يستأثر
بوتين على المشهد السياسي في روسيا منذ عام 2000 متنقلاً بين رئاسة الدولة ورئاسة الوزراء،
وهو اليوم على أعتاب الفوز بدورة رئاسية جديدة تمتد لست سنوات.
الكثير
يُقال عن الرئيس فلاديمير بوتين، المُصاب بجنون العظمة وأدوار البطولة، دائم
الظهور في وسائل الاعلام والمجلات، تارة وهو يمارس رياضة الجودو، وركوب الخيل،
والغطس، وتارة وهو يستعرض عضلات جسده (عاري الصدر)، حتى أنه ظهر في عدد من القصص
المصورة بشخصية "سوبر بوتين" التي تحاكي شخصيات الأبطال الخارقين.
كما
أنه انفرد بعلامة تجارية تحمل اسمه، من أشهر منتجاتها "فودكا بوتين".
ولكن أهم ما يجب أن يُقال عنه في نظري، هو تاريخه في الخدمة العسكرية والسياسية،
والذي يخفى على الكثيرين.
بدأ
بوتين خدمته العسكرية ضابطاً في المخابرات السوفياتية لمدة ستة عشر عاماً، ترقّى
بعدها ليصبح أميناً لمجلس الأمن في روسيا الاتحادية ثم رئيساً للوزراء عام 1999 في
عهد الرئيس يلتسين، وقد دشّن عهده بحرب الشيشان التي تولّى إدارتها شخصياً، بعد
اندلاعها إثر سلسلة من حوادث التفجير التي طالت عدة بنايات سكنية في روسيا، والتي
أثيرت العديد من الشكوك حولها، بضلوع طبقة الأقلية الحاكمة في روسيا "الأوليغارشيا"
في تدبيرها، من أجل تهيئة الأجواء لتولي بوتين للسلطة بعدما هبطت شعبية يلتسين
وبعد أن أصبح إدمانه للكحول عائقاً أمام قيامه بواجباته.
اللافت
هنا أن ضابط المخابرات الروسي المنشق "اليكسندر ليتفينينكو" والذي
اغتالته المخابرات الروسية عام 2006 بالبولونيوم المُشعّ في لندن، كان قد ذكر في
كتابه "تفجير روسيا، الإرهاب من الداخل" أن المخابرات الروسيّة هي التي دبّرت تفجيرات المباني السكنية
ذريعةً لخوض الحرب في الشيشان.
ومما
يعزّز هذه المعلومات، أن طبقة الأوليغارشيا نفسها قامت (بعد اندلاع الحرب على
الشيشان) بنقل السلطة من يلتسين الى بوتين دون الحاجة الى انتخابات، وبعدها بعام
جرت انتخابات رئاسية فاز فيها بوتين مستفيداً من إحكام قبضته العسكريّة على
الانفصاليين الشيشان، ثم كرّر فوزه عام 2004.
مع
تولّي بوتين السلطة بداية القرن الواحد والعشرين، كانت روسيا تعاني من آثار الصدمة
الاقتصادية التي رافقت تفكك الاتحاد السوفياتي، ورغم ارتفاع أسعار الغاز والنفط لاحقاً
إلا ان الحالة الاقتصادية الروسية ما زالت تعاني من اختلال تام في الأحوال
المعيشية لعامة الشعب والأحوال المعيشية لطبقة الأثرياء الحاكمة، وتعكس التقارير
الاقتصادية والصحفية مظاهر الثراء الفاحش والحماية العسكرية لتلك الطبقة، مع استمرار
خلق فرص الاستثمار الأجنبية وازدياد جذب الاستثمارات الغربية، خاصة من طبقة المدراء
والاقتصاديين، فيما تبدو أحوال القرويين وعامة الشعب وكأنهم يعيشون في زمن آخر لا
يمت بصلة الى القرن الحادي والعشرين!
وفي
عام 2008 تحايل بوتين على الدستور الذي ينص على عدم جواز خوض الرئيس لأكثر من
دورتين متتاليتين، بدعم المرشّح "ميدفيديف" لمنصب الرئيس مع توليه هو منصب
رئيس الوزراء.
ومع
سيطرته على مراكز القرار وضمان دعم الأوليغارشيا له، كان هو الحاكم الفعلي للبلاد،
قبل أن يعود للفوز في انتخابات عام 2012.
