الأربعاء، 14 أكتوبر 2015

عُقدة الفلسطيني !




عندما يُذكر إسم "الفلسطيني" تقفزُ الى الأذهان صورةُ طفلِ الحجارة وهو يتصدّى لمُدرّعة مُصفحة بصدره العاري، أو صورة عجوز تعانق شجرةً في فناء بيتها وترفض أن تتزحزح من مكانها، أو صورة فتاة ملثومة الوجه وفي يدها مقلاع.  صورة الفلسطيني المُقاوم رسخت في أذهان العالم واقترنت بالصمود والثبات على الحق، والمقاومة، وأزاحت جانباً البُعد الإنساني لهذا الشعب، وبالتالي غابت معاناته الإنسانية في حياته اليوميّة عن عيون العالم.





   القليلون من سبروا أغوار هذا المجهول، واخترقوا أعماق الصورة، ليعاينوا عن قُرب المأساة الفلسطينيّة بشقّها الإنساني.

  لو نحّينا جانباً الصورة النمطيّة عن الفلسطيني – مع الإقرار بصعوبة ذلك - وتعمّقنا في نظرتنا لمكنوناته الإنسانيّة، لرأينا أن الفلسطيني عندما يولدُ يرث كل مآسي آبائه وأجداده، فطبقاً لنظرية الموروثات النفسيّة في علم الإجتماع فإننا نأتي الى الحياة ومعنا خزّانٌ مليءٌ بمخاوف وتجارب آبائنا، أفكارهم وسلوكياتهم، الإيجابيّة منها والسلبيّة، وسرعان ما ننصهر معها لنكتسب سلوكيّاتنا الخاصة والتي تُصبح جزءاً من شخصيتنا، تماماً كما نرث الصفات الخلقية، وينطبق علينا المثل القائل ( من شابهَ أباهُ ما ظلم ) والمثل يُطلق على تشابه الأفعال والتصرفات والسلوك أكثر منهُ الشَبَه في الخِلقة. تخيّلوا معي ما يرثه المولود الفلسطيني من مآسي ونكبات، تؤدي إلى إختزال مرحلة الطفولة والدفع به نحو النضوج المُبكّر، ولا عجب أن يتشبّه بشعر عمرو بن كلثوم
 ( إِذَا بَلَـغَ الفِطَـامَ لَنَا صَبِـيٌّ ... تَخِـرُّ لَهُ الجَبَـابِرُ سَاجِديْنَـا )



  يولدُ الفلسطيني وقلبه موجوع بنكبة 48 و نكسة 67 ثم أيلول الأسود وحرب المخيمات، حصار بيروت وتنكيل حزب الكتائب، ثم ما يلبث أن يعرُكَ الحياة ويتعرّف على قسوة الإحتلال فتتولد لديه عقدة " أنت عربي ! " والعربي في دولة الإحتلال مواطنٌ من الدرجة الثالثة أو الرابعة وتحت خط الحيوانات الأليفة بقليل!.

أما إذا كان من فلسطينيي الشتات، فستتولّد لديه عُقدة " أنت فلسطيني ! " والفلسطيني بالطبع ليس من أهل البلد، فالوطن مُستعار، والسماء التي تُظلّه غريبة، والأرض التي تحمله تستعصي عليه، قد تسمح له الظروف بالحصول على جواز سفر وقد لا تسمح، قد يحصل على وثيقة سفر وقد لا يحصل، سيدخل بعض البلدان ويُحرم من دخول البعض الآخر، سيُسمح له بإستئجار منزل او بناء بيت وقد لا يُسمح له، من الممكن أن يعيش حياته في مُخيّم محصور لا يجرؤُ فيه على دقِّ مسمارٍ في جدار لتعليق خارطة وطنه المسلوب، وقد يكون الزمن به رحيماً فيعيش حياة مواطن درجة ثانية، في النهاية لن يطمع بأكثر من ذلك.


عندما يعود الفلسطيني الى التاريخ ويُطالع ما كتبه المؤرخون عن قضيتّه، سيصاب بعُقَدٍ نفسيّةٍ كافية أن تقصم ظهر أحكم الفلاسفة وأكثرهم رُشدا، وسيعيش بقيّة حياته وهو يعاني من فكر نظرية المؤامرة، المتمثل في التآمر الدولي لترسيخ الإحتلال ودعم المشروع الصهيوني. لا بد أنه سيقرأ "بروتوكولات حكماء صهيون" و "أحجار على رقعة الشطرنج" وغيرها من الكتب ويربط كل ذلك بالمؤامرة البريطانية-الدوليّة لتسليم فلسطين لليهود، وما تلاه من تبنّي الإدارة الأمريكيّة للمشروع الصهيوني ومباركته.

