الأحد، 1 يناير 2017

بين أحداث حلب وأحداث الكرك، مُقاربة غير بريئة!



مع كل أزمة أمنية تحدث في الأردن، تنبري مجموعة من مؤيدي النظام السوري والمتعاطفين مع ما يسمى حلف المقاومة والممانعة (سوريا-إيران-حزب الله) بالربط بين ما يحدث في سوريا وبين تلك الأزمة الأمنية. حدث ذلك في أعقاب أزمة خلية إربد، وتكرّر مؤخراً إثر عملية الكرك.
قد تبدو المُقاربة هذه منطقية من وجهة نظرهم، ولكن الحقيقة أنهم موهومون تماماً.

   عندما يُبدي الأردنيون تعاطفهم مع مأساة حلب ومأساة سوريا عموماً، فهم معنيون أولاً وأخيراً بالإنسان وقيمة الانسان العربي السوري التي داستها ميليشيات الحقد وعصابات الأسد، و قصفتها الطائرات الروسية والسورية وحوّلت مساكنهم أطلالاً، لو رآها امرؤ القيس لأعاد كتابة معلقته الشهيرة.
 وهم معنيون أيضاً بالجرائم التي ترتكبها الجماعات المتطرفة في حق المدنيين، ولكنهم يستطيعون ان يميزوا بين التطرّف والثورة الشعبية، وهذه هي "النقطة العمياء" عند مؤيدي النظام، والتي لا تتسع لها مدى رؤيتهم فتسقط بالتالي من حساباتهم، ويتورطون في تعميم التطرف والإرهاب على كل مؤيدي الثورة السورية، بل ويلقون عليهم تُهَم العمالة والخيانة أيضاً.

   من المعلوم للجميع ان العمليات التي وقعت في الأردن هي عمليات إرهابية تبنّاها تنظيم داعش الذي ينبذه غالبية الأردنيين بل ويعتبرون أن ثمّة عِداءٍ شخصيٍ مع هذا التنظيم بعد مقتل الطيار الكساسبة، وهم بالتالي ينبذون عمليات هذا التنظيم، سواء تلك التي تقع في بلادهم او في سوريا والعراق.
لذا فإن محاولة الخلط بين نبذ الأردنيين لعمليات داعش على أرضهم وتعاطفهم مع مأساة حلب لا تبدو منطقية وتفتقد لأدنى شروط المقارنة العلمية.

يضاف الى ذلك، ان محاولة تجميل الوجه "القبيح" للجيش السوري بمقارنته بالأمن الأردني هي محاولة "خبيثة" تحمل في طياتها رسائل خفيّة يرفضها المواطن الأردني. الأمن الأردني يقوم بدور واضح وهو حماية الوطن والمدنيين من التطرف والإرهاب، في حين ان الجرائم والفظائع التي يقوم بها جيش الأسد، لا تمت بصلة الى حب الوطن او حماية المدنيين، بل على النقيض من ذلك هي مُكرّسة فقط لحماية النظام والمصالح الفئوية في الغالب، وفي بعض الأحيان نتيجة الإكراه والجبرية من القيادة.
 في النهاية ومن وجهة نظر قيادة الجيش السوري، فإن كل مُعارض للنظام سواءً كان سياسياً أو أديباً أو فناناً أو صحفياً أو ناشطاً حقوقياً هو عدو للدولة السورية وللجيش، وهو إرهابي او عميل او خائن بالضرورة.

  من المعلوم للجميع، أن الأمن الأردني لم يُحاصر المدن بحجّة القضاء على الإرهابيين، ولم يفرض حصاراً من الجوع والعطش على السكان المدنيين، مطالباً إياهم بالموت أو التخلص من المقاتلين.
لم يقصف المدن قصفاً عشوائياً، باستخدام القنابل العنقودية والبراميل المتفجرة (المُحرّمة دولياً) ويقول إنه يخوض حرباً ضد الإرهاب والتطرف.

