الاثنين، 28 ديسمبر 2015

لماذا يكرهوننا ؟!



   بالرغم من التقدم الحضاري للولايات المتحدة، وتسيّدها للعالم في مختلف الميادين، السياسية منها والإقتصادية والتكنولوجية، وغزوها للفضاء الخارجي إلا أن المفارقة العجيبة أن الشعب الإمريكي بشكل عام لا يعتبر من الشعوب المُثقفة أو المُنفتحة على الحضارات الأخرى، بل إنه قد أظهر في العديد من المناسبات جهلاً كبيراً في مواضيع حياتيّة أساسية، تبدو في معظم الأحيان بديهيةً للشعوب الأخرى.

نُشرَ يوم الجمعة الماضية نتائج إستبيان قامت به إحدى شركات الأبحاث مستهدفةً شريحةً من الناخبين الأمريكان، وكان من ضمن الأسئلة سؤال إستدراجي يقول نصّه: (هل تؤيد قصف مدينة عقربا ؟ ) حيث أجاب 30% من مؤيدي الحزب الجمهوري بأنهم يؤيدون قصف هذه المدينة دون أن يعلموا أنها مدينة وهمية موجودة في مغامرات علاء الدين الكرتونية فقط !! بينما عارض 13% فقط هذه الفكرة، وأجاب البقية بأنهم غير متأكدين.


وقد برّرت الشركة القائمة على الإستبيان إدراج هذا السؤال بالقول أن الهدف كان معرفة توجّهات الناخبين نحو قصف أهداف وهميّة تبدو للوهلة الأولى أو ظاهرياً أنها مواقع في الشرق الأوسط، في إشارة إلى تنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا بين المواطنين الأمريكان في الفترة الأخيرة.

أذكر أنني شاهدت تقريراً تلفزيونياً بعد أحداث سبتمبر وقبيل الغزو الأمريكي لأفغانستان، قام فيه فريق البرنامج بالتجوّل في شوارع إحدى الولايات الرئيسية وسؤال الناس عن تأييدهم أو معارضتهم للحرب على أفغانستان، وكما كان متوقعاً فقد أيّدت الغالبية العظمى الغزو العسكري، ولكن المفاجأة كانت عندما طلب المذيع من المواطنين تحديد موقع أفغانستان على خارطة العالم، حيث لم ينجح معظمهم من تحديد الموقع الصحيح على الخارطة ناهيك أن بعضهم لم يكن يعلم في أي قارة تقع، حيث بحثوا عنها في قارة أمريكا الجنوبية !!

الشيئ بالشيء يُذكر، عندما ترشّح جورج بوش الإبن للإنتخابات الرئاسيّة ركّزت قنوات الإعلام الميّالة للحزب الديمقراطي على ضحالة ثقافته وعدم إمتلاكه للكاريزما الشخصية أو حتى السياسيّة المتميزة التي يُفترض أن تتوافر لدى أي مرشح رئاسي، وضمن هذا السياق، تم إستضافة بوش الإبن في العديد من البرامج التي تعمّد مُقدّموها على إحراجه بأسئلة عامة عن عواصم بعض البلدان وأسماء رؤساء الدول الحليفة والمُعادية وبعض المعلومات العامة، وكانت إجاباته مصدراً للسُخرية والتندّر عبر وسائل الإعلام المختلفة. ولكن الغريب أن هذا المرشح غير المُثقّف والجاهل في أمور السياسة الخارجية فاز على غير المتوقع في سباق الرئاسة، بل إنه إستطاع أن يفوز في الإنتخابات اللاحقة أيضاً رغم كارثتي أفغانستان والعراق !!

 في أولمبياد أثينا عام 2004 وبعد أشهر قليلة من غزو العراق والكشف عن فضيحة سجن أبوغريب، لوحظ أن الجمهور الرياضي تعامل مع الرياضيين الأمريكان بسلبية واضحة، حيث كان واضحاً تعاطف الجماهير مع أي رياضي يتواجه مع أحد أفراد الفريق الأمريكي، ومع أي فريق يتنافس مع الفريق الأمريكي، وكان الفرح يغمر الجماهير في حالة فوز المُنافس، بينما يُستقبل الفوز الأمريكي بفتورٍ وبُرود. أثارت هذه الحالة العديد من التساؤلات بين أفراد البعثة الأمريكية، وبرز حينها سؤال لماذا يكرهوننا ؟!

لقد لفتت هذه المناسبة الإنتباه إلى تعاظم الشعور العام بالسُخط من سياسات الإدارة الأمريكية، التي تعتمد على تضليل الرأي العام الأمريكي لضمان دعمه لهذه السياسات المُوجهّة، وتلا هذه المناسبة العديد من الدراسات والتحليلات التي توصلت نتائجها إلى تعزيز هذه الفرضيّة في إشارة إلى حالة الإمتعاض التي وصلت إلى حد الكُره تجاه كل ما هو أمريكي. وبناءً على ذلك حاول صُنّاع القرار في أمريكا تجميل صورة الولايات المتحدة أمام العالم وتعديل بعض السياسات " المُعلنة " على أقل تقدير.

ولكن السؤال بقي يتردد في أذهان الأمريكان إلى يومنا هذا، لماذا يكرهوننا ؟!

