن الضحايا المدنيين كذلك، ولكن الفكرة لم تمت، ومطالب التحرّر لم تخفت، وفي النهاية انتصرت الفكرة، انتصر الحلم، وهزمت الضحيةُ جلاّدها.

لن أنسى ما حييت، كيف زحف مواطنو ألمانيا الشرقية نحو الجدار الفاصل بين برلين الشرقيّة والضفة الغربية من برلين، وتمكّنوا بما يشبه المعجزة، من اجتياز هذا الجدار بل وهدم أجزاء كبيرة منه (قبل أن يتم هدمه بشكل كامل بعد ذلك) ليعلنوا سقوط المعسكر الشرقي في أوروبا، والذي أدّى في النهاية إلى تفكك الاتحاد السوفياتي وسقوط الشيوعية الاشتراكية.
قبل أن يتمكن هؤلاء الألمان من إسقاط جدار برلين، كان عليهم أن يهدموا جدار الخوف في نفوسهم، وأن يهزموا الخوف من الطغاة في داخلهم، كان عليهم التغلّب على عجزهم عن الوقوف في وجه الظلم والتمييز والفساد.

لقد انتقل اليوم الخوف من قلب الضحية الى قلب الجلاّد، تشنّ إسرائيل اليوم حرباً إعلاميّة مسعورة ضد مسيرة العودة، وقد استشهد الناطق الرسمي باسم جيش الاحتلال بعدّة فتاوى سابقة من علماء دين مسلمين تُحرّم الخروج في المظاهرات وتعريض الأنفس للتهلكة، يا لسخرية القدر!
تعيش دولة الاحتلال في كابوس ليس بسبب جيوشٍ تُرابط على حدودها، ولكن بسبب تهاوي فكرة الدولة الصهيونية نفسها، فالفلسطينيون ما زالوا يرفضون أن ينهزموا، يموتون ولكنهم لا ييأسون، يخسرون المعركة تلو الأخرى ولكنهم لا ينهزمون، يسقطون ولكنهم يعاودون النهوض، تخذلهم قياداتهم، تتآمر عليهم قوى الغرب، تتآكل بلدان جيرانهم من حولهم، يرون الدمار والقصف والتقتيل وقد حلّ في دول الشرق الأوسط ولكنهم يرفضون أن يتنازلوا عن وطنهم!
لقد مات الجد، وهاجر الأب، ووُلد الابن خارج الوطن، وما زال الفلسطيني يحلم بالعودة!، ألا يقضّ هذا، مضاجع أعتى دول العالم!

الطفل محمد عيّاش، ابن غزة، التي اجتاحت صورته شبكات التواصل، بعد أن ابتكر كمّامةً للوقاية من قنابل الغاز أثناء مشاركته في مسيرة العودة، هذا الطفل وأمثاله، قادرون على قذف الرعب في صدر جيش الاحتلال، أكثر بمئة مرة من قادةٍ فلسطينيين وسياسيين عرب لا يبتكرون سوى فقّاعات إعلاميّة، وكلامٍ أجوف عن المحافل الدولية وتطبيق قرارات الأمم المتحدة.

أبناء هذا الشعب، ممّن يخرجون في هذه المسيرات ويتحدّون جنود الاحتلال، يقاومون الرصاص بجسدهم العاري، ويصرخون بأعلى صوتهم (فلسطين حرّة)، هم من سيهزمون دولة الاحتلال، وقَبْلها سيهزمون جدار صمت الضحايا، وسيؤرشفون في التاريخ سجلاً للخذلان، لكل من تقاعس عن نُصرتهم.

لقد كسر الفلسطينيون اليوم حاجز الصمت والقبول بالأمر الواقع، لقد رفضوا الرضوخ لإملاءات التنازل عن الحقوق التاريخية في فلسطين، والقبول بأنصاف الحلول. لقد رفضوا منطق التنازلات والحلول المرحليّة، وأعادوا القضية الى المربع الأول، فلسطين، كلّ فلسطين، بِقُراها ومُدنها وبلداتها، هي حق لأبناء فلسطين، مهما طال الزمان ومهما طال أمد الغدر والمؤامرات.
هل تفهمون الآن سبب هذا السُعار الذي أصاب جيش الاحتلال وجعله يفتك بهؤلاء الفتية المدنيين رغم أنهم لم يرموا حجراً؟ إن دولة الاحتلال في هذه اللحظة تُعاني من دويّ (اختراق حاجز الصمت)!

