الاثنين، 30 ديسمبر 2019

فارسٌ في الانتظار

تعلّمتُ من الحياة أن الانتظار والشوق الى الحدث يكون أعظم من الحدث ذاته، وأن لهفة الانتظار والتحرّق لحدثٍ أو لقاء ما، تستدعي في النفس مشاعر عميقة تعظّم أهمية هذا اللقاء، وقد لا تتناسب في النهاية مع حجم الحدث أو حقيقته على أرض الواقع.
ولكن في واقع الأمر، فإن هذه المشاعر والأحاسيس واللهفة والتشوّق هي ما تجعل لحياتنا طعماً ولوناً ورائحة، وتجعل منا بذلك بشراً حقيقيين.

ألم يصدف ذات يوم أن عشتم أياماً أو أسابيع في انتظار لقاء أشخاص عزيزين على القلب، ومع كل ساعة انتظار تمرّ، نسترجع ذكرياتنا الجميلة والأوقات الحلوة التي قضيناها معاً، ونبدأ بتحضير أنفسنا لذلك اللقاء ونسج الخيال حول تفاصيل المشهد وسيناريوهات الحوار، بدءاً من الكلمة واللفتة والابتسامة والجلسة والمواضيع التي سنخوض بها والأسئلة التي نطرحها، وأنواع الإجابات التي سنرد بها.
وحين يحين اللقاء، نكتشف أن الحدث مرّ علينا سريعاً وتجاوز أفكارنا المسبقة، وربما تعارض معها تماماً، أو لربما جاء الحدث بسيطاً عادياً أو مخيباً للآمال!

ولكن الحقيقة أننا لا نتوقف عن تكرار نفس الفعل مرة تلو الأخرى، لسبب بسيط هو أن الأمل هو ما يدفعنا الى الاستمرار في الحياة، وأن لهفة الانتظار والشوق الى القادم هي ما تزودنا بالطاقة اللازمة للاستمرار في العيش وتذوق طعم الحياة، وبدونها لن نكون بشراُ طبيعيين، او بمعنى آخر لن نكون من الأحياء على هذه الأرض!

كل إنسان على وجه هذه الأرض كانت له في يوم من الأيام أحلام عظيمة، وآمال عريضة، وقد بنى في خياله قصوراً من الأحلام، وواحات من الطموحات والمشاريع.
وكل شخص فينا قد خاض حروباً من نوع خاص، لا يعلم أحد سرّها إلا هو، واجه المستقبل وصارع الحاضر، واجتر هزائم الماضي، باحثاُ عن نصر قادم ومتسلحاً بما أوتي له من قوة ورباطة جأش، وهو بشكل من الأشكال فارسٌ في مواجهة هذه الحياة، أو بطلٌ لمسرحية ما على خشبة الحياة. 
كل شخص فينا قد عانى وانكسر وتحطمت آماله مرات ومرات، ولكن أحداً لم يستسلم، لأن الحياة تطالبنا بأن لا نخلع القفاز أو نرفع المنديل.

ويبقى الجميع في انتظار حدث ما يغير من الواقع، أو لقاء عابر يعيد الحياة إلى طريقها الصحيح، أو تجربة عاصفة تنفض الغبار عن مكنونات نفسه وتدفعه للتحليق بعيداً، بعيداً في الفضاء.

ورغم اختلاف الآمال والأحلام والاهتمامات، واختلاف حجمها ونوعها، إلا اننا نشترك جميعا في أننا ما زلنا نحلم، وما زال لدينا الأمل بما هو قادم، وأننا نعيش على أمل تحقيق حلم ما أو فكرة ما، وننتظر لهفةً ونتحرّى شوقاً لذلك.

أحد اهم الصراعات التي نخوضها في حياتنا، هو الصراع ضد رتابة الحياة والعيش التقليدي، فهناك من يسرقه روتين الحياة ورتابة الوظيفة والعلاقات الاجتماعية فيتوقف عن الحلم والمبادرة والابداع ويستسلم للروتين ونمط العيش الرتيب، ويصبح قانعاً بما تحقق له بعد أن أكتفى من الحياة وتعب من بذل الجهد.
ولكن الحقيقة أن هؤلاء الأشخاص قد توقفوا عن الحياة، فالركون إلى الواقع وعدم الحلم هو الذنب الذي لا يغتفر! 

في كل تجربة جديدة نعيشها هناك مجموعة من الفرص والاختبارات التي تهبنا الفرصة كي نتجدد ونستبدل جلدنا الخارجي ونطهّر دواخلنا ونعيد تجديد دورة الحياة فينا، والأمر منوط بنا لاستغلال هذه الفرص والتقدم خطوة إلى الأمام أو الاستمرار في التقوقع في حياتنا التقليدية والرضى بما هو متاحٌ لنا.

في نهاية كل عام، يجد المرء نفسه أمام جردة حساب، وتطلّع لما هو قادم، ومع كل ورقةٍ تسقط في خريف اعمارنا، نشعر أننا خطونا خطوةً إلى الأمام، إلى المجهول. ومع كل جردة حساب نكتشف أننا لربما لم نعش الحياة التي حلمنا بها، أو تصورنا اننا سنعيشها يوماً، قد نشعر بأننا غرباء عن ذواتنا، وعن محيطنا، وأن أحلامنا وطموحاتنا قد ذهبت أدراج الحياة.

