الجمعة، 31 يناير 2014

الجرح الفلسطيني الغائر، من تل الزعتر الى مخيم اليرموك


     لا شك بأن الفصائل الفلسطينية أخطأت عندما وقعت في فخ استدراجها للوقوع في المستنقع السوري، كان عليها أن تنأى بنفسها عن الخوض في هذه النزالات دفاعاً عن النظام أو حتى دفاعاً عن الثورة السوريّة، ولا شك أيضاُ بأن قيادات هذه الفصائل "السياسية" تتحمّل جزءاً من المسؤولية تجاه ما يحصل للاجئين الفلسطينيين في سوريا، حيث كان عليهم أن يدركوا أن أي موقف سياسي يتخذونه سواءً مع أو ضد النظام، سينعكس على أهل المخيمات، ولكن المسؤولية الأولى وتبعيّة ما يحصل حالياً من قتل وتجويع وحصار، يقع على عاتق الحكومة السورية والنظام السياسي في البلد ، ولا أقصد هنا المسؤولية الأخلاقية فقط، بل المسؤولية المدنيّة والجنائية والدولية ، حسب الأعراف والمواثيق المتفق عليها، ولوائح حقوق الانسان، فأي دولة في العالم مسؤولة بأن تحافظ على حياة الانسان على أراضيها، وكرامته وكرامة عيشه ، ضد أي اعتداء ، سواءً من الأجهزة الحكومية والرسمية، أو حتى من الجهات الخارجية المتواجدة على أراضيها.

   النظام السوري على مدار العقود الماضية استغل ضيافة الفصائل الفلسطينية على أرضه للضغط على أبو عمار ومنظمة التحرير لتبني رؤيا النظام السوري الخاصة في المنطقة، وللاحتفاظ ببعض الأوراق السياسية المهمة، كي يبقى لاعباً مهماً ورقماً صعباً في أي حوار أو حل مستقبلي في المنطقة، واستطاع اقناع هذه الفصائل أن منظمة التحرير قد تخلت عن ثوابت القضية وعن مبادىء الثورة الفلسطينية، ولكنه في نفس الوقت احتوى هذه الفصائل ومنعها من القيام بأي عملية عسكرية أو أية مناوشات من أراضيه، تطبيقاً لشعاره "المقاومة والممانعة عن بُعد " ، وعندما تخلت عنه هذه الفصائل أو بعضها ، لم يعد للقضية الفلسطينية ولا حتى للانسان الفلسطيني لديه أي أهمية، وبدأ رحلة انتقام شرسة، تماماً كما فعل في تل الزعتر من قبل. وقد قالها مسؤولو النظام علناً أن بعض الفصائل الفلسطينية ناكرة للجميل، وأن هذه الفصائل -ومن ينتمي اليها- قد عضت اليد التي مُدّت لها.

   النظام السوري يستخدم اليوم ذات الأعذار القبيحة، التي أستخدمتها الأنظمة القمعية والاستعمارية في المنطقة من قبل، ويتذرع بوجود مُسلّحين داخل مخيم اليرموك، في محاولة لتحميل المسؤولية لهم ولأهالي المخيم فيما يحصل من حصار وقتل وتجويع، ولكن الحقيقة أن النظام السوري يقوم بفرض عقاب جماعي على كل قاطني المخيم، لأن أحداً منهم تجرأ على الوقوف ضده، وهذا ليس مستغرباً من نظام فاشي، عاقب أبناء شعبه ونكّل بهم لا لشيء، سوى أنهم طالبوا ب"شويّة كرامة" ، والأنكى من ذلك أن السلطة الفلسطينية، لم تكتف بالتخلي عن كل مسؤولياتها أمام اللاجئين الفلسطينيين بل كررت نفس الاسطوانة المشروخة وأتهمت الفصائل الفلسطينية على لسان رئيس السلطة بالخيانة والعمالة ؟! ممثلو السلطة الفلسطينية يأتون الى دمشق لزيارة الأسد وأعوانه والشد من أزرهم ، بدلاً من التوجه الى المخيم لنجدته.

      لا أدري كيف يقوم بعض المثقفين وأبواق النظام السوري بالترويج لهذه الشعارات والترهات الفارغة، وينسون أن النظام نفسه ارتكب الخطيئة الكبرى (في بداية الحراك الشعبي ) عندما أغمض عينيه عن كل الحقائق ، وأغلق آذانه عن كل النصائح بل والاستجداءات بأن يأخذ المطالب الشعبية مأخذ الجد ، ويتبنى مشروع اصلاح حقيقي "سياسي" بدلاً من تبني الخيار العسكري, ولولا هذه الخطيئة لما وصلت البلاد الى ما وصلت اليه اليوم.