إن محاولة تشبيه المُعتدين في أحداث الكرك، بالمقاتلين والمدنيين الذين قضوا في مدينة حلب او تم تهجيرهم قسراً هي محاولة تنم عن العقيدة الشمولية التي يؤمن بها من يساند النظام السوري، والتي تعتمد على التعميم في الحكم، والخلط بين الحقائق، وعدم التفريق بين الحقيقة والوهم، والحق والباطل.
     كمواطن أردني، أقول إني أقف في وجه الإرهاب في كل مكان، وأُدين كل الجرائم التي تُرتكب باسم الدين، وفي ذات الوقت أقف مع الثورات العربية وحق كل الشعوب العربية بتقرير مصيرها واختيار من يحكمها، والعيش ضمن نظام سياسي يؤمن بالتعددية واحترام حرية الفكر والاعتقاد، ويحقق العدالة والحرية والكرامة.
 لا أؤمن بالتقوقع وراء نظرية المؤامرة وإرهاصات سايكس بيكو 2، بل أؤمن بحتميّة التغيير من الداخل، حتى يخرج العالم العربي من شرنقته ويبصر نور التقدم والحضارة، ولا آبه بكل الكلام الذي يحاول تثبيط العزيمة، وترسيخ الايمان بقَدَرِ الشعوب العربية بالقبول بحُكم الديكتاتورية أملاً في الحصول على الأمن والأمان، فهل ستكفّون عن تصنيف البشر بناءً على وجهة نظركم الضيقة، وتكفّوا أيضاً عن إطلاق الأحكام والتهم على من يحيد عمّا ترونه أنتم ؟!  

 
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن

1-1-2017

الثلاثاء، 27 ديسمبر 2016

إبراهيم قاشوش (مُغنّي الثورة)

الثورة السورية -البدايات والحقيقة المطموسة (3)

   إبراهيم قاشوش (مُغنّي الثورة)

شاب سوري من مدينة حماة، قاد المظاهرات الشعبية التي انطلقت في الأشهر الأولى من عام 2011 وشارك بتأليف أناشيد حماسية للثورة من أشهرها أنشودة (يلاّ ارحل يا بشار) عُرف بعدها بلقب (بلبل الثورة السورية). وقد ضمّت المظاهرة التي خرجت يوم الجمعة 1 تموز 2011 (جُمعة إرحل) نحو نصف مليون متظاهر في مدينة حماة لوحدها.




إبراهيم قاشوش اعتقل من قبل الأمن ثم عُثر عليه مذبوحاً وقد اقتلعت حنجرته وأطلقت على جسده عدة رصاصات متفجرة قبل أن تلقى جثته في نهر العاصي قرب حماة يوم الخميس 7 تموز 2011

قاشوش لم يحمل السلاح ولم يكن إرهابياً ولكن ذنبه الوحيد أنه قضّ بصوته مضاجع النظام وألهب حماس المتظاهرين.




هذه حملة تذكير بقصة الثورة التي نجح النظام السوري وزبانيته وشبيحته بطمس معالمها واستبدالها بخدعة نظرية المؤامرة والمشروع الأمريكي الاستعماري في المنطقة.

وللحديث بقية

أيمن أبولبن
27-12-2016


#بشار_الأسد #الثورة_السورية #النظام_السوري #الشبيحة #نظرية_المؤامرة #ابراهيم_قاشوش #حماة

الأربعاء، 21 ديسمبر 2016

ما قبل حلب وما بعد حلب!




   ونحن نشاهد أهالي حلب وهم خارجون من بيوتهم المُدمّرة، متنقلين بين الدمار ورائحة الموت، و قافزين فوق ذكرياتهم المتناثرة، يبدو لنا الأفقُ ضيقاً للغاية، فهؤلاء المدنيين البسطاء مُجبرون على النزوح من أحيائهم خوفاً من الإنتقام الذي لا يُفرّق بين ضحاياه، فهو متعطّشٌ للارتواء من نزيف المكان والزمان والإنسان، وكل ما يتعلّق بالحياة، كي يشعر بنشوة إنتصاره، وما يزيد من لذّة الإحتفال تجمّع بعض الأهالي في الضفة الأخرى من البلدة مبتهجين وسعداء بما يكفي لإضفاء جو من الفرحة الهستيريّة الساديّة.