ندرك متأخرين أننا خسرنا الكثير من الأشياء والنعم البسيطة في معمعة الحياة وغمار معاركها، فلم نشعر بلذّة القرب من أبنائنا، ولم ننعم بالعيش في كنف أهلنا وأصدقائنا، ولم نلتفت إلى حق جسدنا علينا، وحتى روحنا الداخليّة. بعضنا لم يتعلّق بهواية أدبية أو فنية تكون قادرة على إضفاء لمسة من الجمال والرقّة على شخصيته، ولربما افتقد للحب والجنون والفوضى، أو لعله لم يتذوّق الشعر ويعيش تلك النشوة التي ترفعه عن الأرض وتشعره بأنه يسمو بروحه ويتحرّر من جسده الدنيوي ومن أغلاله وبات يسبح في عالم من التجلّيات!

قد لا يكون قد استمتع بالصمت، ذلك الصمت الذي يحلّ على الدنيا كلها، فيتكلّم البشر دون أن ينطقون وتختفي الأصوات لتصبح الدنيا كأنها شاشة تلفاز صامتة، فلا يكاد يرى سوى صورة الحضور في شخص واحد ولا يسمع صوتاً سوى صوت الوجود لشخص واحد!

في قلب كل شخص مهما عظم شأنه أو صغر، هناك ذاتُ الشغف للحياة، وفي مسيرته هناك انتصارات وهناك انكسارات على حد سواء، إذ لا توجد حياة كاملة أو حياة أفضل، لأن المقاييس مختلفة والمعايير متعدّدة، فلا تقلّلون من شأن حياتكم أو حياة الآخرين، ولا تستصغرون حلماً أو رؤية تمتلكونها أو يمتلكها الآخرون.

جاهدوا كي تعيشوا الحلم والرؤية وتعيشوا لذة الانتظار ولهفة الشوق، لا تستسلموا أبداً لرتابة الحياة، ولا ترضوا بأن تعيشوا نصف حياة أو حياة ناقصة، ولا تستكينوا يوما إلى النصيب والقسمة والقدر فتظنوا أنكم أقل من أن تحلموا وتحققوا أحلامكم، لأن الندم على عدم امتلاك الحلم أعظم من الندم على عدم تحقيقه!

وهكذا تمضي بنا الحياة، بين انتظار وتلهّف، وشوق إلى القادم، وأمل بمستقبل أفضل، وهذا ما يشعرنا بأننا ما زلنا أحياء، فنحن الفرسان في الانتظار!


أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
29-12-2019

الاثنين، 23 ديسمبر 2019

رحيل صاحب المنهجية المعاصرة لفهم التنزيل الحكيم





مساء أول من أمس ترجّل الدكتور محمد شحرور عن صهوة جواد التجديد الفكري للعقل العربي وللخطاب الديني، تاركاً وراءه إرثاً فكرياً غزيراً ومشروعاً نهضوياً قلّ مثيله.

صاحب الواحد والثمانين عاماً لم تخلُ حياته من التعرّض للنقد والهجوم والاتهام بالزندقة والتطاول على الدين، وهذا هو ديدن كل العلماء التقليديين في مواجهة المفكرين والمجددين الحقيقيين، إذ أن من الصعب أن يتخلّى قومٌ عن إرثهم التقليدي بتلك السهولة. ولعلّ إرث التجديد الفكري ونتاجه يحتاج لجيل جديد يستطيع أن يستوعبه ويقدّر قيمته، إذا أن معظم المبدعين قد اشتهروا وذاع صيتهم بعد مرور زمن ليس بقصير على أعمالهم.

عند سماعي خبر وفاة المفكر د. شحرور عادت بي الأيام إلى رحلتي في البحث عن إجابات شافية للأسئلة الوجودية بين الشك والايمان، ثم تعمّقي في الدين وأصوله وكتب تفسير القرآن، وصولاً إلى رحلتي في البحث عن الأسئلة العالقة التي تقف عائقاً أمام تجديد الخطاب الديني، وفهم الدين بالشكل الصحيح القابل للتطبيق بشكل معاصر وواقعي، ويكون قادراً على استيعاب القفزات المعرفية والحضارية، وقادراً كذلك على استيعاب التنوع الثقافي للأمم.

أعترف بأني لم أجد أجوبة شافية واستمريت في البحث وقراءة كل ما توفر لدي من انتاج العلماء المعاصرين ومتابعة الدعاة الجدد، ولكن في كل مرة كان يفتح أمامي باب ويغلق في المقابل بابٌ آخر.
والسبب أن كل ما كانوا يقدمونه كان مبنياً على نظريات قابلة للأخذ والرد، وكان ينقصهم المنهج العلمي والاستدلال القاطع من القرآن، والتدليل عليه من العلوم المعاصرة.

ورغم أن المُؤلَّفَ الأول للدكتور شحرور كان قد صدر عام 1990 إلا أنني بدأت بمتابعة مؤلفاته وندواته بعد ذلك بسنوات طويلة، وكان لحظر مؤلفاته ومنع ظهوره أثرٌ كبير على تباطؤ نشر أفكاره ومنهجه ومعرفة الناس به.
وبعد سنوات من متابعة برامجه ومنشوراته قرأت كتابه الأول بطبعته الجديدة (أعتقد ان ذلك كان عام 2013). لقد استغرقتني قراءة وتحليل ومراجعة هذا الكتاب نحو ستة أشهر ولكن سعادتي كانت لا توصف، لأني وللمرة الأولى أضع النقاط على الحروف وأستطيع تصوّرَ الخطوط العامة للمنهجية المعاصرة التي بإمكانها أن تُعين أي شخص مهتم في التدبر والتفكّر في الكون وفي تجديد الخطاب الديني أن يعيد التفكير في كل الثوابت التي وضعتنا جميعاً في صندوق مغلق، وأغلقت علينا كل الاجتهادات، وأغلقت كذلك باب التجديد والمعاصرة.