   مأساة مخيم اليرموك أسقطت ورقة التوت عن النظام السوري، الذي لم يكتف بمحاصرة المخيم ، وتَرْكِ أهله يصارعون الموت جوعاً ، بل أمطر المخيم بوابل من البراميل المتفجرة ، ونَشَر قنّاصته على مداخل ومخارج المخيم ، لاشباع غريزة القتل لديهم عبر استهداف كل من يحاول الخروج من جحيم المأساة التي يعيشها . ما يحدث حالياً في مخيم اليرموك، يرقى الى مستوى الفصل العنصري، والابادة الجماعية، وجرائم الحرب وقتل المدنيين، وعلينا جميعاً تقع مسؤولية توثيق هذه الجرائم ، ومطالبة المؤسسات الدولية ومنظمات حقوق الانسان ، بالقيام بواجبها ليس فقط في وضع حد لهذه الجرائم بل بالقصاص من جميع المسؤولين "السوريين وغيرهم" المتورطين في الجرائم المرتكبة بحق الشعب السوري عامةً واللاجئين الفلسطينيين في المخيمات.

  مخيم اليرموك، عرّانا أمام أنفسنا، أصبحنا نستحي من وجوهنا حين ننظر الى المرآة، مأساة مخيم اليرموك حركت شعور العجر والنقص فينا، فطفت على السطح وأصبحت بادية للعيان على ملامحنا، صور الضحايا وهم يحتضرون جوعاً أيقظت في داخلنا عقدة الضحية، وأعادت الى الأذهان مأساة النكبة فالنكسة ، و ذكريات مخيمات برج البراجنة وصبرا وشاتيلا !!!

  من العار علينا كشعوب أن لا نملك سوى الصوت والقلم والدعاء، فهل هذا يكفي لمواجهة أبشع الأنظمة، وأبشع المؤامرات في هذا الزمن الرديء ؟! من العار على حكامنا العرب، أنهم عجزوا عن ايجاد حل عربي للقضية السورية على مدار 3 سنوات، بل انهم زادوا الطين بلّة عندما تخلوا عن مسؤولياتهم واكتفوا بتمويل كل من يرغب في القتال، اعتقاداً منهم أنه أيسر وأقصر الحلول. 

أستذكر في هذا المقام قصيدة د. غازي القصيبي رحمه الله ، عندما خاطب مخترع "الفياغرا" قائلاً :

ياسيدي المخترع العظيم 
يامن صنعت بلسماً 
قضى على مواجع الكهولة 
وأيقظ الفحولة
أما لديك بلسم 
يعيد في أمتنا الرجولة؟
أيمن أبولبن
20-1-2014

موقع المقال في جريدة القدس العربي
Ayman_abulaban@yahoo.com

الاثنين، 27 يناير 2014

بعض الناس "خطايا فادحة"






      "المُجرمون مصيرهم الى النار"، قال خطيبُ المسجد ذات مرة، كنت ولداً صغيراً قد بدأٌ للتو حضور خطبة الجمعة بصحبة أولاد الحي. لم يكن مصطلح "المُجرم" من المفردات الدارجة ضمن قاموس لغتي الخاصة، كانت العبارة مُبهمة بالنسبة لي !! "بعد الموت، إما جنة و إما نار"، قال الشيخ ابراهيم مُدرسُّ اللّغة الانجليزية في مدرستي الابتدائية، كان شخصيةً محبوبةً عند الطلاب، يدُرّسُ اللغة الانجليزيّة ولكنه شيخٌ وداعية في الأساس، أسلوبه لطيف ومُحبّب في التدريس، ولكن مواعظه كانت حادّةً في بعض الأحيان.

      كنت صغيراً غضاً، ولمّا تعتركني الحياةٌ بعد، لأدركَ أن هناك ظلماً وجرائم في هذه الدنيا يستحق فاعلُها مصير النار، لم أكن أتخيل أن أحد هؤلاء البشر الذين أعرفهم واتعامل معهم قد يدخل النار !! كنت أنظر حولي كلما سمعتُ  مثل هذه العبارات، وأتمعّنُ في الأشخاص الذين يحيطون بي، وأدعو ببراءة الأطفال لهم جميعاً بأن لا يكونوا من أصحاب النار، ألتمس لهم العذر ان قصّروا في أدائهم لواجباتهم الدينية، وأقول في داخلي طالما أنهم يؤمنون بالله فلا خوفٌ عليهم، لأن الله غفورٌ رحيم.

   كنت اتمنى السلامةَ للجميع، للقريب وللبعيد، بما فيهم أولئك "الأولادُ المشاغبون" ولو أساؤوا التصرف معي. كنتُ أفكرُ مليّا عند سماعي لخبر وفاة أحد الأقارب أوالمعارف؛ تُرى كيف سيكون مصيره وكيف سيلاقي ربه؟! أفكر مليّاً وأدعو له بالرحمة.

   مرّت الأعوامُ؛ دخلتُ المرحلة الاعداديّة، وأطل علينا صيفُ عام 82، حاملاً معه أخبار الاجتياح الاسرائيلي للبنان، بهدف التخلص من براثن المقاومة الفلسطينية، استعرت الحربُ وزادَ البطشُ الاسرائيلي، المدينةُ تسقطُ تلو المدينة، المخيمات تحاصرُ وتُدكّ بالقذائف، وصل الزحف الى بيروت، بيروت تحت الحصار والقصف، اسرائيل تستخدم أسلحةً مُحرّمة دولياً، الأبرياءُ والمدنيون يُقتلون أو يشرّدون، رائحة الدم  تنتشر في المكان، لا استثناءات للقتل، الاذاعاتُ تنقلُ الجرائمَ أولاً بأول، كأنها قصةٌ روائيةٌ طويلةٌ في عالم افتراضي !!

 وزاد الطين بلّة عندما انضوت بعض الميليشيات العميلة تحت لواء الجيش الاسرائيلي، وأنبرت لتصفية الفلسطينيين في المخيمات تحت حماية الجيش الاسرائيلي، كانت الميليشيات تتعمّدُ استهدافَ النساء الحوامل، والأجنّة في بطون أمهاتهم ، انها حرب "بَقْر البطون"، مصطلحٌ جديدٌ يضاف الى قاموس لغتي !!







   بدأت أدركُ مدى الفظائع التي يُمكنُ أن يفعلها الانسان في حق أخيه الانسان. وبعد أن وضعت الحربُ أوزارها، قرأتُ ديوان محمود درويش "مديح الظل العالي" الذي يؤرخُ فيه مآسي هذه الحرب، أذكر مطلع القصيدة جيداَ :
                                



بحرٌ لأيلولَ الجديدِ

خريفُنا يدنو من الأبوابِ

 آه ، خريفنا يدنو من الأبواب، وربيع عمري لم يبدأ بعد !! لم يكن عقلي أو حتى خيالي يتصورُ أن تقع كل هذه الفظائع والمآسي في يوم من الأيام، وها هي تحدثُ على مرأى ومسمع الجميع،  ولكن لا حياةَ لمن تُنادي، كان عليّ أن أتعود على شعور الضحيّة هذا، لأنه سيلازمني طويلاً !

   برز حينها اسم "ارييل شارون" وزير الدفاع الاسرائيلي، "السفّاح" ، عرّاب حرب لبنان، والمُنسّق العام لكافة الفظائع والجرائم التي شهدتها هذه الحرب. أصبحت هذه الشخصية بالنسبة لي رمزاً للاجرام والشر، أصبح الأنموذج الذي أقيس به فظاعةَ الآخرين وقُبحهم، حتى أن أسمه قد أشتُقّ من كلمة "الشر". كلما أقترب شخصٌ ما من بشاعة شارون، كلما أدركتُ سوادَ قلب هذا الشخص، وقُربه من المصير الذي حذّرنا منه خطيب الجمعة ذات مرة.





   لاحقاً قمتُ بالبحث عن تاريخ شارون لأجد أنه مجرمُ حرب باقتدار غير مسبوق، فمن "قبية" مروراً بحرب أكتوبر وقتل الأسرى في سيناء، الى صبرا وشاتيلا. لم يرفّ لهذا المُجرم جفن، وكأنه يُقرّبُ قرباناً الى الآلهة كي ترضى عنه وعن شعبه، كان يقوم بكل هذه الأفعال وهو يظن في داخله أنه يعملُ عملاَ وطن
ياً يستحق عليه أن ينال الأوسمة !! قال له رؤساؤه عندما كان ضابطاً صغيراً : " لا تُرهق نفسك بالقراءة، فأنت لا تنفع الا للقتل" !!


  
رويداً رويداً بدأتُ أدركُ أن النار مصيرٌ حتميّ لكثير منا، وأنها جزاءٌ طبيعي لأفعال كثير من الناس، تماماَ كضرورة الجنة والنعيم للأبرياء والمظلومين.