وللإجابة على هذا السؤال أقول، نحن لا نكرهكم ولكننا نكرهُ جهلكم بأمور حياتنا، نكرهُ فيكم أنكم تفترضون مُسبقاً أنكم متفوقون على بقية البشر، وتبنون علاقتكم مع الآخر على فرضيّة السيّد و العبد. نكرهُ فيكم أنكم لا تعلمون إلا القليل عن العالم الذي تعيشون به وتطالبون غيركم أن يتعلّم قواعدكم في الحياة وأن يتأقلم مع "الطريقة الأمريكية".
أما أكثر ما نكرهه فيكم، فهو جهلكم وسذاجتكم المُفرطة إلى حد الغباء أحياناً والتي جلبت الكوارث لمنطقتنا وللعالم، وارتدّت نتائجها عليكم دون أن تُدركوا ذلك ولو بعد حين !
 عزيزي المواطن الأمريكي، إن تأييدك لمرشح رئاسي يعرف القليل عن العالم المحيط به، أو تأييدك لغزو عسكري لبلادنا، أو فرض عقوبة إقتصادية على أحد الأنظمة التي لا تتوافق مع سياسات حكومتك، أو دعم جماعة أو طرف من الأطراف المتنازعة في بلداننا، بناءً على مصالح السلطة في بلادك، يؤثر علينا نحن شعوب المنطقة وعلى مستقبل بلداننا والأجيال القادمة، فيما تجهل أنت "صاحب القرار" خارطة المنطقة وتاريخها، بل إنك لا تُبدي أي فضول بالبحث عنا في "جوجل"، ولا تكترث لمعرفة أين تقع بلداننا وما هي أسماء مُدننا !!
فهل ما زلت تتساءل، لماذا تكرهوننا ؟!

أيمن أبولبن
28-12-2015
كاتب ومُدوّن من الأردن





للتواصل عبر تويتر @ayman_abulaban


الأربعاء، 16 ديسمبر 2015

القراءة إكسير الحياة



   تعتبر القراءة المصدر الأول والرئيس للمعرفة بشتى أنواعها، ولا عجب أن بداية الكلام الآلهي في الرسالة المحمديّة كان " اقرأ "، فمن القراءة والإطّلاع انطلقت المعرفة الإنسانية التي ساهمت في تأسيس الحضارات الإنسانية على مر التاريخ، وأدّت من خلال التراكم المعرفي عبر الأجيال المتلاحقة إلى تطور الإنسان في ميادين الحياة المختلفة، وصولاً إلى ما نراه حالياً من إزدهار تكنولوجي، علمي، حضاري، وثقافي.

  لقد ساهمت الترجمات التي قام بها المفكرون المسلمون الأوائل نقلاً عن الحضارات الأجنبية وأبرزها الحضارة الإغريقية في تحقيق نقلة نوعية لإزدهار الحضارة الإسلامية، وإنطلاقاً من هذه النقطة بدأت رحلة المعرفة العربية الإسلامية مستفيدة من الرسالة المحمديّة في الإجابة عن الأسئلة الوجودية التي حيّرت الفلاسفة، وبهذا استطاعت الحضارة الإسلامية إضافة الكثير الى المعرفة الإنسانية وساهمت في قفزة حضارية هائلة في تاريخ الإنسانية في مختلف ميادين الحياة العلمية والفلسفية والثقافية وفي حقول التاريخ والأدب، وشهدت الحضارة الإسلامية ولا سيما في عصر الأندلس منتوجاً ضخماً من الكتب والمخطوطات والدراسات الإنسانية التي سجلت حضوراً مميزاً للعرب والمسلمين في سجل الحضارة الإنسانية.

   هذه المساهمة العربية الاسلامية في سلم التطور الإنساني كانت القاعدة التي بنى عليها الغرب قفزة هائلة أخرى في تاريخ الإنسانية مستفيدين بدورهم من ترجمات الكتب العربية، وتزامنت هذه المرحلة مع فترة إنحدار فكري وثقافي عانت منه الحضارة الإسلامية بعد عصر الأندلس.

وبالنظر الى ما يتمتع به جيلنا الحالي من وسائل لا نهائية للمعرفة وغير مسبوقة من ناحية الكم والنوع، وعلى رأس هذه الوسائل الانترنت الذي جعل العالم الكبير قرية تفاعليّة صغيرة، يستبشر المرء بقدرة الإنسان على تحقيق قفزات هائلة في تطور البشرية في وقت قياسي بالمقارنة مع الأجيال السابقة، ولكن المؤسف أن القراءة لم تعد من أولويات هذا الجيل بالرغم من سهولة الوصول الى أي معلومة أو أي كتاب بأي لغة، حيث لا يتطلب هذا في كثير من الأحيان الى أكثر من كبسة زر.

  لا شك أن هناك نسبة لا يستهان بها في عالمنا العربي تمارس القراءة بشكل دوري ومستمر، ولكننا لو بحثنا في نوعية الكتب التي تلقى رواجاً لوجدنا أنها في أغلبها لا تسمن ولا تغني من جوع ولا تبشّر بقفزة نوعية في المعرفة في عالمنا العربي، علينا أن ننتقل من مرحلة القراءة من أجل المتعة والتسلية الى القراءة من أجل المعرفة، أو ما يطلق عليه مصطلح " القراءة الذكية "، نحن نتحدث عن القراءة التي تثير في القارىء الرغبة في البحث، وتدفع به نحو توليد الأفكار الإيجابية ونشرها في دوائره المحيطة، بحيث تصبح القراءة حواراً بين القارىء والكاتب من جهة، وبين القارىء وعالمه المحيط به من جهة أخرى.

