التطرّف وقلب الحقائق التاريخيّة، طريق الشهرة والثراء
في الغرب
لم يكن وصول ترامب ذو الأفكار العنصرية
المتطرفة إلى سدّة الحكم، حدثاً
منفصلاً عن واقع المجتمع الأمريكي والغربي عموماً، بل جاء نتيجة تطورات سياسية
اقتصادية واجتماعية، وعلى نفس المنوال نلاحظ تصاعد قوى اليمين المُتطرف في معظم
أوروبا، والتي يُتوقع لها أن تزداد انتشاراً وتأثيراً في السنوات القليلة القادمة.
بشكل موازٍ للتغييرات السياسية، نجد أن هناك
ثمّة تصاعدٍ حاد في طرح الأفكار المعادية للإسلام من قبل بعض المُفكرين، عبر وسائل
الإعلام المختلفة وفي الندوات والمحاضرات؛ استوقفني مؤخراً حدثان منفصلان في
أمريكا وبريطانيا، ألقي الضوء عليهما في السطور القادمة تباعاً.
الحدث
الأول كان ندوةَ لصحافيّة أمريكيّة تُدعى (بريجيت جابرييل) تهاجم
فيها الإسلام والمسلمين والعرب عموماً وتُحذّر من خطر الفكر الإسلامي على أمريكا
والعالم. المُدهش أن بريجيت هي لبنانية الأصل تنتمي إلى الطائفة
المارونيّة، كانت قد نشأت وترعرعت في "مرجعيون" ثم انتقلت الى إسرائيل قبل ان تهاجر الى
أمريكا (فيرجينيا)
وتستقر هناك.
استطاعت
جابرييل أو (نور سمعان)
أن تستغل مأساة الحرب الأهلية في لبنان لتسويق كتابها الأول عام 2006 (Because
They Hate) من
خلال نسج مجموعة من الأكاذيب والافتراءات وتصوير الحرب اللبنانية إنها حرب عقائدية
بين المسلمين (وخصوصاً الميليشيات الفلسطينية) والمسيحيين. تروي جابرييل في كتابها
معاناتها وعائلتها من جرّاء استهداف المسلمين للمدنيين المسيحيين وتعمّد إبادتهم حسب
قولها، ثم تنتقل إلى الحديث عن رحلة هروبها إلى إسرائيل واصفةً إياها بالدولة الإنسانية
المتحضرة التي يتعامل بها الإسرائيليون بكل إنسانية مع أعدائهم العرب ويعملون على
مداواة جرحاهم من المقاتلين !! ليس هذا
فحسب بل إنها تدّعي في مقدمة الكتاب أن مكتب التحقيقات الفيدرالية اشترط قراءة هذا
الكتاب على الجنود المتوجهين إلى الشرق الأوسط!
في محاضراتها وندواتها المنتشرة على اليوتيوب ومواقعها
الرسمية، كما في كتابها الثاني (They Must be Stopped)
تنسج جابرييل رواية تاريخية أحادية عن الإسلام على طريقة (المُخرج عاوز كده)،
فهي تنكر بداية أنه ديانة سماويّة وتُسقط عليه تهم التطرّف والعدائية واضطهاد
الديانات الأخرى، كما تعمل على تبرير الحروب الصليبية لأنها تهدف إلى تحرير
المسيحيين من العنف والاضطهاد والى ضمان حرية العبادة في المدينة المقدسة (القدس)، ثم
تربط ذلك بقيام دولة إسرائيل للسبب ذاته (الديمقراطية
والحرية) وبعد ذلك تربط الإسلام كعقيدة بنهج
أسامة بن لادن والقاعدة وأخيراً داعش، التي تقول إنها التمثيل الحقيقي لعقيدة
الإسلام التي أنشأها النبي محمد (ص) والتي أدت إلى مقتل 270 مليون شخص على مر التاريخ!
تستغل جابرييل جهل عامة الشعب الأمريكي بالتاريخ، وبقضايا
الشرق الأوسط، وتقدّم لهم رؤيتها مُدّعية أن وسائل الاعلام والمؤسسات الاكاديمية
قد فشلت في تثقيف الأمريكان بقضايا الشرق الأوسط والإسلام وبيان مدى الخطر المُحدق
بهم من الفكر الإسلامي. في الفترة الأخيرة، قامت جابرييل بدعم ترامب في قراراته
العنصرية، بل والمطالبة بخطوات أكثر صرامة في حق المسلمين والدول الإسلامية عموماُ.
هذا هو الصوت
الذي بدأ يعلو في الآونة الأخيرة بدعم الإدارة الأمريكية والمسؤولين هناك وكذلك بدعم
وتمويل اللوبيّات الصهيونية، التي تركز جهودها على تصوير الصراع العربي الإسرائيلي
بأنه مواجهة بين قيم الديمقراطية والحرية التي تمثلها دولة إسرائيل، وقوى الظلام والرجعيّة
ممثلة بالعرب.
أما الحدث
الثاني الذي لفت انتباهي في الفترة الماضية، فكان فيلماً وثائقياً بعنوان (الإسلام: القصة التي لم تروَ)
للمؤرخ البريطاني (توم هولاند)
ومن انتاج قناة BBC عام 2012، ادّعى فيه أنه تتبّع بداية نشوء
الإسلام باحثاً عن أدلة تاريخية "زمكانيّة" لتدعيم قصة الإسلام من منظور تاريخي، وأدّعى
أيضاً (بصفته باحث تاريخي) أنه لا يمكنه الاعتماد إلا على أدلة موثوقة وماديّة لتدعيم
التاريخ، وبعد أن ينقض تاريخ الإسلام ويشكّك بارتباط سيدنا محمد بنشأة الإسلام،
يعود وبشكل غريب ليقول إنه قد أتاه ما يشبه "الومضة" التي ألهمته وقادته إلى الحقيقة، ليُعيد تشكيل
الرواية التاريخية للإسلام ويقول إن بداية نشوء الإسلام كان في بلاد الشام القريبة
من أهل لوط وليس في مكة!، ثم يبدأ بسرد روايته كما يحلو له (هو على كل الأحوال روائي
معروف ويبدو أنه خلط بين الرواية والتاريخ!).
