من الملاحظ
في السنوات القليلة الماضية مدى تأثر أكاديمية السينما والفنون في هوليود بالحركات
الاجتماعية وحملات النشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي، من قبيل حقوق المرأة ومطالبات
المساواة في الأجور، إلى مكافحة التحرش الجنسي، ومناصرة حقوق السود، والمثليين،
وكيف ينعكس هذا في كل عام على قوائم المرشحين، ومقدمي حفل الأوسكار، بل وعلى تحديد
الفائزين.
وهذا يجري
أيضاً على الكلمات التي يلقيها المشاركون في الحفل، وانحيازهم في التعبير عن
آرائهم السياسية أو حتى ميولهم الجنسية.
كما لوحظ
أيضاً نشوب صراع جديد، بين شركات الانتاج التقليدية في هوليوود وبين شركات الانتاج
الحديثة التي تعتمد على البث المنزلي مثل شبكة نت فليكس وغيرها، وهو ما بدا واضحاً
هذا العام في فشل (أو إفشال) فيلم The Irish
man في حصد أية جائزة بالرغم من استحسان النقاد للفيلم وللاخراج المتميز لمارتن
سكورسيزي وللأداء المتميز لنجوم العمل وفي مقدمتهم روبرت دي نيرو آل باتشينو و جو
بيشي، إضافة إلى تقنية (De-Aging) أو التحكم في ملامح الشيخوخة
والتي كانت علامة مميزة في هذا الفيلم ولاقت استحسانا كبيرا وكُتب عنها الكثير،
ورغم هذا كله خرج الفيلم خالي الوفاض.
ظاهرة أخرى باتت حديث كواليس الفن والسينما، وهي
ظاهرة تكريم الممثلين المميزين ومنحهم جوائز أوسكار تكريما لمسيرتهم الفنية
وعطائهم المميز، ولكن المفارقة تكمن في منحهم تلك الجوائز عن أعمال لا ترقى
للمستوى، وبشكل يكون فيه إجحاف في حق ممثلين آخرين، وكأن الأكاديمية تريد تصحيح
أخطاء الماضي باقتراف أخطاء جديدة ضد نجوم هذا اليوم!
ولعل فوز
براد بيت بجائزة أفضل ممثل مساعد هذا العام هو خير دليل على ذلك، فرغم أن إبداع
هذا الممثل وشعبيته لا يختلف عليها أثنان، إلا أن الدور الذي قدمه في فيلم (Once
upon a Time in Hollywood) كان أداءً عادياً جداً، بل إن الفيلم
برمته كان من أقل أفلام كورانتينو جودة ومستوى فني، ولا يميزه سوى الأداء الجميل
للمثل الرئيسي دي كابريو.
وحين تراجعُ
سيرة براد بيت مع جوائز الأوسكار ستصاب بالدهشة عندما تجد أن هذا الممثل لم يحصل
على أية جائزة عن إبداعه في أفلام عديدة منها Seven , the inglorious bastards
, fight club
في حين يتم
تكريمه عن أداء باهت في فيلمه الأخير.
ومن أكثر
الأحداث التي تسببت في لغط مستمر إلى هذه اللحظة، فوز الفيلم الكوري الجنوبي (parasite) أو المتطفلون
(العالة على المجتمع) بخمس جوائز هذا العام، من ضمنها أفضل مخرج وأفضل فيلم وهي المرة
الأولى التي يتوج بها فيلم أجنبي (غير ناطق بالانجليزية) بلقب أفضل فيلم، وهذا
دليل برأيي على مدى تأثير السياسة على الفن، حيث جاء هذا التتويج للتعبير عن
التصالح مع الآخر وقبول الاختلاف، فيما يبدو انه ردٌ على محاولات التعصب والتطرف
الذي تغلب على الأجواء في الولايات المتحدة، لا سيما في عهد ترامب.
ولعل السمة
البارزة في هذا الحدث أن الفيلم يتناول قضية التفاوت الطبقي والصراع بين طبقات
المجتمع الرأسمالي، الذي يؤدي إلى هضم حقوق الطبقة الفقيرة الكادحة، مقابل الثراء
الفاحش ورفاهية العيش للطبقات الثرية، وفي نهاية الفيلم ينتصر العمل لأبناء الطبقة
الكادحة، ولحقهم في العيش الكريم.
نفس هذه
الفكرة طرحها فيلم "جوكر" أيضاً مع اختلاف في الحالة والتضمين، ولكن
يمكن القول إن كلا الفيلمين تحدثا عن الدور الاجرامي الذي يتحول له المهمشون في
المجتمع نتيجة الصراع الطبقي الرأسمالي.
وهذه الفكرة
التي حملها الفيلم، جاءت في وقت تعاني فيه الأقليات من أوضاع معيشية قاسية في
الولايات المتحدة وباقي بلدان العالم، وتعاني فيها من العنصرية والاستغلال العُمّالي
والنبذ من المجتمع والحكومات على حد سواء.
هذه الظواهر
والتأثيرات، والرسائل التي يرسلها القائمون على صناعة السينما، التقطها الرئيس
دونالد ترامب وعلّق عليها مؤخراً، حيث انتقد نيل فيلم أجنبي لجائزة أفضل فيلم، كما
انتقد تتويج براد بيت.
وبرغم أن
الأسباب التي دعت الرئيس ترامب لهذا النقد العلني كانت الرد المباشر على الرسائل
السياسية التي تضمنها الحفل بشكل عام، وبخاصة انتقاد براد بيت لمناقشات مجلس
الشيوخ أثناء التحقيق في قضية عزل الرئيس، إلا أن هذا النقد العلني يوضح مدى
التأثير المتبادل بين السياسة والفن.
ما يهمنا في
النهاية أن يبقى الفن للفن، دون أن ينحاز إلى أي قضية سياسية او اجتماعية، مهما
كانت هذه الفكرة أو القضية نبيلة، لأن ذلك من شأنه أن يجرّد الفن من أحد أهم
مميزاته، فالفن الناجح يجب أن يتحدث بلغة الفن والفن فقط، كي يستطيع أن يكون جسراً
للتواصل الانساني والمعرفي.
وأنا لا
أقصد أن الفن يجب أن ينعزل عن المجتمع أو الفكر أو المبادرات الانسانية، بل على
العكس تماماً ولكن ما أقصده هو أن تقييم الفن أو الاستمتاع به لا علاقة له بالفكر
الذي يحمله، بمعنى أن التصويت لصالح ممثل أو ممثلة أو فيلم ما، يجب أن يكون
حيادياً تماماً ولا علاقة له من قريب أو بعيد بالفكر السياسي أو عقيدة أو جنس أو
دين صاحب التصويت أو صاحب العمل، أو مصالحه التجارية، وخلاف ذلك سيفقد الفن معناه.
لا يهمني
عدد المرشحين لجوائز الأوسكار من
الأمريكان الأفارقة كمشاهد أو متابع للفن،
بل يهمني أن يترشح الأفضل، ولا يهمني أن يفوز فيلم نسائي أو فيلم أجنبي كي يرتاح
ضمير القائمين على الأكاديمية، بقدر ما يهمني أن يتم تكريم الأفضل وأن لا يضيع جهد
أي مثابر، ولا يهمني كذلك تكريم ممثل أحبه وأتابعه بقدر ما يعنيني أن يستحق الفائز
تلك الجائزة، وكل ما عدا ذلك، فهو تدمير للمتعة وإساءة لصورة الفن وصنّاع السينما.
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
27-2-2020