للفلسطينيين حُلْم، لن تسرقه منهم كل قوى العالم، ولن يحرمهم من تحقيقه، زعامات الخذلان والعار. وأنا كغيري من أبناء هذا الشعب، الذين وُلدوا خارج حدود الوطن، أنقل لأبنائي قصص جدّهم عن قريتنا، مسقط رأس آبائي وأجدادي، عن مخيمات اللجوء، ومدارس الوكالة، عن النكبة والنكسة، وحرب بيروت، وصبرا وشاتيلا، وانتفاضة الحجارة، أعلّمهم أدب غسّان كنفاني، وشعر محمود درويش، وأقول لهم: لدي حُلْم، أن أراكم تعيشون في القدس المحرّرة، وتنعمون بالسلام في وطن السلام، فإياكم أن تخذلوا الحلم، وإن جار الجائرون.
  
 أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن

6-4-2018


الاثنين، 19 مارس 2018

بوتين "القاتل الصامت" من غروزني إلى حلب



يستأثر بوتين على المشهد السياسي في روسيا منذ عام 2000 متنقلاً بين رئاسة الدولة ورئاسة الوزراء، وهو اليوم على أعتاب الفوز بدورة رئاسية جديدة تمتد لست سنوات.
الكثير يُقال عن الرئيس فلاديمير بوتين، المُصاب بجنون العظمة وأدوار البطولة، دائم الظهور في وسائل الاعلام والمجلات، تارة وهو يمارس رياضة الجودو، وركوب الخيل، والغطس، وتارة وهو يستعرض عضلات جسده (عاري الصدر)، حتى أنه ظهر في عدد من القصص المصورة بشخصية "سوبر بوتين" التي تحاكي شخصيات الأبطال الخارقين.
كما أنه انفرد بعلامة تجارية تحمل اسمه، من أشهر منتجاتها "فودكا بوتين". ولكن أهم ما يجب أن يُقال عنه في نظري، هو تاريخه في الخدمة العسكرية والسياسية، والذي يخفى على الكثيرين.

بدأ بوتين خدمته العسكرية ضابطاً في المخابرات السوفياتية لمدة ستة عشر عاماً، ترقّى بعدها ليصبح أميناً لمجلس الأمن في روسيا الاتحادية ثم رئيساً للوزراء عام 1999 في عهد الرئيس يلتسين، وقد دشّن عهده بحرب الشيشان التي تولّى إدارتها شخصياً، بعد اندلاعها إثر سلسلة من حوادث التفجير التي طالت عدة بنايات سكنية في روسيا، والتي أثيرت العديد من الشكوك حولها، بضلوع طبقة الأقلية الحاكمة في روسيا "الأوليغارشيا" في تدبيرها، من أجل تهيئة الأجواء لتولي بوتين للسلطة بعدما هبطت شعبية يلتسين وبعد أن أصبح إدمانه للكحول عائقاً أمام قيامه بواجباته.

اللافت هنا أن ضابط المخابرات الروسي المنشق "اليكسندر ليتفينينكو" والذي اغتالته المخابرات الروسية عام 2006 بالبولونيوم المُشعّ في لندن، كان قد ذكر في كتابه "تفجير روسيا، الإرهاب من الداخل" أن المخابرات الروسيّة هي التي دبّرت تفجيرات المباني السكنية ذريعةً لخوض الحرب في الشيشان.
ومما يعزّز هذه المعلومات، أن طبقة الأوليغارشيا نفسها قامت (بعد اندلاع الحرب على الشيشان) بنقل السلطة من يلتسين الى بوتين دون الحاجة الى انتخابات، وبعدها بعام جرت انتخابات رئاسية فاز فيها بوتين مستفيداً من إحكام قبضته العسكريّة على الانفصاليين الشيشان، ثم كرّر فوزه عام 2004.

مع تولّي بوتين السلطة بداية القرن الواحد والعشرين، كانت روسيا تعاني من آثار الصدمة الاقتصادية التي رافقت تفكك الاتحاد السوفياتي، ورغم ارتفاع أسعار الغاز والنفط لاحقاً إلا ان الحالة الاقتصادية الروسية ما زالت تعاني من اختلال تام في الأحوال المعيشية لعامة الشعب والأحوال المعيشية لطبقة الأثرياء الحاكمة، وتعكس التقارير الاقتصادية والصحفية مظاهر الثراء الفاحش والحماية العسكرية لتلك الطبقة، مع استمرار خلق فرص الاستثمار الأجنبية وازدياد جذب الاستثمارات الغربية، خاصة من طبقة المدراء والاقتصاديين، فيما تبدو أحوال القرويين وعامة الشعب وكأنهم يعيشون في زمن آخر لا يمت بصلة الى القرن الحادي والعشرين!

