الجمعة، 28 فبراير 2020

رجال الأعمال والسياسة يتنافسون على مسرح الأوسكار






من الملاحظ في السنوات القليلة الماضية مدى تأثر أكاديمية السينما والفنون في هوليود بالحركات الاجتماعية وحملات النشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي، من قبيل حقوق المرأة ومطالبات المساواة في الأجور، إلى مكافحة التحرش الجنسي، ومناصرة حقوق السود، والمثليين، وكيف ينعكس هذا في كل عام على قوائم المرشحين، ومقدمي حفل الأوسكار، بل وعلى تحديد الفائزين.
وهذا يجري أيضاً على الكلمات التي يلقيها المشاركون في الحفل، وانحيازهم في التعبير عن آرائهم السياسية أو حتى ميولهم الجنسية.

كما لوحظ أيضاً نشوب صراع جديد، بين شركات الانتاج التقليدية في هوليوود وبين شركات الانتاج الحديثة التي تعتمد على البث المنزلي مثل شبكة نت فليكس وغيرها، وهو ما بدا واضحاً هذا العام في فشل (أو إفشال) فيلم  The Irish man في حصد أية جائزة بالرغم من استحسان النقاد للفيلم وللاخراج المتميز لمارتن سكورسيزي وللأداء المتميز لنجوم العمل وفي مقدمتهم روبرت دي نيرو آل باتشينو و جو بيشي، إضافة إلى تقنية (De-Aging) أو التحكم في ملامح الشيخوخة والتي كانت علامة مميزة في هذا الفيلم ولاقت استحسانا كبيرا وكُتب عنها الكثير، ورغم هذا كله خرج الفيلم خالي الوفاض.


 ظاهرة أخرى باتت حديث كواليس الفن والسينما، وهي ظاهرة تكريم الممثلين المميزين ومنحهم جوائز أوسكار تكريما لمسيرتهم الفنية وعطائهم المميز، ولكن المفارقة تكمن في منحهم تلك الجوائز عن أعمال لا ترقى للمستوى، وبشكل يكون فيه إجحاف في حق ممثلين آخرين، وكأن الأكاديمية تريد تصحيح أخطاء الماضي باقتراف أخطاء جديدة ضد نجوم هذا اليوم!

ولعل فوز براد بيت بجائزة أفضل ممثل مساعد هذا العام هو خير دليل على ذلك، فرغم أن إبداع هذا الممثل وشعبيته لا يختلف عليها أثنان، إلا أن الدور الذي قدمه في فيلم (Once upon a Time in Hollywood) كان أداءً عادياً جداً، بل إن الفيلم برمته كان من أقل أفلام كورانتينو جودة ومستوى فني، ولا يميزه سوى الأداء الجميل للمثل الرئيسي دي كابريو.
وحين تراجعُ سيرة براد بيت مع جوائز الأوسكار ستصاب بالدهشة عندما تجد أن هذا الممثل لم يحصل على أية جائزة عن إبداعه في أفلام عديدة منها Seven , the inglorious bastards , fight club
في حين يتم تكريمه عن أداء باهت في فيلمه الأخير.
ومن أكثر الأحداث التي تسببت في لغط مستمر إلى هذه اللحظة، فوز الفيلم الكوري الجنوبي  (parasite) أو المتطفلون (العالة على المجتمع) بخمس جوائز هذا العام، من ضمنها أفضل مخرج وأفضل فيلم وهي المرة الأولى التي يتوج بها فيلم أجنبي (غير ناطق بالانجليزية) بلقب أفضل فيلم، وهذا دليل برأيي على مدى تأثير السياسة على الفن، حيث جاء هذا التتويج للتعبير عن التصالح مع الآخر وقبول الاختلاف، فيما يبدو انه ردٌ على محاولات التعصب والتطرف الذي تغلب على الأجواء في الولايات المتحدة، لا سيما في عهد ترامب.