  حقيقةً، لا أتفق مع الكثير من الإحصائيات التي تصدر تباعاً والتي توضح الفجوة الهائلة في القراءة وفي إنتاج الكتب في العالم العربي مقارنةً ببقية دول العالم، وإن كنت أتفق مع القول بأن الإهتمام بالقراءة "الذكية" والمعرفة السليمة يعد ضعيفاً في عالمنا العربي، مقارنة مع الدول الغربية، ومن هنا علينا أن نعترف أن هناك إرتباطاً وثيقاً بين الإهتمام بالقراءة من جهة وحالة الرضى عن الأوضاع المعيشية والسياسية التي تعيشها البلاد من جهة أخرى، بمعنى أن إزدهار الحريات العامة وارتفاع قيمة الفرد في المجتمعات يؤثر بشكل كبير على إرتفاع معدلات القراءة والكتابة على حد سواء، وهذا ما يوضح إرتفاع معدلات القراءة وانتشار المدونات الإلكترونية وصفحات التواصل الإجتماعي في عالمنا العربي بعد انطلاق شرارة الربيع العربي.


   تُعدّ فكرة المكتبة المنزلية واحدة من أهم المبادرات الهادفة الى نشر ثقافة القراءة في مجتمعاتنا العربية، وبالأخص لدى أطفالنا، فعندما ينمو الفرد في بيئة تعتبر الكتاب جزءاً أساسياً من مكونات البيت سيكون من السهل عليه الإرتباط بعادة القراءة وحب المعرفة ونقل هذه العادة الحميدة لأصدقائه ولأبنائه من بعده.

 وهذا يدفعنا الى التساؤل لماذا لا نهتم بإقتناء الكتب بقدر إهتمامنا بإقتناء الملابس واكسسوارات المنزل ومظاهر الترفيه الأخرى من ألعاب الكترونية ومقتنيات شخصية ؟! لماذا نشعر بأن اقتناء الكتب لا يعتبر بنداً أساسياً من ضرورات العائلة. حبذا لو بدأنا بتنفيذ مبادرة مكتبة منزلية لكل عائلة، وقمنا بتخصيص ميزانية لرفدها بالجديد من الكتب، حتى لو كانت هذه الميزانية متواضعة لا تكفي لشراء أكثر من كتاب واحد في الشهر، ولكنها ستكون كفيلة بأن تؤسّس لمشروع قراءة واعد في عالمنا العربي.

يقول الأديب المعروف عباس محمود العقاد واصفاً شغفه بالقراءة ( إن حياة واحدة لا تكفيني ! )، وأنا بدوري أعاين رفوف مكتبتي المنزلية المتواضعة، وأستعرض ما فيها من كتب " جذّابة " كل مساء، وأتساءل تُرى هل تكفي الأيام القادمة لسبر أغوار صفحات هذه الكتب، ثم أعود وأقول ليس هذا هو المهم، طالما أني أمتلك هذه الرغبة النهمة في التهام صفحات هذه الكتب فأنا حيٌّ !

أيمن أبولبن
7-12-2015
كاتب ومُدوّن من الأردن





للتواصل عبر تويتر @ayman_abulaban

الثلاثاء، 24 نوفمبر 2015

إغتيال كينيدي، المؤامرة والمُصادفة والقَدَرْ



   في أواخر السبعينات أو أوائل الثمانينات من القرن الماضي، تابعتُ مع والدي برنامجاً وثائقياً عن إغتيال الرئيس الأمريكي الأسبق "جون كينيدي". وما زلتُ أذكر تأثري البالغ بمشهد الإغتيال وبالأخص لحظة إصابته في رأسه بالطلقة الثانية "القاتلة"، وردّة فعل زوجته "جاكلين" التي اندفعت نحو مؤخرة السيارة المكشوفة في حركة تلقائيّة لإلتقاط الأجزاء التي تناثرت من جمجمته، حيث بدت عليها ملامح الصدمة من هول ما حدث.


   كنت صغيراً حينها، ولم أستوعب الهدف من حركتها تلك، لولا تعليق والدي على الحدث، الذي بقي محفوراً في ذاكرتي تاركاً بصمة عميقة. لاحقاً، قمت بتَتبّع سيرة الرئيس الراحل، وكنت أزداد إعجاباً بشخصيته، كلما إزداد وعيي لأمور الحياة والسياسة، راقت لي رسالته في الحياة التي كرّس نفسه لتحقيقها، ومع مرور الزمن وصلت إلى قناعة بأن إغتياله كان مُتوقعاً في أي لحظة، بالنظر إلى رؤيته السابقة لزمانه، والتي تسبّبت بإكتسابه العديد من الأعداء عبر مشواره السياسي القصير نسبياً، ولكنه عميق التأثير في المرحلة التي عاشها.

  تُصادف اليوم الذكرى الثانية والخمسين لإغتيال كينيدي، أصغر رئيس أمريكي على الإطلاق ( ثلاثة وأربعين عاماً حين تولى الرئاسة )، والرئيس الأمريكي الوحيد من الطائفة الكاثوليكية، الذي يعود له الفضل في إلغاء قوانين التمييز العنصري ونيل الأمريكان السود حقوقهم الدستورية والمدنية، رغم الإحتجاجات الشعبيّة وعدم تقبل المجتمع الأمريكي لذلك، وكان أول رئيس أمريكي يعيّن مواطناً من أصول أفريقيّة في منصب رفيع في البيت الأبيض رغم إعتراض طاقمه الإداري، كما شهدت فترة ولايته قفزة كبيرة في مجال حقوق المرأة، واصطبغت سياسته الداخلية بدعم الفئات الفقيرة من الشعب.

من مساهماته أيضاً، دعم مشاريع وكالة الفضاء "ناسا"، وعلى رأسها مشروع " أبولو" بعد أن طرح هدفاً بعيد المدى للعاملين في الوكالة ( يجب علينا وضع إنسان على القمر وارجاعه إلى الأرض سالماً ).

