في الذكرى العاشرة لوفاة "الختيار"
كان "أبوعمار"
أكثرَ شيءٍ جدلا !
هناك عبارة شهيرة حُفرت في ذاكرتي منذ نعومة أظفاري وعايشتها انا شخصياً "الفلسطيني يولد فتحاوي على الفطرة" وهذا بالفعل كان حال أغلب الفلسطينيين صغاراً وكباراً، في الوطن والشتات ، ما لم يكن هناك تجربة خاصة في أحد التنظيمات الأخرى او لأحد المؤثرين على قرار هذا الفلسطيني -وبالأخص من المقربين جداً- فإن ميوله ستكون فتحاوية بالفطرة، وبهذا تكتمل المقولة " ما لم يُحزّبه أحد !"
منذ نعومة أظفاري وأنا أنظر ل "فتح العاصفة" بأنها المُمثل الشرعي والوحيد للمقاومة
الفلسطينية ، وكان أبو عمّار بالنسبة لي هو ذلك القدّيس الذي إقترن بالقضية ونسي
كل ملذّات الحياة، وكانت صورته بالكوفية الفلسطينية رمزاً للبطولة والكفاح
الفلسطيني، كانت تختزل في داخلها كل الفلسطينيين وكل المقاومين، كان أبو عمّار
بالنسبة لمعظم الفلسطينيين ، الأب الحاني الذي يجمع لمّ كل الفصائل وكل التيّارات
تحت جناحيه.
مع
إنطلاقة الانتفاضة الأولى كنت ما زلت فتىً غضاً في المرحلة الثانوية من المدرسة،
أذكر أني ذهبت إلى حفل في قصر الثقافة – في عمّان- لدعم الإنتفاضة وتخلّل الحفل إلقاء
بعض القصائد الوطنيّة، كان الجو مشحوناً بالمشاعر الثوريّة والحماسة منقطعة
النظير،تقدّم أحد الشعراء وقال : ((هذه القصيدة مُهداة للفلسطيني المُقاوم،
للمواطن الفلسطيني البسيط، ليست لرمز معين أو قائد، أو.. أو.. )) . إستغرب الحضور
ما قاله الشاعر ولكن مع القائه للقصيدة إستحضرت في داخلي صورة الرمز " أبو عمّار " –دون أن أدري- ولم أجد في ذلك أي ضير،
فلم يكن هناك أي فرق بالنسبة لي بين المُقاوم الفلسطيني البسيط "الذي يقصده
الشاعر" وبين الرمز والقائد أبو عمّار ، ويبدو أن باقي الحضور ذهبوا الى أبعد
مما ذهبت أنا ، فبدأوا بترديد الهتافات لأبي عمّار في المسرح، توقف الشاعر قليلاً
ثم قال : ((أقول ثانيةً هذه القصيدة ليست لقائد معين بل هي لكل فلسطيني يقاوم
بحجر، مع إحترامي لكل القادة )). كان هذا الشاعرُ ذكياً بما يكفي كي يدرك تلك
المتلازمة في ذهن الجمهور والفلسطينيين بشكل عام بين القائد الرمز وصورة المُقاوم
، ولكن الجمهور - وأنا منهم - كان ساذجاً بما فيه الكفاية لإختزال كل النضالات
والعذابات والتضحيات في صورة شخصٍ واحدٍ أحد !.
للحقيقة لم تتغير هذه الصورة النمطية في ذهني سوى مع مؤتمر مدريد، أصبحت
أرى الأمور بمنظورٍ مختلف وأهتزت صورة القائد البطل والرمز ، بل وصورة المنظمة
بشكل عام و"فتح" بشكل خاص، وبدأت لأول مرة أتساءل عن التناقض بين المبادىء
الوطنية والميثاق الوطني وعن "فلسطين من البحر الى النهر" ، وبين ما أسمعه وأراه من تنازلات
وتفاهمات وإعترافات .....الى آخر القائمة، ولكن الصدمة التي أذهلتني ومزّقت كل ما
يخص تلك الصورة النمطية في ذهني ، كانت صدمة أوسلو، فقد كانت بحق "شعرة
معاوية" بالنسبة لي، وكان حالي يومها ينطبق عليه قول الشاعر :
يا فُؤَادِي لَا تَسَلْ
أَيْنَ ٱلْهَوَى
كَانَ صَرْحًا مِنْ خَيَالٍ فَهَوَى
اِسْقِنِي وَٱشْرَبْ عَلَى
أَطْلَالِه
قبل
أيام قليلة، مرّت الذكرى العاشرة لوفاة " أبو عمّار " ، وكانت هذه المناسبة مُنازلةً بين
فريقين الأول يرى " أبو عمّار " في صورة القائد المُلهم الذي حفظ القضية من النسيان وجعلها
حاضرةً في المحافل الدولية، ووقف في وجه كل المؤامرات لتصفية القضية وانهائها ،
وكان هو الفدائي الأول وصاحب الطلقة الأولى ، وهو من قاد الكفاح المسلّح وأبقى على
الآمال بتحقيق الحلم الفلسطيني وهو ذلك
الناسك الذي مات وهو لا يملك سوى بدلة عسكرية "مرثيّة "، وهو الذي حمل همّ القضية أينما حلّ ، ومات
مغدوراً لأنه كان شوكةً في حلق أعدائه.
ويرى
الفريق الثاني أنه خائنٌ تخلّى عن مبادئه وتنازل عن ثلاثة أرباع الوطن واعترف
بدولة العدو وبيهودية الدولة، بعد أن شارك في تصفية كل زعماء المقاومة وبقي هو
وحيداً على شاكلة "البطل" في أفلام هوليوود، وكان سمساراً يتاجر بالقضية ، وبنى ثروةً
تُقدّر بالمليارات لا يعرف أحدٌ مصيرها الى اليوم ، الى آخر القائمة من التهم.
شخصياً أعترف أني لم أعايش ولم أقرأ عن شخصية
جدليّة حيّرت الملايين بقدر "الختيار" فتارةً تسمع أنه يهوديّ ابن يهودية ولد في حارة
اليهود، ثم تسمع أنه ناسكٌ متعبدٌ يقوم آناء الليل ويُسبّح أطراف النهار، والأطرف من ذلك أني قرأت عن أحد
القساوسة الأجانب أن عرفات في آخر سنين عمره كان مهتماً جداً بالتحول الى المسيحية
، وأنه قرأ كثيراً عن تعاليم الدين المسيحي وعن "الخلاص" ، ويقول هذا القسيس أنه يأمل أن يرى أبو
عمار في الجنة، هذا على إعتبار أن القسيس يبدو واثقاً من دخوله هو الجنة !
المشكلة أن كل صاحب وجهة نظر لديه مجموعة كبيرة
من التوثيقات والشهادات الحيّة والمعاصرة لحياة أبو عمار، وليس مجرد كلاماّ في
الهواء وهذا دليل على مدى غموض شخصية أبو عمار ودهائه وحنكته، سواء إتفقنا معه أو
اختلفنا، وسواء رأيناه بصورة ملاك أو شيطان !!
بعيداً
عن كل هذا ، لست أهدف عبر هذه السطور الى كشف حقيقة أبو عمار أو القاء الضوء على
معلومات خافية عن القارىء، بقدر ما هو تعبيرٌ عن الضجر والضيق من تطرّف الفريقين في تناول شخصية أبوعمار
وإعطائها أبعاداً خارج إطار الإنسانية، في النهاية لنا أن نختلف أو نتفق مع هذا الرئيس
الراحل ولنا أن نلومه ونهاجمه أو أن نؤيده
ونحزن لفراقه، ولكنه في النهاية أدّى دوره ومضى ، ولن يفيد القضية في شيء، إثباتُ
أنه بطل أو خائن ، والأهم من ذلك أن علينا التخلّص من عقدة "الشخصنة" والبحث الدائم عن الرمز والقائد الأسطورة
في شخص إنسان، فنحن في النهاية بشر لا نملك الكمال ولا العصا السحرية ، لسنا
بإنبياء ومُخلّصين ، الى متى سنبقى عاكفين على رموز نحن صنعناها ومجّدناها فأصبحت
بديلاً عن الدين و الوطن و التاريخ والهوية !! القضية الفلسطينة أكبر بكثير من
الوقوف عند أبو عمّار ، فإذا كان أبو عمّار بطلاً فإن فلسطين ولاّدة ولن تعجز نساؤنا
على إنجاب غيره، وإذا كان مجرماً وخائناً فأروني ماذا صنعتم أنتم للقضية ؟!
أما
آن لنا أن نخرج من إطار تأليه الزعماء أو شيطنتهم ؟! فاذا كان هناك نصرٌ أو نجاح،
نسبنا هذا النصر العظيم للقائد العظيم الذي لولاه لما انتصرنا، وإذا فشلنا أو
خسرنا معركة علّقنا فشلنا وخيبتنا على شمّاعة هذا الزعيم الخائن العميل !! متى سيكون
لنا وأتحدث هنا عن العالم العربي بشكل عام، متى سيكون لنا مؤسسات وطنية
واستراتيجيات واضحة بعيداً عن التفرّد والزعامة والحزب الواحد والصوت الواحد والجريدة
الواحدة ؟! متى سنتخلص من عقدة " الزعيم" التي تلاحقنا حتى في ثوراتنا
على الزعامات !!!
أيمن أبولبن
17-11-2014