قد تكون النتيجة التي توصل اليها الدكتور شحرور في بعض المواضيع والأبحاث، متشابهة مع النتائج التي توصل لها مفكرون آخرون ولكن الفارق الجوهري لم يكن في الوصول الى النتيجة، ولكن التحدي الحقيقي كان في البرهنة العقلية والمنطقية على صحة ذلك الرأي، والاستدلال عليه بكتاب الله من خلال الفهم المعاصر له، وهذا ما فعله الدكتور محمد شحرور بكل بساطة، لقد انتج نظرية معرفية قابلة للتحقيق على أرض الواقع، وقادرة في النتيجة على تطوير الخطاب الديني وإعادة الأمور إلى نصابها الطبيعي بفهمنا للكتاب على أساس أنه رسالة الله إلى كل البشر في كل العصور، وهذا ما لم يستطع تحقيقه أحد آخر من المفكرين، فاختاروا اللعب على العواطف أو التحدث بأفكار فلسفية خارجة عن إطار العقيدة وعلوم الدين.
من أهم الأساسيات التي بنى عليها د. شحرور نظريته المعرفية، أن القرآن الكريم لا يحتوي على الترادف لأن ذلك يتناقض مع كونه كتاب الله سبحانه وتعالى، فعندما يقول الله في آية "الكتاب" وفي آية أخرى "القرآن" لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نعتقد ان الله يقصد ذات المعنى، ولكن الذي حصل أن موروثنا الديني قد عامل القرآن كما عامل الشعر العربي وليس كما يجب أن يعامل كتاب الله.

وعلى نفس المنوال يقول د. شحرور إن كل كلمة في القرآن لها إضافة للمعنى، وإذا لم يتأثر فهمك للقرآن بحذف كلمة أو إضافة كلمة ففهمك ناقص.

ويؤكد د. شحرور أيضاً على أهمية الدلالة اللغوية والربط بين الكلمة والمعنى، والترابط بين الآيات، وضرورة قراءة المواضيع المشتركة في كتاب الله كوحدة واحدة وعدم اقتطاع الآيات بعضها عن بعض.

ويؤكد أيضاً أن كتاب الله قابل للفهم والتطبيق في كل العصور وليس محصوراً فقط في عصر الرسالة، وهو يحتوي في ذاته صفة ثبات النص وحركة المحتوى، فالله سبحانه وتعالى خاطب البشر على مختلف العصور بخطاب ثابت في النص، ولكنه (النص) قادر على استيعاب التطور المعرفي للحضارات البشرية، بحيث يستطيع كل عصر من العصور إدراك وفهم النص بشكل مختلف عن العصور السابقة.

وقد نشر د. شحرور عدة مؤلفات ودراسات حول مفهوم الرسالة والنبوة وقدّم فيها طرحاً جديداً لمفهوم السنة النبوية والسنة الرسولية والتفريق بين التقليد والاجتهاد في اتباع سنّة النبي.
كما قدم رؤية جديدة حول مفهوم السلطة والدولة الدينية والمدنية، وفيها وضّح أن مفهوم الدولة المدنية بدأ في يثرب التي أسماها سيدنا محمد (ص) ب "المدينة" لأنها جمعت بين الملل المختلفة بدستور مدني، كان ضامناً لحقوق المواطنة لجميع السكان.

كما تناول د. شحرور القصص القرآني بمفهوم معاصر، ووضّح أن القصص المحمدي وجميع الأحكام الواردة فيه هي أحكام ظرفية محكومة بعصر الرسالة، ولا يجوز القياس عليها، بل أخذ العبرة فقط، في حين أن الأحكام المطلقة وردت بكل صراحة ووضوح في كتاب الله، وهي مجموعة من الأوامر والنواهي والمحرمات والقيم الإنسانية.

وقد شاءت الصدف أن انتهي من كتابه (الإسلام والانسان) في نفس اليوم الذي صادف فيه وفاته، وهو آخر كتاب صدر له.

لقد قدّم د. شحرور شهادته على العصر ووضع عصارة فكره في كتابه الأول (الكتاب والقرآن) الذي احتوى أصول النظرية المعرفية التي توصل اليها بعد بحث ودراسة استمرتا لعشرين عاماً، وقال إنه كان يخشى أن يُمنع من الكتابة او أن يُقتل، فأراد تضمين كل علمه في هذا الكتاب.
وأضاف أيضاً أنه مهما ارتقت العلوم البشرية فإنها لن تصل إلى المعرفة الكاملة وأنه يأمل أن يتطور العلم وأن تأتي البشرية بعلوم جديدة تناقض علومه.

لقد ترك د. شحرور إرثاً عظيماً لم نستطع (نحن الجيل الذي عاصره) استيعابه بكليّته، واعتقد أن عبقرية هذا العلم وهذا الفكر هو قدرته على الاستمرارية وإدهاش الأجيال القادمة.


أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
22-12-2019

الأربعاء، 18 ديسمبر 2019

قصصٌ للأطفال والكبار





قبل عدّة سنوات، تحايل عليّ أبنائي كي أنتظم في قصّ قصة قصيرة عليهم قبل النوم، وكنت بدوري أقصّ عليهم قصةً بين حين وآخر، ثم أتذرّع بأعذار كثيرة حين لا يسعفني الوقت أو تخونني الذاكرة، ثم ما لبثنا أن اتفقنا على أن أروي لهم قصة قصيرة في طريق عودتنا من المدارس وبشكل يومي، مع استعراض العبرة من القصة والتعليق عليها.
كان الأمر ممتعاً، وأكثر من مجرد إخبار حكاية للتسلية، لقد اكتشفت أنها طريقة تواصل ممتعة ومفيدة بل ومدهشة بكل المقاييس، عادت بالنفع على الجميع.
شخصياً أدّت هذه التجربة إلى إثراء معرفتي، وتحفيزي لإعادة صياغة الحكاية وجعلها أعمق في المعنى، مع إسقاط ما أرغب بإيصاله من حكم وأمثال ومواعظ.
في البداية استخدمت مخزوني من القصص والحكايات التي أحفظها، وتفاجأت بأن لدى الإنسان قدرة على استرجاع معظم الحكايات والقصص التي سمعها أو قرأها في مختلف مراحل عمره بأدق تفاصيلها، لقد عادت بي الذاكرة إلى المراحل الدراسية الأولى، واسترجعت القصص التي مرّت علي، سواءً في المنهاج، أو تلك التي حدثّها بنا الأساتذة، إضافةً إلى حكايا ووصايا أمي وأنا طفل صغير، وذكريات أبي والقصص التي حدثنا بها عن قريتنا في الوطن السليب.

ولكن بعد نحو سنة، نفد المخزون الشخصي، واضطررت للاستعانة بالإنترنت والبحث عن قصص الأطفال المفيدة، أو بعض القصص مما أقرأه من روايات وكتب، مما أستطيع قولبته في قالب من الحكايا المسلية والمفيدة.

المدهش في الأمر، أن هذه القصص القصيرة، تكون غالباً ذات بُعْد فلسفي عميق، وأثر نفسي على المتلقّي، دون تمييز في عمره أو مستواه الفكري، فهي قصص للأطفال والكبار على حد سواء، وكلٌ يستطيع ان ينهل منها بحسب نضجه وقدرته المعرفية.

من بعض ما قرأت (وتصرّفت في روايته)، أنه في إحدى القرى القديمة عاشت عجوز مات عنها زوجها وأولادها وباتت بلا مُعيل ولا كفيل، فالتمستَ العطف من مختار القرية، الذي جمع بدوره أهل القرية وتشاور معهم في الأمر، حيث توافق معهم على إمداد هذه العجوز بما يلزمها من طعام وشراب وإعانتها على أمور الحياة.
وهنا أمر المختار بوضع ثلاث جِرار أمام بيت العجوز وسلّة كبيرة، تُخصص الجرّة الأولى لوضع الحليب، والثانية لوضع العسل، والثالثة للماء، أما السلّة فتُخصّص لوضع الخبز، وأمر أهل القرية بأن يضع كل بيت من البيوت كوباً من الحليب والعسل والماء، ورغيفٍ من الخبز في المكان المخصص كلّ ليلة.

وفي المساء غفت العجوز على صوت دلق الحليب والعسل والماء في الجرار، وصوت الخبز وهو يتهافت في الصندوق المخصص، لم تكن الدنيا تسعها من الفرحة، بل إن النوم جافاها من السعادة، وبقيت في انتظار الصباح بلهفةً وهي لا تكاد تطيق صبراً، ومع ساعات الصباح الأولى، اغترفت كوباً من الحليب فإذا به ماء خالص!، ثم اغترفت كوباً من العسل، فإذا به ماء صاف!، ثم مدت يدها لتناول الخبز وإذا به يابس مكسور عفن!

لم تكد تصدق ما جرى، وشكّت في قواها العقلية، ثم اتجهت مسرعة إلى بيت المختار، وأحضرته ليعاين بنفسه، وما أشد الصدمة عندما تيقن المختار من صدق ما حدّثته به!

استشاط المختار غضباً وجمع أهل القرية، وسأل كل واحد فيهم عن وفائه بالاتفاق الذي أجمعوا عليه. في البداية دافع كل شخص عن نفسه بانه أدّى المطلوب ونفذ الأمر، ثم سرعان ما أدركوا جميعاً سوء صنيعهم، وتبادلوا نظرات الخيبة!
وقف ابن المختار وقال سأحدثك يا والدي عمّا حصل، في الليلة الماضية أمرتني بأن أذهب وأكون أول شخص يضع نصيبه المفروض للعجوز، في البداية شرعت في تنفيذ الأمر، ولكني توقفت لوهلة وقلت لنفسي أليس أهل بيتي أحق بهذا النصيب من الطعام؟ ثم خطر في بالي أن أضع كوباً من الماء في جرة العسل وكوباً آخر في جرة الحليب وأن اختار الخبز الناشف والبائت فأضعه في سلة العجوز، وحدّثتني نفسي بالقول (ما سيضير العجوز لو اختلط كوبٌ واحد من الماء في جرة مليئة بالحليب أو العسل؟!، وماذا ستصنع العجوز بكل هذا الخبز من أهل القرية، سينتهي بها الأمر إلى إلقائه إلى الطيور والعصافير، فلتأكل الطيور من بواقي الخبز.
ثم نظر الفتى إلى الرجال المجتمعين، وقال: وأظن يا أبي أن كل واحد من أهل القرية قد خطرت له نفس الفكرة، وصنعَ ما صنعتُ أنا!. انتهى

ألا تتفقون معي، أننا جميعاً نصنع مثلما صنع أهل هذه القرية بشكل أو بآخر، كم من مرّة طالبنا المجتمعَ بفعل الخيرات وتقديم التضحيات، ولكن عندما يكون الفعل من نصيبنا نعتبر أنفسنا مستثنيين من القاعدة، وفي النتيجة نكون قد اعتمدنا على غيرنا ليقوموا مقامنا.