   على الصعيد السياسي، شهدت فترة حكمه توترات كبيرة مع الإتحاد السوفياتي كادت أن تصل إلى حد المواجهة العسكرية المفتوحة، ولكن كيندي نجح في قيادة دفة الصراع بالحكمة والتنويع بين المرونة والشدّة، مخالفاً توصيات القيادات العسكرية والأمنية في كثير من الأحيان، حيث نجح في تحقيق انتصارات سياسية عديدة وإكتساب شعبية جماهيرية كبيرة، إلاّ أن سياسته تلك خلقت له الكثير من الأعداء في دوائر صنع القرار الأمريكي الذين تم تهميش دورهم والتقليل من صلاحياتهم خصوصاً مع وجود أخيه "روبرت كينيدي" في منصب مدير مكتب الإدعاء العام، الذي كان داعماً كبيراً له وسبباً أضافياً لزيادة أعدائه. 



أما على الصعيد الشخصي، فقد تمتع "جون كينيدي" بشخصية جذّابة وكاريزما حيوية واتّسم بروح الفكاهة التي ساهمت في خلق أجواء من المرح في خطاباته ومؤتمراته الصحفيّة. من أشد عيوبه التي تركت نقطة سوداء في تاريخه، علاقاته الغراميّة خارج إطار الزوجية ومن أشهرها علاقته مع نجمة هوليوود الشقراء "مارلين مونرو".



   تعتبر حادثة إغتيال كينيدي من أكثر الإغتيالات السياسية المثيرة للإهتمام، ليس فقط بسبب تراجيديا الحادثة، ولكن بفضل الغموض الذي اكتنفها، ولم يتم فك طلاسمه لغاية اللحظة، حتى أن تصوير مشهد الإغتيال كان مجرد مصادفة يعود الفضل فيها إلى أحد السكان المحليين من هواة التصوير والذي تصادف أن يكون في المكان والزمان المناسبين، ويشاء القدر أن يحصل على عائد مالي ضخم مقابل بيع التسجيل لإحدى القنوات.

  هناك من يتحدث عن مؤامرة داخلية تم الإعداد لها بعناية داخل أروقة الأجهزة الأمنية والمخابراتية الأمريكية، ولا يُستبعد أن يكون لعصابات المافيا يد فيها بعد أن حاربها الأخوين كينيدي بضراوة وساهما في سنّ القوانين التي تحد من نشاط هذه الجماعات، بهدف القضاء على النشاطات الإجراميّة في البلاد، ومما يدعم هذه النظرية أن المتهم الرئيس في إغتيال كينيدي قد تم تصفيته قبل أن يُقدّم للمحاكمة ودون أن يعترف بالجريمة !، يُضاف الى ذلك أن ظروف الإغتيال تشير الى عملية منظمة ودقيقة وليس مجرد عمل فردي.

بعيداً عن المؤامرة المُفترضة، تأتي المُصادفة التي لعب فيها القدر دوراً إضافياً لتعزيز الغموض الذي يحيط بالحدث، فحالة الطقس قبل يوم من الإغتيال كانت تشير الى جو غائم وماطر ولكن الشمس سطعت بشكل غريب صباح يوم الحادثة مما حدا بالرئيس كينيدي الطلب من مرافقيه كشف السقف المتحرك للسيارة كي يتمكن من تبادل التحية مع الجماهير والتلويح لهم. يا لها من مصادفة غريبة أدت إلى انكشافه تماماً أمام قاتله !

لم تقف المصادفة "القدريّة" عند هذا الحد، فبعد أن أصيب الرئيس كينيدي برصاصة من الخلف - لم تكن قاتلة - كان من المُفترض أن تؤدي الى إنحنائه إلى الإمام، ولو تم ذلك لتعذّر على القناص الآخر أن يتمكن من إصابته في رأسه من الأمام، ولكن الرئيس كينيدي بقي في نفس وضعية الجلوس نتيجة إرتدائه مشدّاً للظهر من نوعية قاسية وصلبة كان معتاداً على استخدامه للحد من أعراض الديسك، حيث يعمل هذا المشدّ على تثبيت الجزء الأعلى من الجسم، وهذا ما أعاق حركة الرئيس كينيدي وساهم في إبقاء رأسه مرفوعاً مما تسبب بمقتله !

مأساة جون كيندي هي جزء من مأساة كبيرة عانت منها عائلته بأكملها، فشقيقه الأكبر "جوزيف"  قُتل في سقوط طائرته أثناء مشاركته في الحرب العالمية الثانية، أما شقيقه الأصغر وذراعه اليمنى "روبرت"، فقد تم إغتياله هو أيضاً بعدما ترشّح للإنتخابات الرئاسية عام 1968، في حين توفي نجله الأكبر "جون الإبن" في حادث تحطم طائرة عام 1999 !

الغموض والمؤامرة والمصادفة، عنوان سيرة عائلة كينيدي، والفرد الأبرز فيها، جون كينيدي، ويبقى السؤال هل سيتم في المستقبل القريب نشر معلومات سريّة تساهم في إزالة هذا الغموض ؟!