كالعادة تهتم
وسائل الاعلام الغربية بهذا الفيلم الوثائقي وتُفرد له ساعات من النقاشات التي لا
تهدف الى البحث عن الحقيقة للأسف، وقد دافعت قناة (بي
بي سي) عن الفيلم بالقول (إن على المسلمين
التخلي عن قدسيّة الدين وفتح باب النقاش والنقد لمعتقداتهم الدينية)، ولكن مسؤولي
القناة لا يعطون أية فرصة لعرض وجهة نظر المؤرخين والمفكرين الإسلاميين ويكتفون
برواية هولاند التي يطرحها بكل ثقة وقوة معلناً أنه يعتمد على قراءة تاريخية
وزيارات طويلة للمنطقة ولقاءات مُطوّلة وبحث تاريخي ... الخ الأسطوانة، وهو بهذا
يكتسب مصداقية لدى البريطانيين مصحوبة بضمانة جهلهم بالتاريخ الإسلامي وأنهم لن يكترثوا
بالبحث والتدقيق، طالما أن المعلومة الواثقة والمضمونة قد وصلتهم من خلال التلفاز،
تماماً كما تفعل جابرييل في أمريكا.
من
هذه النقطة تحديداً يجب التشديد على أن الرد على قلب الحقائق ومعاداة العرب
والمسلمين يجب أن يكون بالحجّة والمنطق بعيداً عن التشنّج والعصبيّة، وباستخدام
نفس الثوابت التي يدّعون (الاستدلال بالمصادر التاريخيّة الموثوقة والأدلة
والبراهين المنطقيّة والعقلية) بالإضافة إلى استخدام كل وسائل التواصل الممكنة
لنشر مبادئ الإسلام السمحة والتعايش الحضاري ونبذ العنف والتعصّب. وقد حاولت التواصل مع هولاند عبر تويتر وعبر موقعه الرسمي، وبحثت
عن إيميله الشخصي دون جدوى، حتى أني تواصلت مع أحد شركائه الذي أخبرني أنه لا يملك
إيميل هولاند الشخصي، وما زلت في مسعاي للتواصل معه.
يقول علماء النفس والسلوك إن البشر بطبيعتهم يميلون إلى
استخدام "الإسقاط"
وذلك بإسقاط صفاتهم السلوكيّة السلبية التي يريدون التخلص منها على غيرهم، لذلك
تجد أن الشخص الذي يُكثر ويغالي في اتهام غيره بصفة ما، هو أكثر الأشخاص الذين
يتصفون بتلك الصفة. عندما استمعت لجابرييل وهي تركز في قولها على ضرورة مراجعة
التاريخ وتهاجم جهل العامة، وعندما رأيت مدى حرص هولاند على تأكيد استخدامه طرق
البحث الاستقصائي العلمي المجرّد، أدركت أنهما يمارسان نوعاً من أنواع "الإسقاط" التاريخي.
وهذا ينطبق أيضاً على الحضارتين الأمريكيّة والغربية، فمن المعلوم للجميع أن
الحضارة الأمريكية تأسّست على أيدي مجموعة من الغزاة الذين أبادوا سكّان القارة
الأصليين وسلخوا ثقافتهم من الوجود، ثم كالوا لهم كل الصفات الوحشيّة التي كانوا
يتصفون بها هم أنفسهم، ناهيك عن سرقة موارد القارة وبناء "حضارتهم الجديدة"
على أكتاف بل على جثث العبيد الأفارقة، وهم الآن يتبجحون بشعارات الحرية والقيم
الإنسانية والعيش المشترك!
أما الحضارة الأوروبية الغربية، فلن تنسى يوماً أن
الإسلام الذي انتشر في أرجاء أوروبا، حافظ على العيش المشترك مع جميع الديانات
والحضارات رغم تفوقه في القوة والتقدم العلمي الحضاري، وأن حضارتهم الغربية فشلت
على مر التاريخ أن تقدّم أنموذجاً في العيش المشترك وتقبّل الآخر، ولنا شاهدٌ فيما
فعله القشتاليّون في غرناطة بعد سقوطها من إرغام المسلمين واليهود على تغيير دينهم
أو الرحيل أو مواجهة الموت، أما في الحروب الصليبية فقد قام الجنود الفرنجة بأفظع
الجرائم في كل مدينة سقطت في أيديهم، وتركوها تسبح في بركة من الدماء، في الوقت
الذي أعطاهم صلاح الدين الأمان والحماية حين انتصر عليهم (بشهادة المؤرخين
الأوروبيين)، بل وترك لهم ملكية ما سرقوه ونهبوه، أما المدينة المُقدّسة فلم تعرف
معنى التعايش بين الأديان إلا تحت حكم المسلمين، لذا فمن الطبيعي، أن يشعر الغرب
بتلك النقيصة في تاريخه، وأن يقوم لا إرادياً بوصم الآخرين بكل الصفات التي يحاول
محوها من صفحات التاريخ واستبدالها بشعارات الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان!
أيمن
يوسف أبولبن
7-2-2017
كاتب
ومُدوّن من الأردن
Ayman.abulaban@outlook.com