لعل جدلية الإسلام-العلمانية ترقى لأن تكون مأزقاً فكرياً حقيقياً في عالمنا العربي-الإسلامي، نظراً لعمق الاختلاف وجذوره التاريخية من جهة، وما آلت إليه الأمور من محاولات للتصفية السياسية من جهة أخرى.
من يراقب النقاشات الفكرية وصالونات النخب الثقافية يلاحظ أن الشد والجذب بين هذين التيارين يكاد يكون السمة الغالبة، حيث يطغى على الحوار أسلوب الجدل من أجل الجدل إلا ما ندر، وليس الحوار بقصد احترام الاختلاف أو بناء جسور للتعاون.
العلمانية بالمفهوم الفكري، تتوافق في المضمون مع روح الاسلام من حيث ضمان حرية العبادة والحفاظ على ميثاق عام للقيم الانسانية ولمجموعة الأخلاق العامة للمجتمع، والتي تتفق عليها كل المجتمعات المتحضرة، مع ضمان حقوق المواطنة بغض النظر عن الجنس والدين والعرق.
وهذه المفاهيم لا تختلف في الشكل أو المضمون لدى كل من الإسلاميين والعلمانيين، ولكن المشكلة تكمن في التطبيق.
فالذي يحدث في عالمنا العربي أن من يتصدر المشهد الفكري للعلمانيين، يتنكر لجميع هذه المبادئ ويحاول فرض رؤيته الخاصة بالدين وكيفية أداء العبادات، وصحة المعتقدات...الخ، مما يُفضي في النهاية إلى محاولة فرض دين جديد على الآخرين، وهذا بحد ذاته مغالطة فادحة لمبدأ الحرية الدينية.
فإذا اتفقنا على عدم جواز فرض دين معين على المجتمع أو فرض لباس معين وجعل العبادات اختيارية على مستوى الأفراد، إلا أننا نجد في المقابل أن العلمانيين يجاهدون لمنع الحجاب وإطلاق اللحى، إضافة إلى نقد كل من ينتمي للتيارات الدينية، وهذا اعتداء صريح على الحرية الدينية والشخصية، ناهيك أن الانتقاص من معتقدات الآخرين ووصفها بالجهل والتخلف هو ازدراء لحرية الفكر والمعتقد!
وعندما يتحدث العلماني عن الإسلاميين وتشدّدهم فإنه يقصد تلك الفئة التي تناقض بتطرفها كل معاني التسامح والتعايش المشترك، وهو هنا يقع في مغالطة الخلط والتعميم.
وإذا نظرنا الى الجهة الأخرى، نجد ان الإسلام السياسي، ومجمل الحركات الدينية، ترى في العلماني ذاك الملحد، الذي يحاوي أن ينقض أصول الدين، ويهدم بناءه، فنحن أمام متناقضين يرى كل واحد في الآخر شخصاً متطرفاً يحاول الغاء الآخر، ولكم أن تتخيلوا الحوار الذي يجمع بين هذين المتناقضين!
في العشر الأواخر من شهر رمضان الماضي كنت في أحد المساجد واستمعت لدرس ديني استمر لنحو ساعة، لم يتحدث فيه المحاضر (الذي يحمل أعلى الشهادات الأكاديميّة) سوى عن خطر العلمانيين مضيفاً إليهم تيار الليبراليين والملحدين، معتبراً إياهم كياناً واحداً، كما اعتبر كذلك أن كل محاولات تجديد الخطاب الديني، هي مؤامرة خارجية، تهدف الى القضاء على الإسلام!
من قصور التفكير، ألاّ ترى في الآخر سوى أسوأ صفاته وتتغاضى عن كل أفكاره المنطقية وحججه العاقلة، وللأسف فإن هذا ما يحصل عندما يتحاور الإسلامي مع العلماني في عالمنا العربي.
هناك قلة قليلة ممن يؤمنون بالإسلام العلماني (وأنا منهم)، وهذه القلة لا يكاد يُسمع صوتها، فالإسلاميون يعتبرون ان كل محاولات التجديد هي محاولات مشبوهة، وان إعادة دراسة الموروث الثقافي-التاريخي-الديني هو خروج عن اجماع الأمة، وهدم لأصول الدين.
في المقابل، يرى أغلبية العلمانيين، أن حالة "اللادين" هي الأساس، وأن حرية المجتمع (وحرية الأفراد بالتالي) هي مطلقة وغير قابلة للتقييد، ولا تخضع لأي سلطة سوى سلطة الدستور الذي يجب أن يُصاغ ليحمي حرية "اللادين".