   ومرت السنين، وكنتُ شاهداَ مرة أخرى على جرائم متتالية موقعّة باسم شارون؛ قمع انتفاضة الأقصى التي دججها هو بنفسه، وما تضمنها من مجازر بحق الشعب الفلسطيني، وعلى رأسها مجزرة "جنين"، وانتهاءَ بآخر جرائمه "على ما أذكر" اغتيال الشيخ أحمد ياسين، بعد الافراج عنه والتعهد بعدم استهدافه، ولكن لا عهد مع اسرائيل، كما يعترفُ شارون نفسه. كانت صور اغتيال الشيخ ياسين قاسية للغاية، شيخٌ مُقعَد يتم استهدافه وهو خارجٌ من المسجد بعد صلاة الفجر، بصاروخ جو أرض من طائرة هليوكبتر مقاتلة، لكم أن تتخيلوا المشهد !!

  "بعض الناس خطايا فادحة"، قال مظفر النواب في احدى قصائده، للوهلة الأولى، لم أستطع أن أهضم هذه العبارة القاسية، رأيت فيها خروجاً عن سياق الانسانيّة، واصرارٌ على  جلد الذات البشريّة. ولكني أصبحتُ اليوم "وللأسف" أدركُ أكثر من أي وقت مضى، أن بعض الناس خطايا فادحة في حق البشرية!!

قبل أيام قليلة، استرجعتُ وبشكل عفوي، هذه العبارة، بمجرد سماعي خبر وفاة ارييل شارون.

ارييل شارون الى جهنم وبئس المصير.




أيمن أبولبن
14-1-2014


 

السبت، 18 يناير 2014

الفن وأشياء أخرى

الفن وأشياء أخرى

   قديماً، كان الفن وسيلة للرقي بالمجتمعات ، كان للفن رسالة ذات قيمة. كان الفنان يعمل جاهداً لايصال رسالته الى الجمهور من خلال أعماله الفنية، سواءً من على خشبة المسرح او من خلال شاشات السينما او من خلال الموسيقى أو عبر لوحة فنية او كلمات تحتضنها قصيدة شعرية، وفي المقابل كان المُتَلقّي يشعر بأن الفن  ينقله من حياته الضيّقة الى أفق واسع لا حدود له، سوى حدود خياله هو، كلما توغل المُتَلقّي عميقاً في خياله وأطلق العنان لأفكاره ومشاعره، كلما استطاع أن يبلغ مدىً أوسع وأعمق من التأملات، والوصول الى حالة سامية من نشوة العقل والروح، هذه الحالة من السمو لا تتحقق الا اذا تلاقى الفنان مع المُتَلقّي من خلال فن راق وجميل، كما تلتقي الأرض مع السماء في يوم شتاء دافىء، لتُعانق أمطار الخير حبّات التراب، ويرتسم قوس قزح في الأفق، في لوحة فنية خلاّبة.

  الفن الجميل هو رسالةٌ تحمل فكرة ما، يرسلها الفنان ويتلقاها المستمع أو المشاهد، وكلما ارتقى الفنان بفنه وبرسالته، كلما ارتقى المجتمع، والعكس صحيح، فكلما تردّى الفن تردّت المجتمعات وانحدر المستوى الثقافي العام فيها. وما الفنون الا واجهة او انعكاس حقيقي لثقافات الشعوب، من موسيقى وأدب وفنون سينمائية ومسرحية .... الخ

  أذكر أني كنت في ندوة شعرية للشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش، ومنذ اللحظة الأولى التي اعتلى فيها خشبة المسرح، وخيّم السكون فيها على المكان، وبدأت الكلمات والصور الشعرية تنساب من بين شفتيه، وتنتشر في أرجاء المسرح، انتقلتُ لحظتها من حدود المكان والزمان وسافرتُ بعيداً الى "اللامكان" .  حالة النشوة هذه وصلت الى قمتها مع اختتام الندوة والقائه قصيدته الشهيرة "الجدارية"

هذا البحرُ لي
هذا الهواءُ الرَّطْبُ لي
هذا الرصيفُ وما عَلَيْهِ
من خُطَايَ ِ … لي
ومحطَّةُ الباصِ القديمةُ لي . ولي
شَبَحي وصاحبُهُ . وآنيةُ النحاس
وآيةُ الكرسيّ ، والمفتاحُ لي
والبابُ والحُرَّاسُ والأجراسُ لي



 غادرتُ الندوة، وانتقلت بجسدي الى خارج القاعة وتوجهت عائداً الى المنزل، ولكن شيئاً ما في داخلي كان ما زال عالقاً هناك في "اللامكان". أحسست باضطراب ولم أستطع أن أخرج من حالة النشوة هذه، وأمضيت بقية الليل شارد
 الذهن، تائهاً بين المكان واللامكان .