وفي عام 2008 تحايل بوتين على الدستور الذي ينص على عدم جواز خوض الرئيس لأكثر من دورتين متتاليتين، بدعم المرشّح "ميدفيديف" لمنصب الرئيس مع توليه هو منصب رئيس الوزراء.
ومع سيطرته على مراكز القرار وضمان دعم الأوليغارشيا له، كان هو الحاكم الفعلي للبلاد، قبل أن يعود للفوز في انتخابات عام 2012.
وعادة ما تثار الاحتجاجات والاعتراضات من المعارضة على نتائج الانتخابات التي يحسمها بوتين لصالحه ويُتهم فيها بالتزوير والتلاعب بالنتائج، كما أن سياسته الداخلية تعتمد على قمع الأصوات المعارضة، حيث تعرّض جميع منتقديه للعقاب الشديد الذي وصل احياناً الى الإعدام أو السجن، أو النفي، وفي أحسن الأحوال الإقامة الجبرية، ولم يستثنى من ذلك الصحفيون ولا الاعلاميون، وهو يفعل كل ذلك في صمت وبرود شديدين، في تجسيد حقيقي لشخصية الجاسوس الذي نشاهده في أفلام السينما وهو يقتل ضحاياه ويتخلص منهم بكل برود.

في حربه ضد الشيشان استخدم بوتين سياسة "الأرض المحروقة"، واعتمد على القصف الجوي المكثف لقتل كل ملامح الحياة على الأرض، وقد بقيت عاصمة الشيشان "غروزني" مثالاً حيا لهذه السياسة بعد أن روّعت الصور التي تناقلتها وسائل الاعلام للمدينة التي اقتحمتها القوات الروسية بعد حصار طويل العالم بأجمعه، ووصفتها تقارير الأمم المتحدة بانها أكثر مدن العالم دماراً. وتشير دراسات حديثة أن عدد ضحايا هذه الحرب يصل الى مائة ألف مدني!


أما في منطقتنا العربية، فقد استغل بوتين التردد الأمريكي، وسياسة النأي بالنفس، لفرض الوجود الروسي من جديد، فاندفع عسكرياً لملء الفراغ في سوريا، وقام بتعزيز قواعده العسكرية هناك، بل وانشاء قواعد جديدة، تعزز من الحضور الروسي في المنطقة، وتؤسس لديمومة هذا الحضور.

وخلال خوضها الحرب في سوريا، قامت الطائرات الروسية بما معدله 250 ضربة في اليوم الواحد، وطالت ضرباتها مباني المدنيين ومرافق عامة ومستشفيات ومدارس وسيارات اسعاف، ومحطات مياه. كما قامت أذرعتها الإعلامية بنشر صور وهمية وأخبار زائفة وملفقة عن اهداف عسكرية تابعة لجهات إرهابية، مع استخدامها المتكرر للأسلحة المحرمة دوليا مثل القنابل العنقودية والنابالم، ناهيك عن تسترها على الهجمات الكيماوية التي قام بها النظام السوري.
ورغم صعوبة إحصاء عدد الضحايا في سوريا، إلا ان الأرقام تشير الى مقتل أكثر من 6000 مدني بينهم 1500 طفل و 900 سيدة من قبل النظام والقوات الروسية مع تدمير أكثر من مئة مسجد ونحو 140 مدرسة أو مركز تربوي، ونحو 120 مستشفى.
وقد أدى التدخل الروسي في سوريا الى ميلان كفة النزاع لصالح النظام السوري بشكل لافت، ولكن الأسوأ من ذلك، هو الارتفاع اللافت في عدد الضحايا وتوسيع رقعة الدمار والخراب على الأرض.

في هذا العالم الذي نعيش، والذي يتولى قيادته، قاتل صامت من جهة، يتلذذ بممارسة لعبة الجواسيس، وإصدار أوامر القتل والاعتقال والقصف الدموي، وتستهويه مشاهد الدمار، في الوقت الذي يمارس فيه التنمّر على ضيوفه من رؤساء الدول باستعراض حيواناته "غير الأليفة" أو استعراض صوره الشخصية وهو يمارس فنون القتال، أو باصطحابهم الى حفلات الصيد وقتل الطرائد.
فيما على الطرف الآخر، رئيس متطرف ينظر الى العالم نظرة السيد للعبد، ويعتقد أن من حقه استعباد باقي الدول والشعوب وتجريدها من ثرواتها، بل ونهب مقدراتها في سبيل تحقيق سياسة "أمريكا أولاً"، تبدو الأمور -في هذا العالم-سوداوية أكثر مما ينبغي، بل وتبشّر بمستقبل مظلم، بعيد عن كل قيم الإنسانية والسلام والأمان، ووسط هذه الصورة القاتمة، يتهافت بعض مثقفينا على التصفيق والتطبيل والتهليل لهذا "البطل" أو ذاك، بل إنهم يمارسون طقوس التبشير به، وكأنه المهدي المنتظر!
  
 أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
18-3-2018

 http://www.alquds.co.uk/?p=899850


الاثنين، 12 مارس 2018

الإنسانية حين تدمّر ذاتها




من حُسن المصادفة أن تترافق مشاهدتي لفيلم “Mother” للكاتب والمخرج الأمريكي "دارين أرونوفسكي"، مع قراءتي لكتاب الفيلسوف الألماني وعالم الاجتماع "أيريك فروم" "الإنسان بين الجوهر والمظهر". ورغم الفارق الزمني بين العَمَلين، واختلاف أرضية الأفكار والرؤية، إلا إنني وبشكل ما، وجدت أن جوهر العَمَلين هو واحد، فكلٌ منهما يحاول إرسال رسالة قوية لبني البشر: عليكم أن تقوموا بتغييرات جذرية في كيفية تعاملكم مع الطبيعة والبيئة وباقي إخوانكم في الانسانية، عليكم نبذ عقيدة التملّك والاستهلاك وتدمير الآخرين، والعودة إلى المبادئ الإنسانية الأساسية (المشاركة والتفاعل والايجابية) التي قامت عليها كل الحضارات الإنسانية والحركات الفلسفية والأديان، فهي ما يجلب السعادة الحقيقية، كونها ثمرة النشاط الإنساني الفعّال، بينما الكآبة هي ثمرة من يتشبث بالمقتنيات وبغريزة التملّك والاستهلاك.
يقول الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا))

عنوان الفيلم المذكور يرمز إلى "الطبيعة"، ويلقي الضوء على هذه العلاقة الشائكة بين الأم وأبنائها منذ خلق آدم الى عصرنا الحاضر، من خلال قصة رمزية تتوالى فيها المشاهد التي تختزل تاريخ البشرية وجرائم البشر في حق الطبيعة والبيئة، وفي حق بعضهم البعض، بل وادعاء كل فئة منهم تجسيد إرادة الله في الأرض.

يمكننا القول إن الصراع البشري على حق التملّك وادعاء القرب الى الله قد بدأ منذ خلق البشرية، حيث تجلّى في قصة هابيل وقابيل، ومنذ تلك اللحظة الى يومنا هذا استمر الصراع بين مجتمع محوره جوهر الإنسان والقيم الإنسانية، ومجتمع آخر محوره الممتلكات والنَهَمْ الاستهلاكي. يؤمن المجتمع الأخير بأن قيمة الفرد تتعاظم بمقدار ما يقتنيه ويمتلكه وبهذا تكون حلبة المنافسة على أشدّها بين جميع أفراده.
 بينما يؤمن الأول أن تحقيق الرغبات الإنسانية في حدود، والعمل على تحقيق الاحتياجات الاجتماعية، والقيم الإنسانية العليا، يؤدي في النهاية إلى السعادة المأمولة، وإلى تحقيق حياة راقية ذات جودة.

من المؤسف ملاحظة أن البشرية بمعظمها الآن قد تحوّلت إلى مجتمعات استهلاكية، تطغى عليها لذّة التملّك المادي، بحيث انحصرت أهداف أفرادها، في الحصول على وظيفة تدر دخلاً ضخماً، وشراء منزل فاخر، وسيارة فارهة. (يعلّق إيريك فروم على هذا بالقول إننا ودون أن نشعر نعبّر عن عقيدة التملّك لدينا بالقول "لدي" زوجة وأطفال!)
وفي الجهة المقابلة، خفتت عقيدة المشاركة والعطاء، التي تؤمن بالتكافل الاجتماعي والقيام بالأعمال التطوعية الخيرية، والسعي من أجل المحافظة على البيئة والموارد الطبيعية.

وبالعودة الى الفيلم، لفت نظري مشهدين مؤثرين، أولهما مشهد تخريب الضيوف منزل بطلة الفيلم (التي ترمز الى الطبيعة)، وتصرفهم بأغراضه ومقتنياته كأنها حقٌ صرفٌ لهم، متناسين أنهم في النهاية "ضيوف" وأن تواجدهم هو من باب الكرم والجود، في إشارة إلى كيفية تعامل البشر مع موارد الطبيعة، على أنها مكسب وحقٌ خاص، وهذا ينسحب على تصرفاتنا جميعاً اليوم، سواء كحكومات رسمية، أو مؤسسات عامة أو حتى بصفتنا أفراداً.