وإذا كنا نقول إن الخطأ في التشدد الديني هو نابع من حالة الجمود الفكري، والانهيار الحضاري الذي ترافق مع اندثار الخلافة الإسلامية، حيث توقف البحث والتفكير واكتفينا بتقديس كل ما وضعه السلف لنا، فإننا نقول إن الخطأ في فهم العلمانية هو ناتج عن تبني أفكار النهضة الغربية وحركات التنوير، التي فصلت الدولة عن الكنيسة، وهذه الأفكار غير قابلة للتطبيق في مجتمعاتنا لسبب جوهري هو أننا نحاول تقليدها دون أن نفهم جوهرها.
الدين بمعناه الإسلامي العمومي الشامل، لا يمكن فصله عن الدولة فالإسلام بمفهومه السليم ونهجه الصحيح هو دين الله الواحد الذي يجمع كل البشرية ضمن ميثاق انساني شامل يضمن حقوقهم جميعا في المشاركة وحرية الفكر والعبادة (أو الامتناع عنها) بشرط اتباع الصراط المستقيم الذي نزل على موسى وعيسى ومحمد.
وهذا الصراط المستقيم (مجموعة القيم الإنسانية والأخلاق العليا) هو الضمان الوحيد لصحة المجتمع، ولفائدة مكوناته، دون أن يتم فرض شعائر معينة أو رموز دينية بذاتها، بحيث يكون الدستور ضامنا للاختلاف والتنوّع الثقافي والديني، دون إساءة لأي فئة أو أقليّة أو جماعة دينية، ويكون العدل وتساوي الفرص هو الميزان الحق.
أما نهضة الحضارة الغربية على أنقاض حكم الكنيسة، فأسبابها ونتائجها تتعلق بالمجتمع الغربي فحسب، ولا يمكن في أي حال من الأحوال، ربط نجاح الحضارة الغربية في مجال العلم والازدهار الحضاري، بفصل الدين عن الدولة والاستدلال بذلك على ضرورة تحييد العقيدة الدينية في مجتمعاتنا.
فالكنيسة على سبيل المثال كانت تحتكر التعليم والعلم بما في ذلك علوم الكون، وكانت تقوم بتعيين الحكومات وتصبغهم بالحق الإلهي في الحكم، وتسيطر على القضاء وعلى كل نواحي الدولة، لدرجة انها أنشأت محاكم التفتيش وقضت على كل يعارضها في تفسير أسرار الكون وحياة الأفراد، مثل أصحاب اكتشافات دوران الأرض ومركزية الشمس، وغيرها من العلوم!
وهذا لا ينطبق على مشكلتنا مع الجمود وعدم تفعيل الاجتهاد في النص القرآني، الذي يضمن في داخله الحرية الفردية للأشخاص وحرية المعتقد، والمساواة بين كل البشر، والتشجيع على الرقي بالإنسان والاهتمام بالعلم والعلوم والاختراعات، ويركز على الحقوق العامة في المجتمع باتباع منظومة الأخلاق الإنسانية المقبولة لكل انسان بالفطرة. كما أن العالم الغربي وإن ضمن الحرية المطلقة للأفراد، إلا انه ليس مجتمعاً مثالياً بمقياس الأخلاق الفطرية السليمة، ويعاني من آفات التعصب والعنصرية والجنس والإدمان وتفكّك الروابط الأسرية والاجتماعية إلخ القائمة الطويلة.
ما أحاول قوله، إن القواسم المشتركة بين التيار العلماني والإسلامي من ناحية الفكر والمعتقد والنتيجة المرجوة هي قواسم عظيمة وأكبر بكثير من الاختلافات الظاهرية، ولكن المشكلة الحقيقية تكمن في الخروج عن المقاصد الأساسية للعيش المشترك.
ورغم وجود هذه القواسم المشتركة العظيمة إلا أن غياب صوت العقل وطغيان التشدد والإصرار على الفهم الفردي والرؤية الذاتية الخاصة أدت في النهاية إلى قطيعة فكرية وسياسية.
فهل نشهد بروز أصوات عاقلة تدفع نحو فهم مشترك وقواعد عيش مشترك تجنبنا الوقوع في مستنقع من الخلافات والعداءات والدخول في نفق مظلم لا يكاد يستبان النور منه!
إن أبسط قاعدة منهجية علمية للتغيير هو صنع التغيير من الداخل، والدفع نحو ثورة فكرية حقيقية لإعادة صياغة الموروثات، ومناقشة الافتراضات الأساسية من خلال بحث علمي ومنهج منطقي.
أما محاولة فرض التديّن التقليدي المتوارث بالسلطة والإكراه من قبل البعض، أو نقض الدين وفرض حالة "اللادين" على مجتمعاتنا، فهي محاولات محكومة بالفشل، ولن تحقق سوى الاستعداء وتزايد المشاعر العدائية، ولنا ان نقيس ذلك على محاولات الولايات المتحدة لفرض معتقداتها "المتناقضة" عن الحرية ومبادئ الديمقراطية على باقي شعوب العالم، والتي لا تثمر سوى عن المزيد من الديكتاتوريات، والحكم التعسّفي للشعوب!
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
1-12-2019