ولعل السمة البارزة في هذا الحدث أن الفيلم يتناول قضية التفاوت الطبقي والصراع بين طبقات المجتمع الرأسمالي، الذي يؤدي إلى هضم حقوق الطبقة الفقيرة الكادحة، مقابل الثراء الفاحش ورفاهية العيش للطبقات الثرية، وفي نهاية الفيلم ينتصر العمل لأبناء الطبقة الكادحة، ولحقهم في العيش الكريم.
نفس هذه الفكرة طرحها فيلم "جوكر" أيضاً مع اختلاف في الحالة والتضمين، ولكن يمكن القول إن كلا الفيلمين تحدثا عن الدور الاجرامي الذي يتحول له المهمشون في المجتمع نتيجة الصراع الطبقي الرأسمالي.

وهذه الفكرة التي حملها الفيلم، جاءت في وقت تعاني فيه الأقليات من أوضاع معيشية قاسية في الولايات المتحدة وباقي بلدان العالم، وتعاني فيها من العنصرية والاستغلال العُمّالي والنبذ من المجتمع والحكومات على حد سواء.

هذه الظواهر والتأثيرات، والرسائل التي يرسلها القائمون على صناعة السينما، التقطها الرئيس دونالد ترامب وعلّق عليها مؤخراً، حيث انتقد نيل فيلم أجنبي لجائزة أفضل فيلم، كما انتقد تتويج براد بيت.
وبرغم أن الأسباب التي دعت الرئيس ترامب لهذا النقد العلني كانت الرد المباشر على الرسائل السياسية التي تضمنها الحفل بشكل عام، وبخاصة انتقاد براد بيت لمناقشات مجلس الشيوخ أثناء التحقيق في قضية عزل الرئيس، إلا أن هذا النقد العلني يوضح مدى التأثير المتبادل بين السياسة والفن.

ما يهمنا في النهاية أن يبقى الفن للفن، دون أن ينحاز إلى أي قضية سياسية او اجتماعية، مهما كانت هذه الفكرة أو القضية نبيلة، لأن ذلك من شأنه أن يجرّد الفن من أحد أهم مميزاته، فالفن الناجح يجب أن يتحدث بلغة الفن والفن فقط، كي يستطيع أن يكون جسراً للتواصل الانساني والمعرفي.

وأنا لا أقصد أن الفن يجب أن ينعزل عن المجتمع أو الفكر أو المبادرات الانسانية، بل على العكس تماماً ولكن ما أقصده هو أن تقييم الفن أو الاستمتاع به لا علاقة له بالفكر الذي يحمله، بمعنى أن التصويت لصالح ممثل أو ممثلة أو فيلم ما، يجب أن يكون حيادياً تماماً ولا علاقة له من قريب أو بعيد بالفكر السياسي أو عقيدة أو جنس أو دين صاحب التصويت أو صاحب العمل، أو مصالحه التجارية، وخلاف ذلك سيفقد الفن معناه.

لا يهمني عدد المرشحين لجوائز  الأوسكار من الأمريكان الأفارقة  كمشاهد أو متابع للفن، بل يهمني أن يترشح الأفضل، ولا يهمني أن يفوز فيلم نسائي أو فيلم أجنبي كي يرتاح ضمير القائمين على الأكاديمية، بقدر ما يهمني أن يتم تكريم الأفضل وأن لا يضيع جهد أي مثابر، ولا يهمني كذلك تكريم ممثل أحبه وأتابعه بقدر ما يعنيني أن يستحق الفائز تلك الجائزة، وكل ما عدا ذلك، فهو تدمير للمتعة وإساءة لصورة الفن وصنّاع السينما.
  