  تُصبح الصورة مُشوّشة عندما يفقد الإنسان القدرة على التمييز بين العدو والصديق، عندما يشترك في قتلك من كنت تظن يوماً أنه سيبذل روحه للذود عن حياتك وحياة ابنائك، وأبناء بلدك. وتزداد الصورة سريالية عندما تُترك حدود الوطن مُستباحة أمام العدو "المُفترض" القابع على الجبهة الجنوبية، وتُترك سماء الوطن مُستباحةً لطيران العدو "مع الاحتفاظ بحق الرد" فيما تستمر طائرات النظام في إصابة أهدافها الداخلية بعشوائية منقطعة النظير، وفيما يستمر ما بقي من القوات النظاميّة بالتعاون مع الميليشيات الأجنبية بمحاصرة الأهالي المدنيين والتلذذ بتجويعهم لكسر إرادتهم الحرّة التي تجرأت على مخالفة أمرهم!

يقول النظام أنه يخوض حرباً للحفاظ على وحدة البلد، ألم يكن من باب أولى أن يستمع لأبناء شعبه عندما طالبوا "على خجل" ببعضٍ من الحرية والعدل والمساواة أو ما يشبه الديمقراطيّة التي سمعوا عنها، بدلاً من قمعهم واعتقالهم وتعذيبهم؟ ألم يكن من باب أولى أن يُبدي النظام بعض التفهّم لحاجات شعبه الذي تعايش مع فساد النظام وسوء الأحوال على مر أربعة عقود مضت؟!

 يقول السيد الرئيس، أن هناك مؤامرة كونيّة تستهدف سلب إرادة سوريا الحرة، آخر معاقل المقاومة والممانعة. ولكن سيادة الرئيس، ألا تتفق معي أن البلد اليوم قد أصبحت مشاعاً للقوات الروسيّة، والايرانيّة، وميليشيات حزب الله، وأن القرار السيادي أصبح بعيداً بُعد أهل حلب عن بيوتهم؟! تُرى ما الفرق بين الخضوع للغرب والخضوع للشرق ؟!

يقول السيد الرئيس -بعد ان هنّا شعبه بتحرير حلب-إن هذا الانتصار هو مرحلة تاريخية في الصراع، وستكون هناك مرحلة ما قبل حلب، ومرحلة قادمة مُبشّرة ستُعرف ب "ما بعد حلب". بماذا تَعِدُنا سيادة الرئيس ؟! هل تَعِدُنا بحصار جديد على مدينة أخرى، لتجعل منها مدينة أشباح يتشابه فيها دمار المكان مع موت الأحياء؟! هل تَعِدُنا باستمرار القاء البراميل المتفجرة على الأحياء المدنية بحجة تواجد عناصر مسلحة ؟! أم تَعِدُنا باستقدام مرتزقة جدد للمشاركة في حرب التحرير ؟!

 أم تُراك تَعِدُنا بتحرير الجولان المحتل منذ 43 عاماً دون ان تُطلق رصاصةٌ واحدة لاسترجاعه؟! هل تَعِدُنا بإجلاء القوات الروسية عن البلد وتفكيك قواعدهم العسكرية لاستعادة سيادة البلد ؟! هل تَعِدُنا بالطلب من المرشد الأعلى ترك السوريين وشأنهم؟ هل تَعِدُنا بتعدّدية حزبيّة وبقبول الرأي الآخر وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين أو من تبقى منهم بعبارة أدق ؟! هل تَعِدُنا بإرجاع عقارب الساعة الى الوراء وتنفيذ إصلاحات حقيقية من أجل مصلحة البلد ؟!

 سيادة الرئيس، ما قبل حلب وما بعد حلب سيّان بالنسبة للشعب السوري، فما دامت العقلية المسيطرة في النظام هي ذات العقلية التي أدارت عمليات الجيش السوري في لبنان على مدى 30 عاماً، وهي ذات العقلية المسؤولة عن مجزرة حماة عام 82، ومجزرة سجن تدمر عام 80، وسجن صيدنايا عام 2008، وأحداث درعا وبدايات الثورة السورية، وحرق مدينة حمص، وتجويع مخيم اليرموك، وإبادة حلب الشرقيّة، فإن البقر قد تشابه علينا!
وما دامت سوريا بعد حماة لم تختلف، وسوريا بعد الانسحاب من لبنان لم تختلف، وسوريا قبل درعا هي نفس سوريا بعد درعا، فإن سوريا بعد حلب لن تختلف!