نقوم بالغش في مجالنا، ولكننا لا نقبل الغش من الآخرين، بات الواحد فينا ورماً سرطانيا بذاته، ولكنه يرتجف خوفاً من أن يُصاب بالعدوى من الآخرين!

ننتقد الشباب في المجتمع لتسيّبهم وعدم تحملهم المسؤولية، وعلى اتكاليتهم المُفرطة، ولكننا نُغالي في دلال أبنائنا ونربيهم على عكس ما نصرّح به، وحين يكبرون، يصبحون مثالاً لكلّ شيء انتقدناه في المجتمع!

وهكذا مع كل قصة وحكاية، وجدتُ دائماً دعوةً للتأمل، وتحفيزاً لمجموعة من الأسئلة الفلسفية.

أدعوكم، بأن تقضوا مزيداً من الوقت مع أطفالكم وأن تقصّوا عليهم ممّا تحفظون من القصص أو التجارب الشخصية المفيدة، قبل النوم أو بعده أو ساعة الظهيرة، لا يهم، المهم أن نتواصل مع أبنائنا ونرسّخ عندهم القيم الإنسانية والواجبات الأخلاقية التي تربّينا عليها، كي لا يوقر في قلوبهم أن ما يشاهدوه من سلبيات في الواقع والمجتمع هو أمر مستساغ، يجب علينا تقبّله من باب تغيّر سنّة الحياة.
كما أدعو بشكل خاص المعلمين والمعلمات في كل المراحل على الاستشهاد بالقصص والأحداث التاريخية لإيصال المعلومة، لأن هذه القصص تُحفر في ذاكرة الطلاب ويكون لها تأثير كبير على العقل الباطن أو اللاواعي.

 أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
17-12-2019

الاثنين، 9 ديسمبر 2019

الدولة المدنية بالمفهوم الديني

عطفاً على مقالي الأسبوع الفائت (الإسلام والعلمانية-حوار الطرشان)، أستعرض في هذا المقال فكرة الدولة المدنية بمفهومها الديني، بحسب فهمنا المعاصر للقرآن الكريم، مستفيداً من أطروحات مفكري هذا العصر، القائمين على تجديد الخطاب الديني بمفهوم بحثي علمي حقيقي، ومستندين على النصوص القرآنية.

ولعل البداية البديهية، هي الانطلاق من تعريف الإسلام بمعناه الشمولي العام، الذي يجمع تحت بوتقته كل الموحّدين بالله والمؤمنين بالحساب (اليوم الآخر)، والذين يعملون العمل الصالح بشقّيه العبادات (الشعائر)، ومنظومة القيم الإنسانية (اتباع الأوامر والنواهي الإلهية).
وبهذا المفهوم، فإن دين الله واحد، وهو الإسلام الذي بدأ بسيدنا نوح وانتهى بخاتم النبيين سيدنا محمد، بيد أن الرسالات السماوية اختلفت باختلاف العصور، وترافقت بشعائر خاصة، وتدرّجت الأحكام الشرعية فيها من الشدّة إلى السهولة والتبسيط، لتتناسب مع التطور الإنساني، حتى وصلت إلى الصيغة التي تضمن مساحة كافية من الحرية للإنسان وتفتح باب الاجتهاد للمجتمعات لتسيير شؤون حياتهم ضمن ما يناسب عصرهم.

وكذلك ارتقت منظومة الأخلاق بحسب التطور الحضاري للبشرية، حتى وصلت إلى صيغتها النهائية في الرسالة الخاتمة، ولكن الجوهر واحد، والقواسم المشتركة واحدة لأنها جاءت متناسبة ومتّسقة مع الفطرة السليمة.

انطلاقا من هذا الفهم، يمكن استيعاب شمولية وعالمية الإسلام، الدين الذي يجمع ولا يُفرّق، ويضع مصير الخلائق جميعاً في يد الحاكم الواحد، وليس بيد البشر أنفسهم، ليحاكموا بعضهم بعضاَ أو يستأثرون بنصيبهم من مرضاة الله ورحمته.

يقول الله تعالى (لكلّ أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه) إلى قوله (الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون) فما علينا سوى الالتفات إلى الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ونبذ الاختلاف والعصبية.  

وبهذا الفهم يمكننا فهم الآية الكريمة (ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه) فالإسلام هو نطاق الوحدانيّة لله الذي يضم كل الرسالات السماوية، ومن يختار دينا آخر لا يدين به لله بالوحدانية، يكون قد خرج من دائرة الايمان، ولا يخضع للحساب أصلا لأنه ناكرٌ له.

وبعد استيعاب معنى الإسلام (دين الله الواحد)، ينبغي علينا استيعاب المبدأ الأساس الذي قام عليه تكليف البشر، ألا وهو الحرية. لقد خلق الله هذا الكون لكي يكون للبشر حريتهم المطلقة في الفكر والاعتقاد (الايمان والكفر)، والعمل (العمل الصالح أو عمل السوء)، وبهذا يستحق الفرد فينا الثواب أو العقاب، الجنة أو النار، وهذا هو الميثاق الذي وضعه الله للخلق منذ اليوم الأول، بل إن الله سبحانه وتعالى أخبرنا أنه منح "إبليس" حرية الدعوة إلى غير سبيله، بعد ان اختار إبليس وبكامل حريته معصيّة الله. 

ومن هنا نقول إن كل أشكال الدولة الدينية التي تقوم على سُلطة الإكراه هي منافية لمراد الله في الكون، ولا تُحقّق (على عكس ما يعتقد البعض) الشروط الأساسية للمجتمع الإنساني كما ينبغي له أن يكون.

فكُلُّ عبادةٍ أتت بالإكراه أو لكونها الخيار الوحيد المتاح، وكُلُّ منهيٍ عنه تحقّق بالقمع، أو أمرٍ محمودٍ تحقّق بالإرغام، لا قيمة له عند الله تعالى، ليس هذا فحسب بل إنه لا يعطي التأثير اللازم والمفعول المطلوب في نفس الفرد ولا ينعكس كذلك إيجابيا على المجتمعات كما هو مطلوب.

إن المجتمعات القائمة على الرأي الواحد والحزب الواحد مهما كان اعتقاد هذا الحزب، هو عصيانٌ لرغبة الله في هذا الكون الذي خلقه على أساس "الحرية"، ودليل ذلك قوله تعالى (فمن شاء فليكفر ومن شاء فليؤمن)، فكل مجتمع يُكره أفراده على العبادة لأي إله، هو مجتمع مقهور لا مجتمع مؤمن، فنحن البشر لم نُخلق للعيش في عالمٍ شبيه برواية 1984!

لذلك نقول إن مفهوم الجهاد الحقيقي هو ضمان حرية الدعوة إلى سبيل الله في كافة المجتمعات، ورفع الظلم عنها، وليس إكراه هذه المجتمعات على اتّباع دين معين (أفأنتَ تُكرهُ الناسَ حتى يكونوا مؤمنين).
ومن هذا المنطلق نقول إن المجتمع الإسلامي (بمفهومه العالمي) يقوم على احترام حرية العبادة والفكر والتعبير، ويضمن عدم الإكراه.

وبعد ذلك يأتي قانون التعايش السلمي القائم على الفضيلة المبنية على الفطرة الإنسانية، والتي لا تشترط إيمان المرء، ولا تميز كذلك بين أتباع الرسالات السماوية، فالكل في هذا الأمر خاضع لهذه القيم الإنسانية العامة، مثل بر الوالدين، الالتزام بالعهود، الصدق في التعامل، حسن الجوار، دفع الزكاة (بمسمياتها)، شروط البيع الحلال، حسن أداء العمل.....الخ

إضافة إلى الابتعاد عن المُحرّمات، المتوافقة أيضاً مع الفطرة البشرية، والتي لا تخضع لأهواء البشر، ولا للقوانين البشرية وهذه المُحرّمات وردت بالتفصيل في كتاب الله ومنها الزنا والقتل والسرقة وأكل مال الغير ...الخ

إن أي مجتمع يحقق هذه الشروط من حرية الأفراد، وسن القوانين للالتزام بالأوامر والنواهي والابتعاد عن المُحرّمات، ويلتزم باحترام مكونات المجتمع بغض النظر عن الجنس والفكر والعرق والدين، ويقوم على أساس العدل والمساواة بين كافة مكوناته، هو مجتمع إسلامي، وهو إنموذج الدولة المدنية التي يرضاها الله لنا، وفي هذا الشكل من الدولة، نحقّق الحاكميّة لله وحده، ونخضع لعهده وميثاقه.

وهذا النموذج من الدولة موجود في كثير من دول العالم، مع بعض النواقص والاستثناءات، وهو شكل غير مُعجز ولا شكلاً من أشكال الفانتازيا أو المدينة الفاضلة، التي لن تتحقق يوماً، لأننا بشر ولسنا ملائكة.

وهذا الشكل من أشكال الدولة يتيح المجال الواسع للمجتمع، للاجتهاد في صياغة القوانين والدساتير التي تناسب ظروفه وعصره، ولا يحدّ ذلك سوى قدر ضئيل من الحدود، فعدد المُحرّمات التي حصرها القرآن لا تتعدى 14 مُحرّماً، ومنظومة الأوامر والنواهي كذلك لا تخرج عن إطار الأعراف والتقاليد والفطرة الإنسانية (خذ العفو وأمر بالعرف)، والرسالة المحمدية جاءت رسالة رحمة وتيسير (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم).

 
لذلك يمكن القول إن الدولة الإسلامية لا يشترط لها وجود سلطة دينية على رأسها، ولكنها بحاجة إلى سلطة مدنية ذات مرجعية أخلاقية تضمن للمجتمع حريته الدينية والتزامه بمنظومة القيم الإنسانية كما وردت في كتاب الله، لأن الضمير هو السلطة الحقيقية على البشر وليست الدولة أو السلطة الحاكمة.

كما أن القوانين المدنية مُتطوّرة بطبعها، ولا يمكن حبسها في نصوص جامدة، ومن هنا نقول إن السنة النبوية جاءت لتنظيم المجتمع ضمن حدود الله، واتّباعها يكون باستمرار الاجتهاد فيها، وليس في غلقه، وهذا مصداق الحديث الشريف (بلّغوا عني ولو آية فرُبّ سامعٍ أوعى من مُبلّغ).