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
27-2-2020

الأربعاء، 19 فبراير 2020

المنفيّونُ في الأرض




إن مأساة الاغتراب عن الوطن دائماً ما تكون مُضاعفة، فهي لا تقتصر على اضطرار المغترب أو المنفي للعيش خارج وطنه، بل تتجاوزها إلى اضطراره أيضاً للعيش مع ذكرياته واجترار كل ما يذكّره بأنه منفيٌ عن الوطن رغم أن هذا الوطن ليس ببعيدٍ عنه. فهو يعيش في عالمين لا يرى في أيٍ منهما عالماً حقيقيا؛ عالمه المفروض عليه بعيداً عن الوطن، وفيه لا ينال سوى التأكيد الدائم على شعور الغربة، مهما ارتقت به الأسباب ونال من الرفاهية وطيب المقام، وعالمٌ آخر يرى ذاته بعيداً عنه، وكأنه طيف حلم صيفيٍ بعيد، يعيش يومه وهو يستنشق هواءه ويدرّب نفسه على التماهي معه، والبقاء على صلة معه، على وعد اللقاء الذي قد لا يتحقق!

يعيشُ المنفي إذاً في عالم أشبه بالبرزخ، فهو عاجزٌ عن الانصهار الكامل في عالمه الجديد، وعاجزٌ كذلك عن التحرّر من عالمه القديم.وهو بذلك يعيش حالة انفصام حقيقية، مليئة بالتناقضات، بين شعوره بالحنين إلى الوطن وما يرتبط به من ذكريات الطفولة ولقاء الأحبة، وبين سعيه الحثيث على إتقان فن البقاء ومحاكاة من يعيش معهم، وحرصه الدائم على تجنب خطر الشعور بأنه منبوذ، وفي نهاية المطاف يتعزز شعوره الداخلي بالعزلة، وإحساسه الدفين بأنه منفيٌ!
والأدهى والأمر، انه سيشعر بالذنب، كلما حقق درجة نجاح معقولة في مسعاه للشعور بالراحة و الأمان في منفاه!
وسرعان ما يجد المغترب عن الوطن او المنفي عنه طوعاً أو قصراً، نفسه في صراع فكري من نوع خاص، فهو يأتي محملاً بأفكار الوطن ومعتقداته، ثم لا يلبث أن يصطدم بواقع جديد تختلف فيه الرؤية وتتقاطع معه الأفكار، وهو ما يجعله في حالة من المراجعة الذاتية لأفكاره ومخزونه الثقافي، ونتيجة لذلك تجده دائم العمل على تهذيب تلك الأفكار، وتقليم أطرافها أو حتى نزعها وإستبدالها بأفكار جديدة، وهو ما يدفعه في النهاية للتورط في مأزق جديد، إذ لا يعود ذات الشخص الذي غادر وطنه ذات يوم، كما أنه لن يصبح في يوم من الأيام مماثلاً لنظرائه في المجتمع الجديد!

ونتيجة ذلك كله، فإن المنفيين في الأرض يتشاركون في غبطتهم أبناء وطنهم الذين لم يغادروه ولم يضطروا لخوض تلك التجربة المركبة من الصراعات الفكرية والاجتماعية والانسانية، ولعل أكثر ما يغبطونهم عليه هو عدم اضطرارهم لترك أهلهم وأحبتهم ومغادرة مكان صباهم.

ولكن الشعور بالنفي عن الوطن او الاغتراب، لا يقتصر على اولئك المغتربين أو المنفيين جسدياً عن الوطن، فحالة الاغتراب هي حالة وجدانية قد تصيب المواطن العادي الذي يعيش حالة من الاضطراب الداخلي والانفصال عن المجتمع الذي يعيش فيه، خصوصاً إذا ما شعر بأن الوطن الذي يعيش فيه بات يتنكّر لكل ما كان يؤمن به ويمثله من قيم انسانية ومثل عليا، وأن هذا الوطن قد اصبح عاقاً لأبنائه ومخيبا لآمالهم، على نحوٍ غير متوقع البتة!