أيمن أبولبن
20-11-2015
كاتب ومُدوّن من الأردن





للتواصل عبر تويتر @ayman_abulaban

الخميس، 5 نوفمبر 2015

إعادة ضبط سوريا على الإيقاع الروسي


    تقدّمت روسيا بخطة لحل النزاع في سوريا ترتكز على توحيد صفوف المعارضة والنظام ضد التنظيمات الإرهابية، وصولاً إلى مرحلة إنتقالية يقودها النظام السوري وتتضمّن إجراء إنتخابات حرة بمشاركة كافة الأطياف تمهيداً لسوريا جديدة خالية من "بشار الأسد".
  في الظاهر تبدو الخطة الروسية جديرة بالإحترام، وتتضمن المطلب الرئيس للمعارضة السورية والمتمثل برحيل الأسد، ولكن التفاصيل الصغيرة بين السطور تشي بمستقبل أكثر سوداويّة للشعب السوري !

   تشترط روسيا على المعارضة السورية وقف المعارك مع النظام، وإعلانها قبول المبادرة الروسية، وكل من لا يقبل خطة السلام الروسية سواءً من التنظيمات والفصائل على الأرض أو القيادات السياسية المُعارضة، سيتم إقصاؤه وسيخرج من اللعبة السياسية. في المُقابل تتعهد روسيا بعدم ترشح "بشار الأسد" للإنتخابات القادمة، ولكن هذا لا ينطبق على باقي أفراد عائلة الأسد أو رموز النظام الحالي، ناهيك عن وجوب تعهّد المعارضة السورية "السلميّة والحليفة" بعدم ملاحقة الأسد أو أي من رموز النظام قضائياً بدعوى جرائم الحرب التي تم إرتكابها في سوريا على مدار السنوات الأربعة الماضية. أما النقطة المفصلية في المبادرة الروسية فهي ضمان بقاء القوات الروسية على الأرض السورية إلى حين تطبيق خطة السلام وضمان إستقرار البلاد !

  ليس من الصعب في ظل حالة الفوضى التي تعيشها المنطقة وحالة تزييف الحقائق والتلاعب بالتاريخ أن يتم محو أربعة أعوام من معاناة الشعب السوري، والتخلص من ذكرى أكثر من مليوني فقيد وضِعْف هذا العدد من اللاجئين والمُهجّرين في سبيل أن يمُنّ السيد الرئيس على شعبه ويقبل بالتنحّي عن منصبه في سبيل أمن وإستقرار البلاد !!

  كيف تجرؤ القيادة الروسية على إختزال أربعة أعوام من الثورة السورية، بكل ما فيها من تضحيات جمّة قدّمها الشعب السوري في سبيل نيله لحقوقه الأساسية والمتمثلة بالحرية والتعدّدية الفكريّة والمساواة، وحَصْر كل ذلك في مغادرة الأسد فقط ؟! ليت الأمر توقّف عند هذا الحد، بل إنها تشترط إعفاءه من كل التبعات القانونية على جرائمه، ومنحه الحق في العيش الآمن على أرض البلد التي دمّرها وحرم أهلها من الأمن والأمان !!

 المبادرة الروسية في جوهرها تتعارض مع مواقف روسيا من الأزمة السورية في بدايتها، وتتعارض مع موقف القيادة الروسية ودعمها العلني لنظام الأسد ورفضها السابق لأي مبادرة تتضمن رحيل الأسد فقد أجهضت روسيا "مبادرة جنيف" وجهود المبعوث الدولي والعربي "الأخضر الإبراهيمي" واستخدمت حق النقض الفيتو لحماية نظام الأسد، مما زاد من تعنّت النظام السوري تجاه معارضيه، وكانت تردد دوماً أن الشعب السوري هو من يقرر بقاء الأسد أو رحيله.

من المفيد أيضاً إسترجاع حقيقة أن المعارضة كانت قد وافقت على إعطاء الأسد صلاحيات واسعة لنائبه "فاروق الشرع" لقيادة المرحلة الإنتقالية التي كان من المُفترض أن تشهد إنتخابات حرّة ونزيهة تشارك فيها المعارضة من الداخل والخارج ولكن للأسف فإن هذه المبادرة المُعتدلة والعقلانية لم تجد وقتها إلا آذاناً صمّاء من القيادة الروسية ومن النظام السوري على حد سواء، بل إن "فاروق الشرع" بمجرد أن تم طرح إسمه إختفى عن الساحة ولا يُعلم مكان إقامته لغاية هذه اللحظة.

  يقول الأخضر الإبراهيمي في سياق تسجيل شهادته عن تلك المرحلة أنه عندما التقى الرئيس "بشار الأسد" طلب منه أن يلتقي بفاروق الشرع بصفته نائباً للرئيس أولاً وبصفته صديقاً شخصياً ثانياً، ولكن الرئيس رفض ومنذ ذلك الوقت لم يلتق أحد بفاروق الشرع !

لماذا الحديث الآن عن رحيل الأسد ؟! كما سبق أن ذكرنا أن المبادرة الروسية في ظاهرها تبدو أنها تحقيق لرغبات المعارضة ولكن الحقيقة أن روسيا تريد تشكيل "سوريا جديدة"، تكون فيها الحكومة تابعة للكرملين في حين تكون المًعارضة ناعمة ولطيفة ومقبولة للنظام الروسي، كما أنها تسعى من خلال سوريا إلى إعادة صياغة المنطقة من جديد وتعزيز نفوذها السياسي والعسكري فيها، وربما ترغب أيضاً في تشكيل "شرق أوسط جديد" على الطريقة الروسيّة. ألا يستحق هذا كلّه التضحية بورقة الأسد !