فالرسول مارس السلطة العسكرية والقضائية وقيادة الدولة (وبالضرورة السلطة الدينية) من باب النبوّة، وأسّس من خلال ممارساته، مدرسةً متكاملة في الاجتهاد في الحكم، لتكون مثالاً لمن بعده، ولكنه لم يتدخل من قريب أو بعيد في شكل الدولة من بعده، بل إنه لم يوصِ بخلافته لأحد، وترك هذه الأمور عن قصد، لتتم صياغتها حسب التطور الحضاري للمجتمعات، ولم يُردها أن تكون قالباً جامداً، أو أن تتخذ شكل الكهنوت والحكم المُقدّس، ولكننا ويا للأسف وضعناها في صندوق جامد وحاولنا تقليدها، بل إننا ما نزال نحاول تقليد النموذج التقليدي الفاشل منها إلى يومنا هذا!

أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
8-12-2019

الاثنين، 2 ديسمبر 2019

الإسلام والعلمانية (حوار الطُرشان)



لعل جدلية الإسلام-العلمانية ترقى لأن تكون مأزقاً فكرياً حقيقياً في عالمنا العربي-الإسلامي، نظراً لعمق الاختلاف وجذوره التاريخية من جهة، وما آلت إليه الأمور من محاولات للتصفية السياسية من جهة أخرى.

من يراقب النقاشات الفكرية وصالونات النخب الثقافية يلاحظ أن الشد والجذب بين هذين التيارين يكاد يكون السمة الغالبة، حيث يطغى على الحوار أسلوب الجدل من أجل الجدل إلا ما ندر، وليس الحوار بقصد احترام الاختلاف أو بناء جسور للتعاون.

العلمانية بالمفهوم الفكري، تتوافق في المضمون مع روح الاسلام من حيث ضمان حرية العبادة والحفاظ على ميثاق عام للقيم الانسانية ولمجموعة الأخلاق العامة للمجتمع، والتي تتفق عليها كل المجتمعات المتحضرة، مع ضمان حقوق المواطنة بغض النظر عن الجنس والدين والعرق.
وهذه المفاهيم لا تختلف في الشكل أو المضمون لدى كل من الإسلاميين والعلمانيين، ولكن المشكلة تكمن في التطبيق.

فالذي يحدث في عالمنا العربي أن من يتصدر المشهد الفكري للعلمانيين، يتنكر لجميع هذه المبادئ ويحاول فرض رؤيته الخاصة بالدين وكيفية أداء العبادات، وصحة المعتقدات...الخ، مما يُفضي في النهاية إلى محاولة فرض دين جديد على الآخرين، وهذا بحد ذاته مغالطة فادحة لمبدأ الحرية الدينية.
فإذا اتفقنا على عدم جواز فرض دين معين على المجتمع أو فرض لباس معين وجعل العبادات اختيارية على مستوى الأفراد، إلا أننا نجد في المقابل أن العلمانيين يجاهدون لمنع الحجاب وإطلاق اللحى، إضافة إلى نقد كل من ينتمي للتيارات الدينية، وهذا اعتداء صريح على الحرية الدينية والشخصية، ناهيك أن الانتقاص من معتقدات الآخرين ووصفها بالجهل والتخلف هو ازدراء لحرية الفكر والمعتقد!

وعندما يتحدث العلماني عن الإسلاميين وتشدّدهم فإنه يقصد تلك الفئة التي تناقض بتطرفها كل معاني التسامح والتعايش المشترك، وهو هنا يقع في مغالطة الخلط والتعميم.

وإذا نظرنا الى الجهة الأخرى، نجد ان الإسلام السياسي، ومجمل الحركات الدينية، ترى في العلماني ذاك الملحد، الذي يحاوي أن ينقض أصول الدين، ويهدم بناءه، فنحن أمام متناقضين يرى كل واحد في الآخر شخصاً متطرفاً يحاول الغاء الآخر، ولكم أن تتخيلوا الحوار الذي يجمع بين هذين المتناقضين!

في العشر الأواخر من شهر رمضان الماضي كنت في أحد المساجد واستمعت لدرس ديني استمر لنحو ساعة، لم يتحدث فيه المحاضر (الذي يحمل أعلى الشهادات الأكاديميّة) سوى عن خطر العلمانيين مضيفاً إليهم تيار الليبراليين والملحدين، معتبراً إياهم كياناً واحداً، كما اعتبر كذلك أن كل محاولات تجديد الخطاب الديني، هي مؤامرة خارجية، تهدف الى القضاء على الإسلام!

من قصور التفكير، ألاّ ترى في الآخر سوى أسوأ صفاته وتتغاضى عن كل أفكاره المنطقية وحججه العاقلة، وللأسف فإن هذا ما يحصل عندما يتحاور الإسلامي مع العلماني في عالمنا العربي.

هناك قلة قليلة ممن يؤمنون بالإسلام العلماني (وأنا منهم)، وهذه القلة لا يكاد يُسمع صوتها، فالإسلاميون يعتبرون ان كل محاولات التجديد هي محاولات مشبوهة، وان إعادة دراسة الموروث الثقافي-التاريخي-الديني هو خروج عن اجماع الأمة، وهدم لأصول الدين.