ولا أبوح سراً إن قلت إن معظم أبناء عالمنا العربي يتملكهم ذات الشعور بالنفي والاغتراب عن الوطن وهم داخل أوطانهم، فتراهم يعبّرون عن ذلك، بمحاولة استرجاع ذكريات الماضي والحديث عن الزمن الجميل وذكريات الطفولة وما هذا إلا تعبير عن عدم انسجامهم مع هذا العصر، أو المجتمع الجديد الذي تفاجأوا به ورفضهم الداخلي له، مما يدفعهم الى الانزواء رويداً رويداً إلى ذواتهم والعودة بها إلى ذكريات الماضي والطفولة، أو بمعنى أدق، الاحتماء بها من تناقضات هذا العصر.

ولا شك ان هذه الحالة، تدفعنا للحديث عن دور المثقف وعلاقته مع السلطة، سواء كانت سلطة سياسية أو دينية أو حتى اجتماعية، فعلاقة المثقف والمفكر غالباً ما تكون علاقة شائكة مع طبقة المتنفذين والسياسيين، سرعان ما تتطور لكي تصبح علاقة تضارب واشتباك، بحيث تنتهي بتهميش دور المثقفين والمفكرين، ونبذهم كي يتحولوا بدورهم إلى منفيين يعيشون على هامش المجتمع، وهو ما يضعهم أمام خيارين أحلاهما مر، إما الاستمرار في العيش على هامش الحياة أو الهجرة والنفي عن الوطن.

إن حالة المثقف أو المفكر "الحقيقي" هي حالة اغتراب مستمرة، فهو في حالة اشتباك دائم مع أفكار السلطة مهما كان شكلها، وهو أيضاً في حالة من المراجعة النقدية المستمرة لأفكار المجتمع، تجعله بشكل من الأشكال إنساناً هامشياً مُستبعداً عن حسبة المناصب وصالونات النخبة الحاكمة، بل ومسثنىً من قائمة الوظائف وسبل العيش الرغيد، وهو ما يجعله بشكل او بآخر منفياً عن الوطن ومنبوذاً من السلطة.
ولعل هذا ما يدفع المثقف إلى تعزيز دوره القائم على الاستكشاف والترحال الفكري ومحاولة مد جسور التعاون مع مختلف الثقافات والشعوب بناء على القيم الانسانية المشتركة ودون أي اعتبار للمعتقدات والمذاهب والجنسيات، محققاً بذلك عن قصد أو غير قصد، دور المثقف الأساسي في إفادة البشرية والاهتمام بالشان الإنساني العام.

إن صنوف المنفيين في الأرض، عديدة وكثيرة، فهي تضم أؤلئك الذين غادروا أوطانهم لكي يجعلوا من العالم مكاناً أفضل لأبنائهم، وتحمّلوا في سبيل ذلك شظف العيش وقسوة الغربة، والبعد عن شمس أوطانهم ودفء أحضان الأهل والأحبة.
وتضم أيضاً أؤلئك الذين حملوا على أكتافهم، مسؤولية الاشتباك مع السلطة ومعارضة طغيانها، ومسؤولية نقد المجتمع ومعارضة اختلالاته، وتحملوا في سبيل ذلك الاغتراب في الوطن، أو النفي عنه.
وهم كذلك طبقة المسحوقين والمواطنين البسطاء الذين يعيشون على هامش الوطن، ويتملّقهم كل فاسد ووصولي، ولكنهم رغم ذلك لا يمتنعون عن ممارسة مواطنتهم والقيام بواجباتهم بل وافتداء الوطن بأرواحهم إن لزم الأمر.
إلى كل المهمّشين والمنبوذين والمغتربين، إلى كل المنفيين في الأرض، طوبى لكم!
  
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
18-2-2020

الثلاثاء، 4 فبراير 2020

جيل الدراويش وفيروس كورونا!