وعادة
ما تثار الاحتجاجات والاعتراضات من المعارضة على نتائج الانتخابات التي يحسمها
بوتين لصالحه ويُتهم فيها بالتزوير والتلاعب بالنتائج، كما أن سياسته الداخلية تعتمد
على قمع الأصوات المعارضة، حيث تعرّض جميع منتقديه للعقاب الشديد الذي وصل احياناً
الى الإعدام أو السجن، أو النفي، وفي أحسن الأحوال الإقامة الجبرية، ولم يستثنى من
ذلك الصحفيون ولا الاعلاميون، وهو يفعل كل ذلك في صمت وبرود شديدين، في تجسيد
حقيقي لشخصية الجاسوس الذي نشاهده في أفلام السينما وهو يقتل ضحاياه ويتخلص منهم بكل
برود.
في
حربه ضد الشيشان استخدم بوتين سياسة "الأرض المحروقة"، واعتمد على القصف
الجوي المكثف لقتل كل ملامح الحياة على الأرض، وقد بقيت عاصمة الشيشان
"غروزني" مثالاً حيا لهذه السياسة بعد أن روّعت الصور التي تناقلتها
وسائل الاعلام للمدينة التي اقتحمتها القوات الروسية بعد حصار طويل العالم بأجمعه،
ووصفتها تقارير الأمم المتحدة بانها أكثر مدن العالم دماراً. وتشير دراسات حديثة أن
عدد ضحايا هذه الحرب يصل الى مائة ألف مدني!
أما
في منطقتنا العربية، فقد استغل بوتين التردد الأمريكي، وسياسة النأي بالنفس، لفرض
الوجود الروسي من جديد، فاندفع عسكرياً لملء الفراغ في سوريا، وقام بتعزيز قواعده
العسكرية هناك، بل وانشاء قواعد جديدة، تعزز من الحضور الروسي في المنطقة، وتؤسس
لديمومة هذا الحضور.
وخلال
خوضها الحرب في سوريا، قامت الطائرات الروسية بما معدله 250 ضربة في اليوم الواحد،
وطالت ضرباتها مباني المدنيين ومرافق عامة ومستشفيات ومدارس وسيارات اسعاف، ومحطات
مياه. كما قامت أذرعتها الإعلامية بنشر صور وهمية وأخبار زائفة وملفقة عن اهداف
عسكرية تابعة لجهات إرهابية، مع استخدامها المتكرر للأسلحة المحرمة دوليا مثل
القنابل العنقودية والنابالم، ناهيك عن تسترها على الهجمات الكيماوية التي قام بها
النظام السوري.
ورغم
صعوبة إحصاء عدد الضحايا في سوريا، إلا ان الأرقام تشير الى مقتل أكثر من 6000
مدني بينهم 1500 طفل و 900 سيدة من قبل النظام والقوات الروسية مع تدمير أكثر من
مئة مسجد ونحو 140 مدرسة أو مركز تربوي، ونحو 120 مستشفى.
وقد
أدى التدخل الروسي في سوريا الى ميلان كفة النزاع لصالح النظام السوري بشكل لافت، ولكن
الأسوأ من ذلك، هو الارتفاع اللافت في عدد الضحايا وتوسيع رقعة الدمار والخراب على
الأرض.
في
هذا العالم الذي نعيش، والذي يتولى قيادته، قاتل صامت من جهة، يتلذذ بممارسة لعبة
الجواسيس، وإصدار أوامر القتل والاعتقال والقصف الدموي، وتستهويه مشاهد الدمار، في
الوقت الذي يمارس فيه التنمّر على ضيوفه من رؤساء الدول باستعراض حيواناته
"غير الأليفة" أو استعراض صوره الشخصية وهو يمارس فنون القتال، أو باصطحابهم
الى حفلات الصيد وقتل الطرائد.
فيما
على الطرف الآخر، رئيس متطرف ينظر الى العالم نظرة السيد للعبد، ويعتقد أن من حقه
استعباد باقي الدول والشعوب وتجريدها من ثرواتها، بل ونهب مقدراتها في سبيل تحقيق
سياسة "أمريكا أولاً"، تبدو الأمور -في هذا العالم-سوداوية أكثر مما
ينبغي، بل وتبشّر بمستقبل مظلم، بعيد عن كل قيم الإنسانية والسلام والأمان، ووسط
هذه الصورة القاتمة، يتهافت بعض مثقفينا على التصفيق والتطبيل والتهليل لهذا "البطل"
أو ذاك، بل إنهم يمارسون طقوس التبشير به، وكأنه المهدي المنتظر!
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
18-3-2018
http://www.alquds.co.uk/?p=899850