في المقابل، يرى أغلبية العلمانيين، أن حالة "اللادين" هي الأساس، وأن حرية المجتمع (وحرية الأفراد بالتالي) هي مطلقة وغير قابلة للتقييد، ولا تخضع لأي سلطة سوى سلطة الدستور الذي يجب أن يُصاغ ليحمي حرية "اللادين".

وإذا كنا نقول إن الخطأ في التشدد الديني هو نابع من حالة الجمود الفكري، والانهيار الحضاري الذي ترافق مع اندثار الخلافة الإسلامية، حيث توقف البحث والتفكير واكتفينا بتقديس كل ما وضعه السلف لنا، فإننا نقول إن الخطأ في فهم العلمانية هو ناتج عن تبني أفكار النهضة الغربية وحركات التنوير، التي فصلت الدولة عن الكنيسة، وهذه الأفكار غير قابلة للتطبيق في مجتمعاتنا لسبب جوهري هو أننا نحاول تقليدها دون أن نفهم جوهرها.

الدين بمعناه الإسلامي العمومي الشامل، لا يمكن فصله عن الدولة فالإسلام بمفهومه السليم ونهجه الصحيح هو دين الله الواحد الذي يجمع كل البشرية ضمن ميثاق انساني شامل يضمن حقوقهم جميعا في المشاركة وحرية الفكر والعبادة (أو الامتناع عنها) بشرط اتباع الصراط المستقيم الذي نزل على موسى وعيسى ومحمد.
وهذا الصراط المستقيم (مجموعة القيم الإنسانية والأخلاق العليا) هو الضمان الوحيد لصحة المجتمع، ولفائدة مكوناته، دون أن يتم فرض شعائر معينة أو رموز دينية بذاتها، بحيث يكون الدستور ضامنا للاختلاف والتنوّع الثقافي والديني، دون إساءة لأي فئة أو أقليّة أو جماعة دينية، ويكون العدل وتساوي الفرص هو الميزان الحق.

أما نهضة الحضارة الغربية على أنقاض حكم الكنيسة، فأسبابها ونتائجها تتعلق بالمجتمع الغربي فحسب، ولا يمكن في أي حال من الأحوال، ربط نجاح الحضارة الغربية في مجال العلم والازدهار الحضاري، بفصل الدين عن الدولة والاستدلال بذلك على ضرورة تحييد العقيدة الدينية في مجتمعاتنا.

فالكنيسة على سبيل المثال كانت تحتكر التعليم والعلم بما في ذلك علوم الكون، وكانت تقوم بتعيين الحكومات وتصبغهم بالحق الإلهي في الحكم، وتسيطر على القضاء وعلى كل نواحي الدولة، لدرجة انها أنشأت محاكم التفتيش وقضت على كل يعارضها في تفسير أسرار الكون وحياة الأفراد، مثل أصحاب اكتشافات دوران الأرض ومركزية الشمس، وغيرها من العلوم! 

وهذا لا ينطبق على مشكلتنا مع الجمود وعدم تفعيل الاجتهاد في النص القرآني، الذي يضمن في داخله الحرية الفردية للأشخاص وحرية المعتقد، والمساواة بين كل البشر، والتشجيع على الرقي بالإنسان والاهتمام بالعلم والعلوم والاختراعات، ويركز على الحقوق العامة في المجتمع باتباع منظومة الأخلاق الإنسانية المقبولة لكل انسان بالفطرة. كما أن العالم الغربي وإن ضمن الحرية المطلقة للأفراد، إلا انه ليس مجتمعاً مثالياً بمقياس الأخلاق الفطرية السليمة، ويعاني من آفات التعصب والعنصرية والجنس والإدمان وتفكّك الروابط الأسرية والاجتماعية إلخ القائمة الطويلة.

ما أحاول قوله، إن القواسم المشتركة بين التيار العلماني والإسلامي من ناحية الفكر والمعتقد والنتيجة المرجوة هي قواسم عظيمة وأكبر بكثير من الاختلافات الظاهرية، ولكن المشكلة الحقيقية تكمن في الخروج عن المقاصد الأساسية للعيش المشترك.
ورغم وجود هذه القواسم المشتركة العظيمة إلا أن غياب صوت العقل وطغيان التشدد والإصرار على الفهم الفردي والرؤية الذاتية الخاصة أدت في النهاية إلى قطيعة فكرية وسياسية.

فهل نشهد بروز أصوات عاقلة تدفع نحو فهم مشترك وقواعد عيش مشترك تجنبنا الوقوع في مستنقع من الخلافات والعداءات والدخول في نفق مظلم لا يكاد يستبان النور منه!

إن أبسط قاعدة منهجية علمية للتغيير هو صنع التغيير من الداخل، والدفع نحو ثورة فكرية حقيقية لإعادة صياغة الموروثات، ومناقشة الافتراضات الأساسية من خلال بحث علمي ومنهج منطقي.
أما محاولة فرض التديّن التقليدي المتوارث بالسلطة والإكراه من قبل البعض، أو نقض الدين وفرض حالة "اللادين" على مجتمعاتنا، فهي محاولات محكومة بالفشل، ولن تحقق سوى الاستعداء وتزايد المشاعر العدائية، ولنا ان نقيس ذلك على محاولات الولايات المتحدة لفرض معتقداتها "المتناقضة" عن الحرية ومبادئ الديمقراطية على باقي شعوب العالم، والتي لا تثمر سوى عن المزيد من الديكتاتوريات، والحكم التعسّفي للشعوب!


أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
1-12-2019