نحن شعوبٌ عاطفية ما زالت تؤمن بالخرافة، وتنسج في خيالاتها الثقافية قصص الأساطير والقوى الخفية، وتربط كل حدث كوني أو ظاهرة طبيعية بغضب إلهي، أو معجزة لنصرة الحق واستعادة حقوق المستضعفين.

وهذا يجري أيضاً على تفاعلنا مع قضايا الشأن العام، وغالب القضايا العالمية، فنعتمد في الحكم عليها، على ردة فعلنا العاطفية وأحاسيسنا التي غالباً ما تخطىء كونها مليئة بالافتراضات الانفعالية والمخزونات الثقافية والمرجعيات المُضلّلة.
 
بعد انتشار فيروس كورونا في الصين، تسابق الناشطون في العالم العربي على التذكير بجرائم الصين في حق الأقلية المسلمة في الايغور، والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها السلطات الصينية في حقهم، وهي لا شك، جرائم شنيعة تستدعي أكثر بكثير من الاحتجاجات الخجولة على شبكات التواصل، والمنشورات التي تستدر العواطف وتذكر بضعف الشعوب المسلمة واستهدافها فوق كل أرض وتحت كل سماء.

ولكن الجديد اليوم، هو ربط انتشار فيروس كورونا باقتراف تلك الجرائم في حق المسلمين والخروج بنتيجة أن الله سبحانه وتعالى يعاقب السلطات الصينية بفيروس قاتل لا علاج له.
في ليلة وضحاها أصبح فيروس كورونا جنداً من جنود الله، يخوض معركة وجودية، بالنيابة عن المسلمين في الأرض! هل لكم أن تتخيلوا مقدار العجز الذي يختبىء خلف هذا الإدعاء أو الاستنتاج التحليلي الصادم!

هناك نشوة خفية، وشعور بالانتصار والزهو، تكاد تشعر به يفوح من كل كلمة تقرأها في هذا الخصوص، وكأن صاحبها اكتشف أو تحقق من أن وراء كل مسلم ضعيف قوّة عظمى قادرة على نصرته حتى لو كان الطرف الأضعف، أو استكان أو تخاذل.

ولكن هذا المنتشي بنصر الله على السلطات الصينية تناسى أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وأن الله لم يدعنا يوماً إلى الاستكانة أو الركون إلى نصر الله، بل دعانا إلى العمل والتغيير.

ليس هذا فحسب، بل إن مجرد التشفّي بمأساة إنسانية مثل فيروس كورونا هي أبعد ما يكون عن خلق المسلم القويم، والأدعى أن نتكاتف سويةً ونقدّم العون لأخينا الانسان في محنته إن استطعنا، أو على أقل تقدير أن نواسيه ونشاركه بمشاعرنا ووجداننا، وهذا أضعف الايمان.

إن هذه العقلية والمرجعية المعطوبة التي نشأنا عليها (مع فرض حسن النية) لن تجلب نصراً ولن تحقق تقدماً فكرياً أو قفزة حضارية، بل ستجلب مزيداً من الرجعية والتخلّف.

ذات يوم بعيد، سبق أحداث الربيع العربي كنت معتكفاً في إحدى ليالي رمضان، في أحد المساجد الكبيرة والمعروفة في العاصمة عمّان، وكان المسجد يفيض بمرتاديه، والجميع ينصت باهتمام لدرس ديني عن ظهور المهدي المنتظر، والمواجهة مع أعداء الأمة، وبعد انتهاء الدرس سأل أحدهم عن واجب المسلمين والتحضيرات التي عليهم عملها للاستعداد لتلك المرحلة، سيما أن الدرس يشير إلى قربها، فكان جواب الشيخ حرفياً (لا شيء، سوى الانتظار!).