لسان حال القومجيون والشبيحة اليوم في سوريا يقول ( مات الملك؛ عاش الملك ! ) ولا ضير عند هؤلاء في إعادة صياغة مبادئهم بين الحين والآخر بل وتعليل كل تناقضاتهم، فهم الآن يهلّلون للمشروع الروسي في المنطقة، في الوقت الذي أجهضوا فيه الثورة السوريّة بحجّة أنها عميلة للمشروع الإمبريالي في المنطقة، ويعلّلون ذلك بأن روسيا دولة صديقة وحليفة لدول العالم الثالث وأنها لم تكن يوماً دولة إستعمارية. يذكّرني هذا برواية جورج أورويل (1984) حين كان "الحزب" يقوم وبشكل دوري بمحو ذكريات الماضي وإعادة صياغة التاريخ بشكل يتناسب مع مقتضيات المرحلة، فيصبح الإنسان بلا ماضي، ويبقى المستقبل مفتوحاً على كل الإحتمالات !

في النهاية، الكرة الآن في ملعب السوريين أنفسهم، هل ستبلع المُعارضة السوريّة الطُعم وتقبل بهذا الحل خصوصاً مع التعنّت الإيراني في مسألة بقاء الأسد، وهل سيتنازل الشعب السوري عن مطالباته بنيل حقوقه الأساسية بعد كل ما عاناه من مآسي، وكل ما قدّمه من تضحيات، ويكتفي بأن تتغير الوجوه ويبقى الحال كما هو عليه ؟!

أيمن أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
3-11-2015




للتواصل عبر تويتر @ayman_abulaban


الثلاثاء، 27 أكتوبر 2015

حرب العراق الأخيرة، من هنا بدأت الحكاية



   نشرت وزارة الخارجية الأمريكية دفعة جديدة من الرسائل الإلكترونية لبريد وزيرة الخارجية السابقة "هيلاري كلينتون" قبل أيام، ومن ضمن هذه الرسائل التي تم نشرها رسائل تعود الى عام 2002 بين كولن باول وزير الخارجية آنذاك والرئيس جورج بوش تتناول محاضر اجتماعات مع رئيس الوزراء البريطاني توني بلير بهدف التخطيط لغزو العراق. اللافت في الموضوع أن تاريخ الرسائل هو سابق للحرب بنحو عام ما يعتبر دليلاً جديداً على المؤامرة التي اشتركت بها القيادتان الأمريكية والبريطانية بهدف توفير الأجواءالسياسية والظروف الملائمة لغزو العراق وضمان التأييد الشعبي لهذا الغزو.

وتُبرز هذه الرسائل دور توني بلير في هذه المؤامرة واستعداده التام لتهيئة الأجواء السياسية اللازمة في لندن وأوروبا تمهيداً لإعلان الحرب على العراق، بالتوافق مع الخطوات التي تتخذها الإدارة الأمريكية لدق طبول الحرب داخل أمريكا، وهذا ما يفسر الحملة الدعائية الضخمة وتهويل موضوع إمتلاك العراق أسلحة دمار شامل، وصل إلى حد تزوير وتلفيق البراهين والأدلة وانتهى بقرار منفرد لخوض الحرب دون الحصول على موافقة مجلس الأمن نظراً للمعارضة الدولية لتلك الحرب، وهذا وحده (قرار خوض الحرب المنفرد) كفيل بمحاكمة بوش و بلير بتهمة إرتكاب جرائم حرب، لو توافرت الإرادة الدولية لفعل ذلك.

كنا قد تحدثنا في مقال سابق عن مذكرات كولن باول والتي تحدث فيها عن محاولاته لثني الرئيس بوش عن قرار الحرب، ولكنه في النهاية امتثل لأوامره واحترم قراره بصفته رئيساً للولايات المتحدة، وأدّى دور "محامي الشيطان" المطلوب منه على أكمل وجه !

ما زالت المنطقة العربيّة تعاني من آثار حرب العراق الأخيرة، فبعد أكثر من عشرة أعوام على الغزو، يبدو أن وعود إرساء مبادىء الحريّة وترسيخ الديمقراطية على الطريقة الأمريكية قد أصبحت هباءً منثورا، فقد حلّت مكانها العنصريّة والطائفيّة والقتل على الهويّة، وظهر الفساد في البر والبحر، وانقسمت البلاد عرقيّات وطوائف وجماعات، وباتت أقرب من أي وقت مضى للتقسيم الجغرافي الفعلي على الأرض.

 ومن العراق انتشرت الفتنة الطائفية والعنصريّة الى باقي البلاد العربية كالنار في الهشيم، واشتعلت المنطقة بتواجد عدّة تنظيمات مسلّحة بدأت عملها بمقاومة الإحتلال الأمريكي وجنت تعاطفاً كبيراً من الشارع العربي تم تتويجه بإنضمام العديد من الشباب المتحمسين تحت لواء هذه التنظيمات، ثم ما لبثت هذه التنظيمات أن تكاثرت وفرّخت تنظيمات إرهابيّة تتجاوز حدود العراق وتنال من الأبرياء في كل مكان والأنكى من ذلك أن هذه التنظيمات انقسمت على نفسها وأصبحت تتناحر فيما بينها بعد انسحاب القوات الأمريكيّة، وأصبحت البلاد مسرحاً للعمليات الإرهابية والتفجيرات التي تستهدف في الغالب الأسواق الشعبية ودور العبادة.