أيمن يوسف أبولبن
20-12-2016
كاتب ومُدوّن من الأردن
للتواصل عبر تويتر @ayman_abulaban


الخميس، 15 ديسمبر 2016

هدنة حلب و سخرية القدر !


من سخرية القدر، أن النظام السوري وشبيحته كذبوا على العالم أنهم يخوضون حربا ضد مخطط مؤامرة خارجية تستهدف مصادرة القرار السيادي للدولة و فتح المجال لاستعمارها من جديد. في الوقت الذي فتح فيه النظام المجال من أوسع أبوابه للإمبراطور الروسي الجديد، و للفقيه الأعلى لاحتلال البلد إلى الأبد.

روسيا توافق على هدنة في حلب دون الرجوع إلى التابع "النظام السوري" . وإيران بدورها اخذت على خاطرها، وطالبت بشروط إضافية، ونقضت وقف إطلاق النار.

اما حزب الله، فيذكرني بالولد الأزعر في الحارة الذي يردد عبارة (يا لعّيب يا خرّيب!)

من يظن أن النظام بات يملك من أمره شيئا فهو مخطئ، ومن يعتقد ان قوات النظام قادرة على إنجاز أي شيء على الأرض لوحدها فهو واهم، ومن يتحدث عن التحرر الوطني وسيادة الدولة....إلخ الاسطوانة المشروخة، هو أحد اثنين لا ثالث لهما، ساذج إلى أبعد الحدود ، أو مصاب بمرض الوهم وميؤوس من شفائه، وفي الحالتين هو شخص مثير للشفقة.

أيمن ابولبن
14-12-16

الأربعاء، 14 ديسمبر 2016

اكذب واستمر في الكذب حتى تصدق نفسك



الكاذب الرسمي باسم النظام السوري (بشار الجعفري)، يعرض في جلسة مجلس الأمن الطارئة حول حلب ليلة أمس، صورة التقطت لجندي عراقي عام 2015 ويقول إن المجلس قد تم تضليله عن طريق الإعلام الزائف وأن هذا هو سلوك الجندي السوري الحقيقي، الجندي السوري يجعل من نفسه جسراً لعائلة تنزل من عربة تقلها في حلب الشرقية!

هذا ليس إلا دليلاً على المدرسة التقليدية التي يتبناها النظام وأبواقه الإعلامية، على شاكلة مدرسة أحمد سعيد (اكذب واستمر في الكذب حتى تصدق نفسك). هذا النظام وكل من يدور في فلكه أصبح فاقداً للصلاحية وسيصيب كل من يتعامل معه بالتسمّم والإسهال والتلبك المعوي
أيمن أبولبن

14-12-2016.

الأحد، 11 ديسمبر 2016

الثورة السورية -البدايات والحقيقة المطموسة (2)



   مع بداية انطلاقة الثورة السورية، انتشرت عدة فيديوهات لجيش النظام وقوات الأمن السورية وهي تقوم بتعذيب "مدنيين" من نشطاء ومتظاهرين سلميين (ومن بينهم أطفال بعمر الورد) وتُجبرهم على ترديد عبارة " لا إله إلا بشّار" وفي حالات أخرى تُجبرهم على السجود لصورة القائد بشار!

لن أقوم بمشاركة هذه الفيديوهات، حفاظاً على مشاعركم أولاً، ولأنها منشورة ومحفوظة على كل المواقع الإلكترونية ثانياً، ولكني سأشارك معكم رد بشار الأسد نفسه على هذه الأحداث، تاركاً لكم التعليق.



هذه حملة تذكير بقصة الثورة التي نجح النظام السوري وزبانيته وشبيحته بطمس معالمها واستبدالها بخدعة نظرية المؤامرة والمشروع الأمريكي الاستعماري في المنطقة.

وللحديث بقية

أيمن أبولبن
11-12-2016


الجمعة، 9 ديسمبر 2016

عَظَمة مُحمّد الإنسان التي أغفلتها موروثاتنا

عَظَمة مُحمّد الإنسان التي أغفلتها موروثاتنا

 ونحن نحتفل بذكرى المولد النبوي الشريف، أعتقد أن علينا مراجعة تراثنا التاريخي، والمفاهيم التي توارثناها حول شخصية سيدنا مُحمّد(ص). أعتقد جازماً أن أمتنا الإسلامية قد شاركت من حيث تدري أو لا تدري في هضم حق سيدنا مُحمّد (ص) تاريخياً، وذلك بعدم ايلائها الأهميّة الكافية لجوانب العظمة الشخصيّة التي تمتّع بها، والتي أسهمت في نجاح مهمته وإيصال تعاليم الإسلام ورسالة الله للعالمين، حيث كان جُلّ همّ كتبنا التراثيّة منصبّاً على سرد السيرة النبويّة سرداً قصصياً مُشبعاً بالحديث عن المعارك والمُعجزات، مع قلّة التركيز على التجربة الإنسانية.

لقد أهملنا صورة مُحمّد الإنسان، واختزلنا عمره قبل عهد النبوة ببضع صفحات، دون أن نسبر أغوار هذه الشخصية ونتعمّق فيها. لقد عاش مُحمّد عمره وهو يبحث عن الحقيقة، حقيقة هذا الكون، ساعياُ لها وباذلاً جهده لكشف أسرارها وفهم أُسس علاقة الإنسان بخالقه ودوره في هذا الكون. هو أشبه ما يكون بالفيلسوف المُترفّع عن ممارسات قومه الوثنيّة وعاداتهم الجاهليّة والملتزم بتعاليم الأب إبراهيم التي حاد عنها العرب، لقد مارس الإعتكاف والفكر التأملي، متمعناً في قيم هذه الحياة ودور البشريّة فيها وعلاقة الإنسان بالكون وما حوله، ولقد أكسبته الصحراء ورحلاته المتعددة التي جاب فيها الجزيرة العربية وما حولها تلك البصيرة التي جعلته يرى الكون أعظم من أن يتم اختزاله في علاقة البشر ببضعة تماثيل، وقد انطبق عليه قول الله تعالى ( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ).

من الأمور التي لم تأخذ حقها في تأريخ سيرة سيدنا مُحمّد أيضاً، هي صفاته وأخلاقه قبل الإسلام، ولعل الصفة الوحيدة التي ركّزت عليها كتب السيرة صفة ( الصادق الأمين ) ولكن هذا ليس كل شيء، فمُحمّد النبي بصفاته وأخلاقه الحميدة كان قبل الإسلام وبعده مثالاً للخُلُق والقيم الإنسانيّة الرفيعة، لم يَعْبُدِ الأصنام ولم يُعاقر الخمر ولم يُصاحب النساء، ولم يأدِ البنات، وكان من أحسن الناس سيرةً ومجلساً وصحبةً ورفقة، ولو كان عكس ذلك لما كان مؤهلاً لحمل الرسالة ولما آمن به أحدٌ من قومه، وهذا يقودنا بالتالي الى إعادة النظر في الصورة النمطيّة التي تُصوّر الجيل الأول وكانه تحوّل بأعجوبة بين ليلة وضحاها من وثنيٍّ مُدمنٍ للكحول و زيرِ نساء الى ناسكٍ مُتعبّد بمجرد نطقه للشهادتين! باعتقادي الشخصي أن في هذا مبالغةٌ كبيرة وتعميمٌ ليس في محلّه، ناهيك عن تعارضه مع بعض الأحاديث الصحيحة مثل (خِيارِكُم في الجاهلية خِيارِكُم في الإسلام) وأيضاً (إنما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق)، والحديث الأخير يؤكد أيضاً أن رسالة الإسلام هي مُكمّلة للديانات السماوية السابقة، وأن مجموعة الأخلاق والقيم الإنسانية بدأت منذ عهد سيدنا نوح وتراكمت الى أن وصلت صيغتها النهائية في عهد سيدنا مُحمّد.