   أما على الصعيد العربي، فلا شك أن الفلسطيني سيتماهى مع عقدة يوسف، يوسفُ الذي طَرَحه إخوتهُ أرضاً وأدّعوا موته كي يُعيدوا ترتيبَ أقدارهم على أطلاله، ويستريحوا من عناء التنافس معه على حُب أبيهم.

   ستبقى عقدة تقصير العرب في حل القضية الفلسطينة وفشلهم الذريع في مواجهة العدو الصهيوني سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، ستبقى هذه العقدة في العقل الباطن لكل فلسطيني مهما إدّعى غير ذلك، ومهما حاول أن يتفهّم أو يَعْذُرَ، وستبقى جملة الضابط العراقي المغلوب على أمره (( ماكو أوامر ! )) محفورةً في ذاكرة كل فلسطيني مهما تنقّل في مدن العالم ومهما ازدهرت ظروف معيشته، ولو اختلى بنفسه ذات ليلة لهتف في أعماق ذاته (( القدسُ عروس عروبتكم )).

    ستبقى رسالة المجاهد عبدالقادر الحسيني الى أمين عام جامعة الدول العربية والتي حمّل فيها الدول العربيّة، مسؤولية ضياع البلاد والعباد، محفوظة في ارشيف كل فلسطيني، بين وثائقه المُصفرّة اللون من تأثير أوجاع الزمن، أمّا مفتاح البيت العتيق، فسيبقى معلقاً في سلسلة تُزيّن صدور الأمهات ثم ينقلنه الى صدور بناتهم فيتأرجح بصحبة قلادة تحمل أول حرف من إسم شهيد.


تزداد معاناة الفلسطيني ويشعر بمرارة وغُصّة في الحلق عندما يشاهد رجال الثورة الذين تحوّلوا بقدرة قادر الى نواطير لصالح الإحتلال ومارسوا دورهُ في سرقة الحلم الفلسطيني، بعد أن انتقلوا من مكانهم خلف البنادق الى مقاعدهم الوثيرة خلف المكاتب، وتحت مكيفات الهواء، وأحاطوا أنفسهم ببطانة تفصل بينهم وبين أوجاع المواطنين الغلابة، ثم انقسموا فيما بينهم وتنازعوا على الوطن المسلوب الإرادة !

أنا يوسف العربي، مواطنٌ من الدرجة الثالثة في بلدي المحتل، ومواطنٌ من الدرجة الثانية في بلادٍ شقيقة، يُقلقنني سؤال ( الأخ من وين ؟). في جعبتي خارطةٌ صغيرةٌ عليها علامة تُميّز موقع قريتي التي ضاعت في غياهب التاريخ وحلّ محلّها مُستعمرة برتقال، ورثتُ عن أُمّي ما ورثتهُ هي عن جدّتي، ثوباً فلسطينياً مُطرّزاً ومِفتاحاً عتيقا، وورثت عن أبي عُكّازهُ وحكايا قريتنا، وأصوات خُطب جمال عبدالناصر من مذياع دار المُختار، وورثتُ ما ورثهُ هو عن أبيه، تنكيلَ جنود الإحتلال له بأعقاب البنادق، وخوفه على حياة وعِرْض شقيقاته ورائحة الأرض، تلك التي أفتقدها في مساءاتي ولحظات عشقي.

  أنا بعضُ إنسان، وبعضُ ثائر، أنا عاشقُ الحريّة وسجينُ الفكرة، أنا الباحثُ عن الحقيقة، والتائهُ في صحراء العرب، يهرب ظلّي مني فأستعيضُ عنه بظلّ حنظلة العلي، وأعجز عن الكلام فأستعير أشعار محمود درويش، تحرقني غُربة المُبْعدين وأشارك الأسرى ظُلمة سجنهم، أعشقُ الحياة ولكني لا أجيدُ الرقصَ بين الشهداء، أنا يوسف الفلسطيني المُنقسم على نفسه !


أيمن أبولبن
13-10-2015
كاتب ومُدوّن من الأردن




للتواصل عبر تويتر @ayman_abulaban


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق