إحتفل الأمريكان قبل يومين بعيد الشُكر Thanksgiving”"،
والذي يصادف يوم الخميس الأخير من شهر نوفمبر من كل عام، وهي مناسبة يستذكر فيها
المواطن الأمريكي أجداده الإنجليز القُدامى الذين إكتشفوا القارة الأمريكية وسبروا
أغوارها وحرثوا أرضها ونعموا بخيراتها، وإحياءً لمناسبة أول موسم حصاد بعد وصول
الإنجليز الى أراضي أمريكا، تجتمع العائلة الأمريكية في هذا اليوم من كل عام على مائدة
العشاء وتتناول طبقَ الديك الرومي " Turkey bird " الذي يذبحونه قرباناً الى الله
بهذه المناسبة، ولا يبقى مع نهاية هذا اليوم سوى ديك رومي واحد على قيد الحياة يتم
تقديمه للرئيس الأمريكي الذي يعفو عنه ويُبقي على حياته.
كان المُكتشفون الأوائل للقارة الأمريكية
يُسمّون "الحُجّاج" فقد كانوا يعتبرون هذا العالم الجديد بديلاً عن أورشليم
والأرض المُمقدّسة لذلك أسموه بادىء الأمر "بلاد كنعان"، ومن هنا جاء الجانب الديني لهذه
المناسبة وهو شكرهم لله على نجاتهم من ظُلم "فرعون بريطانيا" ونجاتهم من رحلة التيه في البحر ثم
وصولهم إلى "أرض الميعاد".
لقد علّمتنا الحياة أن التاريخ يكتبه المنتصرون، وأن لكل رواية أو حكاية،
هناك قصة لم تُروَ، تُمثّل وجهة نظر الضحية، وعادةً ما تكون هذه الرواية هي الجانب
المُظلم الذي يحاول المنتصر اخفاءه، فما هي حقيقة "عيد الشكر" لو قُدّرَ للضحية أن تروي قصتها، والضحية
هنا، هو بالتأكيد ذلك الرجل الهندي مالك الأرض الأصيل، الذي تم إجلاؤه وتصفيته والتضحية
بسلالته كي ينعم الرجل الأبيض القادم من رواء البحار، بخيرات هذه القارة.
لقد وصل
"الحُجّاج" بادىء الأمر الى مدينة بليموث
في ولاية ماساتشوستس، حيث أنقذهم الهنود من الموت جوعاً وأولموا لهم، وهذه
الوليمة أصبحت فيما بعد "عيد الشُكر" في حين أن الهنود كانوا يحتفلون بها قديماً بمناسبة بدىء موسم
الحصاد، لقد قام الهنود الأوائل بتعليم "الحُجّاج"
زراعة الذرة والحبوب، ومهارات صيد السمك وكيفية تسميد الأرض، حيث لم يكن
لدى هؤلاء الغزاة أدنى فكرة عن الزراعة وفلاحة الأرض أو إستخراج خيراتها، بل أن
عدداً لا بأس به منهم قد مات بعد وصولهم الى القارة الأمريكية نتيجة الجوع، ولم
ينقذهم سوى مساعدة أصحاب الأرض الأصليين، الذين مدّوا للمستوطنين يد المساعدة
وشاركوهم أرضهم وخيراتهم الطبيعية، فماذا كانت النتيجة سوى عضّ اليد التي قدمت لهم
العون، وإبادة أصحاب الأرض عن بكرة أبيهم !!
عندما
تبحث في أوراق التاريخ، ستصاب بالذهول حين تعلم أن الهنود كان تعدادهم 18 مليوناً تقلّصوا
جراء الإجتياح الأوروبي والبريطاني الى رُبع مليون فقط، لقد أصبحوا أثراً بعد عين بعد
إستخدام جميع أنواع الإبادات الجماعية التي تخطر على عقول البشر ، وعلى سبيل
المثال لا الحصر: الإبادة الجرثومية ونشر الأمراض، إقتلاع الأشجار، حرق البيوت والأراضي
وقطعان الماشية،القضاء على سكان بعض القرى بالكامل وتهجير البعض الآخر إلى مناطق بعيدة قاسية المناخ، أو حبسهم
في معتقلات لا تتوافر فيها أدنى شروط المعيشة الإنسانية وتعرضهم للتصفية الجسدية
المُمنهجة.
من سخرية القدر ومن المُضحك المُبكي، أن يتم
تصوير أمريكا على أنها " بلد الهجرة والأمل وتعدد الأعراق والمعتقدات والحرية
والدستور وميثاق حقوق الإنسان" وأن تصبح الهجرة الى أمريكا أقصى أحلام هذا
الجيل، متناسين أن هذا الغزو هو الأصل لكل تاريخ أمريكا، وأن تاريخ أمريكا يعيد
نفسه، من جرائم الحرب في هيروشيما وناغازاكي الى عملية العنقاء في حرب فيتنام عام
67 (قام الجنود الأمريكان بقطع رؤوس عشرين ألف من الفيتكونغ المعتقلين)،مروراً بجرائم
الحرب في العراق وسجن أبو غريب، إلى آخر القائمة التي تقطر دماً.
لقد وصل بهم الأمر الى شن حملة " تذويب ثقافي" لطمس كل ملامح "الهنديّة" من الهنود، بل إنهم حاولوا "عَقر" النساء الهنديات في سبعينات القرن الماضي
وقد نجحوا في الوصول الى ما يقارب 40% من النساء قبل ان يتم إكتشاف هذا البرنامج
وتوقيفه بعد التستر على القائمين عليه كالعادة.وما تسمية الأشياء بمُسميّات هنديّة مثل "توما هوك" أو "تشيروكي" إلا تعبيرٌ لا إراديّ عن عقدةٍ دفينةٍ
لديهم تطاردهم، وستستمر في ملاحقتهم عبر العصور مُتنقلةً من جيلٍ إلى جيل،
لقد تصور الأمريكان، أنهم في حلٍ أخلاقي وإنساني
من جرائمهم لمجرد اختلاف الخصم بثقافته، لقد أعتبروا الآخر متوحشاً ويجب التضحية به كي تستمر الحضارة
الراقية وتنتشر في العالم، لقد أسقطوا على خصومهم على مرّ الزمان، أسوأ خصالهم هُم،
ونعتوهم بأنهم أرهابيون يجب إبادتهم حتى تسلم البشرية والحضارة العالمية من
وبائهم، وهذا هو ديدنهم منذ نشأتهم وحتى الآن، إن تكرار هذه الجرائم البشعة لم يكن
عبثياً بل هو ضرورة من ضرورات إستمرارية ما يُسمّى بالحُلم الأمريكي.
أختم مقالي بكلمات كتبها أحد أحفاد الهنود بمناسبة عيد
الشكر عام 1970 في مدينة بليموث، وتم منعه من القاء كلمته بعد عرضها على لجنة
الإحتفال:
((هذا يومُ عيدٍ لكم وحدكم، إنه ليس عيدي، انني
أنظر إلى ما حدث لشعبي بقلبٍ مُنفطر، فبعد يومين أو ثلاثة من وصول الحُجّاج ، بدأوا بسرقة قبور أجدادي، ونهب ما لديهم من
ذرة وقمح وحبوب، لقد شاهد قائد شعبي ما فعله الحُجّاج ، ومع ذلك فإنه هو وشعبه رحبوا بالمستوطنين
وأبدوا لهم خالص الود، لم يكن يعلم أن الحُجّاج بعد أقل من خمسين سنة سوف يبيدون الشعوب
الهندية وسوف يقتلونهم بالبنادق أو بالأمراض...... إنني حزين وهذا ليس عيدي))
أيمن أبولبن
29-11-2014