  ومع التواطؤ الإيراني مع الإدارة الأمريكية لتسهيل غزو العراق وضمان سيطرة الأمريكان على البلاد وبسط نفوذهم، شدّدت إيران قبضتها على العراق، وتمكنت من قيادة البلاد عبر قيادة عراقية مناوئة لها في الشكل والمضمون، مما مكّن إيران من تشكيل تحالف قوي في المنطقة عبر العراق الى سوريا مروراً بلبنان وهذا بدوره أعاد الروح الى الدولة الإيرانية ودفعها للإيمان بحظوظها من جديد في غزو العالم العربي وإستعادة أمجاد الإمبراطورية الفارسية، ومن هنا بدأت الحكاية، حيث بدأت إيران مشروعها التوسعّي بتغذية النزاعات الطائفيّة في دول الخليج، ودعمها للمتمردين الحوثيين في اليمن، ونتيجة لذلك طفت على السطح نذور حرب أهلية-طائفية ليس في العراق وحدها بل في المنطقة جميعها.

  لقد دفع العرب ثمن تخاذلهم في التصدّي للمشروع الأمريكي في المنطقة وغزو القوات الأمريكية والبريطانية للعراق، بل قامت بعض الدول بتقديم الدعم اللوجستي لهذا الغزو، وكانت النتيجة الحتمية لذلك هو ضياع البلاد وإعطاء الفرصة لتعزيز الدور الإيراني في المنطقة، ومع انطلاقة أحداث الربيع العربي وفي ظل تراجع الدور الأمريكي في المنطقة وتعزيز روسيا لدورها في المنطقة، يبدو أن الدول العربية قد أفاقت على كابوس فعلي صنعته لنفسها.

   اللافت في الموضوع، أن وسائل الإعلام الغربية ودوائر صنع القرار في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا، يتحدثون عن قرار الحرب الخاطىء ويتلاومون فيما بينهم، بل إن صناعة السينما أنتجت عدة أفلام تفضح مؤامرة الحرب، وتكشف تواطؤ القيادة السياسية والإستخباراتية، بينما تلتزم كل الدول العربية الصمت تجاه كافة قراراتها الخاطئة في هذه الحرب وغيرها من القرارات الاستراتيجية الخاطئة التي لا تعد ولا تحصى، رغم كل المصائب التي حلت بالعالم العربي نتيجة هذه القرارات الخاطئة او الساذجة على أقل تقدير !!

  أعتقد شخصياً، بأننا إذا نجحنا يوماً في ممارسة بعض الشفافيّة في بلادنا العربيّة، وسُمِح لوسائل الإعلام نشر الرسائل المتبادلة بين وزير الخارجية ورئيس الدولة، وخضع هذا الوزير أو ذاك للمساءلة، يمكننا حينها أن نتوقع مستقبلاً أفضل للمنطقة.

أيمن أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
26-10-2015




للتواصل عبر تويتر @ayman_abulaban


الأربعاء، 14 أكتوبر 2015

عُقدة الفلسطيني !




عندما يُذكر إسم "الفلسطيني" تقفزُ الى الأذهان صورةُ طفلِ الحجارة وهو يتصدّى لمُدرّعة مُصفحة بصدره العاري، أو صورة عجوز تعانق شجرةً في فناء بيتها وترفض أن تتزحزح من مكانها، أو صورة فتاة ملثومة الوجه وفي يدها مقلاع.  صورة الفلسطيني المُقاوم رسخت في أذهان العالم واقترنت بالصمود والثبات على الحق، والمقاومة، وأزاحت جانباً البُعد الإنساني لهذا الشعب، وبالتالي غابت معاناته الإنسانية في حياته اليوميّة عن عيون العالم.





   القليلون من سبروا أغوار هذا المجهول، واخترقوا أعماق الصورة، ليعاينوا عن قُرب المأساة الفلسطينيّة بشقّها الإنساني.

  لو نحّينا جانباً الصورة النمطيّة عن الفلسطيني – مع الإقرار بصعوبة ذلك - وتعمّقنا في نظرتنا لمكنوناته الإنسانيّة، لرأينا أن الفلسطيني عندما يولدُ يرث كل مآسي آبائه وأجداده، فطبقاً لنظرية الموروثات النفسيّة في علم الإجتماع فإننا نأتي الى الحياة ومعنا خزّانٌ مليءٌ بمخاوف وتجارب آبائنا، أفكارهم وسلوكياتهم، الإيجابيّة منها والسلبيّة، وسرعان ما ننصهر معها لنكتسب سلوكيّاتنا الخاصة والتي تُصبح جزءاً من شخصيتنا، تماماً كما نرث الصفات الخلقية، وينطبق علينا المثل القائل ( من شابهَ أباهُ ما ظلم ) والمثل يُطلق على تشابه الأفعال والتصرفات والسلوك أكثر منهُ الشَبَه في الخِلقة. تخيّلوا معي ما يرثه المولود الفلسطيني من مآسي ونكبات، تؤدي إلى إختزال مرحلة الطفولة والدفع به نحو النضوج المُبكّر، ولا عجب أن يتشبّه بشعر عمرو بن كلثوم
 ( إِذَا بَلَـغَ الفِطَـامَ لَنَا صَبِـيٌّ ... تَخِـرُّ لَهُ الجَبَـابِرُ سَاجِديْنَـا )



  يولدُ الفلسطيني وقلبه موجوع بنكبة 48 و نكسة 67 ثم أيلول الأسود وحرب المخيمات، حصار بيروت وتنكيل حزب الكتائب، ثم ما يلبث أن يعرُكَ الحياة ويتعرّف على قسوة الإحتلال فتتولد لديه عقدة " أنت عربي ! " والعربي في دولة الإحتلال مواطنٌ من الدرجة الثالثة أو الرابعة وتحت خط الحيوانات الأليفة بقليل!.