لقد خفيَ علينا أن مُحمّد النبي قد استحقّ حمل هذه الراية بفضل اجتهاده وسعيه للوصول الى حقيقة الخلق والخالق، وكما قال المتنبّي (على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ)، وأنه كان موضع اختبارٍ عظيم في تحقيق المرحلة التأسيسية لهذا العهد الجديد، وهو الذي بذل كل امكانياته وطاقاته وجهده، وسخّر لهذا الهدف كل ما استطاع من اجتهاداتٍ شخصية واستقصاءات، وبحثٍ وعملٍ انساني لنشر تعاليم الرسالة وتهيئة الحاضنة القادرة على استيعاب وتطبيق تعاليم هذا الدين ومن ثمّ العمل على نشرها الى العالم أجمع، فأصاب وأخطأ وتعلّم من أخطائه ونجح في النهاية بتوريث مدرسة فكرية متكاملة قادرة على الاستمرار والازدهار والتكيّف تحت أي ظرف كان.

حتى أن تعظيمنا لمُحمّد النبي واقتدائنا به كما ورد في مُجمل كتب التراث كان بسبب عِصْمته والوحي الذي لازمه في كلامه وتصرفاته، وفي هذا ظلمٌ للجانب البشري لهذا النبي، ولإجتهاداته الإنسانيّة كقائد وحاكِم، والتي تُعتبر واحدة من أعظم المناهج التي اقتدى بها العظماء على مستوى العالم ناهيك عن أصحابه المُقرّبين والجيل الأول من المسلمين، سواءً في المجال العسكري والسياسي، أو الإجتماعي أو في مجال الإقتصاد وباقي مجالات الحياة المختلفة.

  من أفضل ما قرأتُ مؤخراً من كتب مُعاصرة تهدف الى إعادة فهم السيرة المُحمّديّة وتصحيح المفاهيم الخاطئة، هو كتاب (السُنّة الرسوليّة والسُنّة النبويّة) للدكتور مُحمّد شحرور، وفيها يذكرُ المؤلف أن مفهوم العِصْمة الكونيّة "المُطلقة" للأنبياء تتنافى مع فضل الإتيان بالصالحات واجتناب السيئات، وأن العِصْمة محصورة فقط في تبليغ الرسالة والأحكام، مع فتح باب الإجتهاد في مجالات الحياة المختلفة. كما يفرّق د. شحرور بين مقامات سيدنا مُحمّد (الرسول والنبي ومُحمّد الإنسان) ويقول إن المطلوب من أتباع مُحمّد إتّباعَ رسالته "مقام الرسول"، والإقتداء بالمنهجيّة التي اختطها "النبي" مُحمّد وباجتهاداته في عصره وفتحه الباب على أوسع نطاق للعمل والاجتهاد والسعي في الحياة بعيداً عن الجمود، وليس المطلوب منا تقليد مُحمّد في طريقة لبسه ومأكله وعاداته الشخصية.

  في النهاية، مُجمل القول أن كتبنا التاريخيّة قد قفزت عن الدور الإنساني للنبي مُحمّد، المُجتهد والقائد العظيم في السِلْم والحرب، وعن دوره في تأسيس الدولة المدنيّة التي تُراعي حقوق المواطنين على اختلاف عقيدتهم وعِرْقهم وطبقاتهم الاجتماعية؛ بقيت صورة مُحمّد حبيسة إطار القائد المُلهَم والمُوحى اليه، وهي أشبه ما تكون بالرجل الذي كان على موعدٍ مع القَدَر لتحقيق المعجزة الإلهية باتباعه تعليمات الرب، دون الحاجة الى أي قدرات بشرية خاصة او أي عناء واجتهاد أو بناء للمعرفة، وهذه الصورة النمطيّة هي ذاتها التي تجعل هذه الأمة (على مر الأجيال) تترقّب ظهور "المَهْدي المُنتظَر" -ذلك القائد المُلهَم أيضاً والذي سيأتي لتخليص هذه الأمة من أزماتها- بدلاً من التركيز على الجهود الفردية والمؤسساتيّة للنهوض بحال هذه الأمة، وترك الغَيْب لِعالِمِ الغَيْب كما يُقال، بل إن تفكيرنا الجمعي كأُمّة كان دائماً ما يصبو الى خلق وابتكار الرموز من قادة وزعامات وتسليمهم أمرنا، إيماناً منّا بأن لهم رؤية خاصة وقدرات تفوقنا نحن المواطنين العاديين وأن واجبنا هو اتباعهم فقط !


أيمن يوسف أبولبن
8-12-2016
كاتب ومُدوّن من الأردن