وثاني المشاهد، هو مشهد الحروب المتتالية التي تدور رحاها بين البشر، حيث نقتل بعضنا بعضاً، ونُمعن في الخراب والتدمير، وفي داخل كل واحد فينا، شعور متوهج بأنه يمثل الحق والحقيقة، وأنه في فعلته تلك يُرضي الله ويستحق على هذا الثناء والتمجيد، متناسين أن الله لم يخلقنا كي نقتل بعضنا أو نتعارك ونتخالف، بل خلقنا كي ننعم بالسلام والطمأنينة ونتعاون ونتكافل فيما بيننا، ونتشارك في نعمه وهباته، بعيداً عن العنصرية والطائفية بكل أشكالها.

للأسف، باتت أفكار المشاركة والتفاعل والتعاون، أفكاراً ساذجة في عصرنا هذا، فالدول القوية تريد أن تستأثر بالمصادر الطبيعية والموارد دون غيرها، وتخوض الحروب كي تستطيع تأمين الوصول الى هذه الموارد واستغلالها، وتعتمد في صناعتها ورقيّ مجتمعاتها على الإضرار في البيئة والمُناخ دون حسيب أو رقيب، بل إنها تقوم بتطوير أسلحة الدمار الشامل التي تهدد البشرية جمعاء، فيما تعجز الدول الفقيرة عن استغلال مواردها الطبيعية، وتظل رهينة الاستغلال السياسي والنهب الاقتصادي.

وفي داخل كل دولة معاصرة، تقوم الطبقة الغنية باستغلال الطبقات الدنيا لضمان حصولها على المادة والثروة، كي تشبع نهمها ورغباتها الدفينة في التملّك والاقتناء، فيما تُحرم الطبقات العاملة من حقوقها الأساسية.

وينطبق الأمر على رجال الدين، فكل متعصب، يعتقد بأن رسالة الله التي يؤمن بها هي ملك لطائفة من الناس، وأن الله قد حباهم بميزة التفضيل عن غيرهم، وبالتالي فإن من حقهم أن يتعاملوا معها كأداة قابلة للتملّك، كي يحققوا هدفهم في نيل رضا الله، بينما يتجاهلون ويتناسون أن الرسالة السماوية في أساسها تقوم على المشاركة والتفاعل مع الإنسانية جمعاء، وحسن الخلق في المجتمعات، والإحسان الى الحيوان والنبات والطبيعة.
ونتيجةً لسوء الفهم المتوارث هذا، يتحوّل الدين في النهاية إلى مادة استهلاكية، ومجرد مقتنيات نقتنيها ونعلّقها على جدران منازلنا أو نضعها ميدالية في يدنا أو وساماً نزين به ملابسنا، ثم لا نلبث أن نتنازع على هذه "الهوية" فنقتل بعضنا بعضاً، كي ننال نصيبنا من جنان النعيم، ونرسل "عدونا" الى الجحيم!

أما طبقة المثقفين والمفكرين، فقد أصبحت حواراتها تتمحور حول إثبات صحة أفكارها، وليس بهدف الوصول الى الحقيقة أو بنيّة خدمة الإنسانية والمجتمعات أو القضايا الإنسانية العامة، فكلّما أثبت هذا الفرد أو ذاك أن آرائه صحيحة زادت قيمة ما يملك من أفكار، وبالتالي زادت قيمته هو!
وما لبثت هذه الأفكار أن أصبحت خالية من كل القيم، ولا تحمل من مضمونها سوى الاسم والكلمات التي نرددها دون وعي أو منطق أو اقتناع حقيقي.

عندما تصبح قيمة الانسان مرتبطة بما يقتنيه وما يملكه وليس بأخلاقه وأفكاره، والقضايا الإنسانية التي يتبناها ويؤمن بها ويعمل من أجلها، فإننا نكرّس بوعي أو دون وعي هذا الخلل بين جوهر الانسان ومظهره، وهذا بدوره يؤدي إلى تعاظم مستويات القلق والخوف في مجتمعاتنا والشعور بعدم الأمن والأمان، لأن شخصياتنا قد تحولت في النهاية إلى مجرّد أشياء، عرضةً للضياع والخسران!


 أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن

11-3-2018