أما إذا كان من فلسطينيي الشتات، فستتولّد لديه عُقدة " أنت فلسطيني ! " والفلسطيني بالطبع ليس من أهل البلد، فالوطن مُستعار، والسماء التي تُظلّه غريبة، والأرض التي تحمله تستعصي عليه، قد تسمح له الظروف بالحصول على جواز سفر وقد لا تسمح، قد يحصل على وثيقة سفر وقد لا يحصل، سيدخل بعض البلدان ويُحرم من دخول البعض الآخر، سيُسمح له بإستئجار منزل او بناء بيت وقد لا يُسمح له، من الممكن أن يعيش حياته في مُخيّم محصور لا يجرؤُ فيه على دقِّ مسمارٍ في جدار لتعليق خارطة وطنه المسلوب، وقد يكون الزمن به رحيماً فيعيش حياة مواطن درجة ثانية، في النهاية لن يطمع بأكثر من ذلك.


عندما يعود الفلسطيني الى التاريخ ويُطالع ما كتبه المؤرخون عن قضيتّه، سيصاب بعُقَدٍ نفسيّةٍ كافية أن تقصم ظهر أحكم الفلاسفة وأكثرهم رُشدا، وسيعيش بقيّة حياته وهو يعاني من فكر نظرية المؤامرة، المتمثل في التآمر الدولي لترسيخ الإحتلال ودعم المشروع الصهيوني. لا بد أنه سيقرأ "بروتوكولات حكماء صهيون" و "أحجار على رقعة الشطرنج" وغيرها من الكتب ويربط كل ذلك بالمؤامرة البريطانية-الدوليّة لتسليم فلسطين لليهود، وما تلاه من تبنّي الإدارة الأمريكيّة للمشروع الصهيوني ومباركته.

   أما على الصعيد العربي، فلا شك أن الفلسطيني سيتماهى مع عقدة يوسف، يوسفُ الذي طَرَحه إخوتهُ أرضاً وأدّعوا موته كي يُعيدوا ترتيبَ أقدارهم على أطلاله، ويستريحوا من عناء التنافس معه على حُب أبيهم.

   ستبقى عقدة تقصير العرب في حل القضية الفلسطينة وفشلهم الذريع في مواجهة العدو الصهيوني سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، ستبقى هذه العقدة في العقل الباطن لكل فلسطيني مهما إدّعى غير ذلك، ومهما حاول أن يتفهّم أو يَعْذُرَ، وستبقى جملة الضابط العراقي المغلوب على أمره (( ماكو أوامر ! )) محفورةً في ذاكرة كل فلسطيني مهما تنقّل في مدن العالم ومهما ازدهرت ظروف معيشته، ولو اختلى بنفسه ذات ليلة لهتف في أعماق ذاته (( القدسُ عروس عروبتكم )).

    ستبقى رسالة المجاهد عبدالقادر الحسيني الى أمين عام جامعة الدول العربية والتي حمّل فيها الدول العربيّة، مسؤولية ضياع البلاد والعباد، محفوظة في ارشيف كل فلسطيني، بين وثائقه المُصفرّة اللون من تأثير أوجاع الزمن، أمّا مفتاح البيت العتيق، فسيبقى معلقاً في سلسلة تُزيّن صدور الأمهات ثم ينقلنه الى صدور بناتهم فيتأرجح بصحبة قلادة تحمل أول حرف من إسم شهيد.


تزداد معاناة الفلسطيني ويشعر بمرارة وغُصّة في الحلق عندما يشاهد رجال الثورة الذين تحوّلوا بقدرة قادر الى نواطير لصالح الإحتلال ومارسوا دورهُ في سرقة الحلم الفلسطيني، بعد أن انتقلوا من مكانهم خلف البنادق الى مقاعدهم الوثيرة خلف المكاتب، وتحت مكيفات الهواء، وأحاطوا أنفسهم ببطانة تفصل بينهم وبين أوجاع المواطنين الغلابة، ثم انقسموا فيما بينهم وتنازعوا على الوطن المسلوب الإرادة !

أنا يوسف العربي، مواطنٌ من الدرجة الثالثة في بلدي المحتل، ومواطنٌ من الدرجة الثانية في بلادٍ شقيقة، يُقلقنني سؤال ( الأخ من وين ؟). في جعبتي خارطةٌ صغيرةٌ عليها علامة تُميّز موقع قريتي التي ضاعت في غياهب التاريخ وحلّ محلّها مُستعمرة برتقال، ورثتُ عن أُمّي ما ورثتهُ هي عن جدّتي، ثوباً فلسطينياً مُطرّزاً ومِفتاحاً عتيقا، وورثت عن أبي عُكّازهُ وحكايا قريتنا، وأصوات خُطب جمال عبدالناصر من مذياع دار المُختار، وورثتُ ما ورثهُ هو عن أبيه، تنكيلَ جنود الإحتلال له بأعقاب البنادق، وخوفه على حياة وعِرْض شقيقاته ورائحة الأرض، تلك التي أفتقدها في مساءاتي ولحظات عشقي.

  أنا بعضُ إنسان، وبعضُ ثائر، أنا عاشقُ الحريّة وسجينُ الفكرة، أنا الباحثُ عن الحقيقة، والتائهُ في صحراء العرب، يهرب ظلّي مني فأستعيضُ عنه بظلّ حنظلة العلي، وأعجز عن الكلام فأستعير أشعار محمود درويش، تحرقني غُربة المُبْعدين وأشارك الأسرى ظُلمة سجنهم، أعشقُ الحياة ولكني لا أجيدُ الرقصَ بين الشهداء، أنا يوسف الفلسطيني المُنقسم على نفسه !


أيمن أبولبن
13-10-2015
كاتب ومُدوّن من الأردن




للتواصل عبر تويتر @ayman_abulaban