لم تغادر هذه الاجابة تفكيري منذ تلك اللحظة، وأنا دائم التفكير في الرسالات المُبطّنة التي نوصلها لأتباع هذا الدين (رغم كل ما أحمله من احترام وتقدير لرجال الدين والدعوة) والتي لا تُعبّر سوى عن الاستكانة وقلّة الحيلة وانتظار المعجزات. لا شيء عليك فعله، إنه عمل الله سبحانه وتعالى، وما عليك سوى الايمان والانتظار!

وهذا في الحقيقة هو أحد الأسباب التي أنتجت في النهاية جيلاً من "الدراويش" الذين لا يستيطعون ربط الايمان بالعمل أو بالعلم والثقافة، والتقدّم الحضاري، ودليل ذلك أنهم يؤمنون أشد الايمان بأن مجرد الايمان والتعبّد كفيل بنصرة أحدهم على مشاكله، وتقدم شأنه في العمل والمجتمع، بل ونصرة الأمة كلها عسكريا وحضاريا، وعلميا أيضاً.

هذه المفارقة في التفاعل مع الأحداث، تكرّرت مع إعلات ترامب لتفاصيل بنود صفقة القرن، والتي تحولت فيها فلسطين التاريخية إلى مجرد كانتونات متفرقة يجمعها نظام حكم محلي منزوع الجسد، خالٍ من السيادة، أو بمعنى آخر وطن "لايت" يسهل حمله في شنطة السفر، أو وضعه جانب السرير في أحد الموتيلات.

لقد كانت ردة فعلنا عاطفية كالعادة: مهما حدث فالله قد وعدنا بتحرير الأقصى!

نتناسى أن وعد الله سبق الحملة الصليبية على القدس وحرب المغول والاحتلال البريطاني قبل أن يسبق أيضاً، الاحتلال الصهيوني، لقد احتل الصليبيون القدس مئة عام وجعلوا من المسجد الأقصى حظيرة لدوابهم، فهل سننتظر حتى يهدم الصهاينة المسجد الأقصى ويبنوا هيكلهم المزعوم ولا نرد عليهم سوى بوعد الله!

هذا التناقض بين التخطيط والعمل من قبل أعدائنا، في مقابل الاستكانة وعقلية النصر الالهي المزروعة في عقلنا الجمعي، هو في الحقيقة ما أدى إلى هذا الانحدار غير المسبوق في قبول الشعوب للأمر الواقع وتقبلهم لأحوالهم السيئة.

أنا لا أستثني دور الأنظمة القمعية والخيانات، ولا أتغاضى عن فساد السلطة وإرهاصات أوسلو، وعملية السلام التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه اليوم، ولكني أتحدث عمّا يخص الشعوب، ودور المثقفين والناشطين، وعن ردة الفعل الشعبية الخجولة على كل ما يحصل، وعن تلك الاستكانة التي تجعل منا نسخة إنسانية عطنةً مهزومة.

تبجّح ترامب بعد إعلان القدس عاصمةً لاسرائيل بأن شيئا مهولاً لم يحدث، وأن السماء لم تسقط!، وهو اليوم يتحدى استكانتنا، وسيقول بعد أيام، إن السماء لم تسقط أيضاً.

أرى من واجبي أن أقول اليوم، احذروا من النسخة المستكينة التي زرعوها في داخلنا (بحسن نية)، وأحذروا من تكرار هذا الخطأ مع أبنائكم، علّموهم أن الجندي الذي ينتصر في المعركة هو الجندي الأقوى والأذكى والأكثر استعداداً، وأن الرجل الذي ينجو من الغرق هو الرجل الذي يعرف السباحة، وأن من يقود المجتمع للتقدم والحضارة هو المُفكّرُ والعالِمُ والمثقف، وبعد هذا كله يأتي توفيق الله، فالله اشترط العمل قبل النصر.

وعلموهم أن ديننا يذمّ الوهن والضعف والكسل والذل وقلة الارادة وضعف العزيمة، يقول الله سبحانه وتعالى (أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين).

أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
3-2-2020