   الحقيقة انه عند بداية متابتعتي للشعر وللفن التشكيلي في صغري، كنت أجد صعوبة في استيعاب المعنى المختبىء بين السطور، أو استنباط جمالية الصور الشعرية ومراد الشاعر، وكان هذا دافعاً بالنسبة لي الى مزيد من القراءة والبحث والسؤال، أما الفن التشكيلي فكان لغزاً مُحيّراً بالنسبة لي، لم أدرك جماليته، الا بعد دخول أخي لكلية الفنون الجميلة، حيث ساعدني ذلك في التعرف على أساسيات الفن التشكيلي و تذوق هذا النوع من الفنون. ما أريد قوله أن هناك حاجة الى أن نرقى بانفسنا كي نستوعب مختلف أنواع الفنون، ونتحاور معها داخلياً، فتؤثر فينا، ونؤثر فيها، وهذا هو المقصد الرئيسي من الفن "من وجهة نظري".

   فما بال حال الفن في أيامنا هذه ؟! لم يعد الفنان يسعى للرُقيّ بالمُتَلقّي، بل أصبح همّهُ الوصول الى المُتَلقّي بأسهل وأسرع الطرق، لجمع أكبر عدد ممكن من المعجبين والمتابعين. ضاعت الرسالة وضاعت القيم الجميلة للفن، الا من فئة قليلة ومحدودة من الفنانين المُلتزمين. أصبح الهم الوحيد للفنان هو "النزول" بفنه الى مستوى عامة الناس كي يضمن أكبر عدد من المشاهدات والمتابعات واللايكات على صفحات التواصل الاجتماعي. أصبح شعار الفنان هذه الأيام للأسف "بَسّط حياتك وخليك كوول" !!
   الفن في أيامنا هذه أصبح يجاري الموضة، فهو فن خفيف أو "دايت" خوفاً من أن يُثقلَ على الجمهور، قهوة بدون كافيين ان جاز التعبير، أو وجبة خفيفة خالية من "الدسم"، أغاني أيام الزمن الجميل كانت تداعب عقولنا قبل أن تداعب قلوبنا ومشاعرنا، أما أغاني هذه الأيام فهي تداعب خصورنا وأقدامنا ، وقس على ذلك باقي الفنون !!

   حتى ان لغة المذيعين ولغة الحوارات الاعلاميّة، أقتربت من اللغة العامية الدارجة، وقليلةٌ جداً تلك البرامج الحواريّة التي تستدعي منك أن تُشنّفَ آذانك أو أن تتسمّرَ في مكانك خوفاً من ان تضيع منك كلمة في الزحام أو تغفل عن مصطلح ما أستخدمه المحاور، أو تعبير مجازي أستخدمه الضيف.

  نحن نعيش في مجتمعات وصل فيها الفساد الى منابت الفن، واذا أردنا ان نرتقي بمجتمعاتنا وبثقافاتنا من جديد، علينا أن نبدأ رحلة عكسيّةَ هذه المرة، علينا جميعا أن نحارب الفن الهابط والفاسد، علينا أن نمتنع عن المتابعة والترويج لكل أنواع الفن الهابط،علينا ان نشجّع ونهتم بالمسرح الجاد ومهرجانات المسرح التي تنظمها النقابات الفنية، علينا أن نعيد الاهتمام الى المسرح الجامعي، وبالحركات الثقافية داخل الجامعات، علينا الاهتمام بالمواهب الشابة المُثقفة والتي تحمل رؤية ثقافية بعيدة عن الفن التجاري،علينا ان نهتم بالقراءة ومتابعة المهرجانات الثقافية ومعارض الكتب، باختصار علينا ان نوصل رسالة للقائمين على الفنون في مجتمعاتنا نقول فيها احترموا عقولنا، وقدموا لنا فنّاً يرقى بنا لا فنّاً ينحدر بكم وبنا .   
 

أيمن أبولبن
10-1-2014
ayman_abulaban@yahoo.com

فيديو يوضح تدهور الأغاني العاطفية 


الاثنين، 6 يناير 2014

مفهوم المسؤولية "بالعربي"


مفهوم المسؤولية "بالعربي"

   في علم الادارة يوجد عدة تصنيفات للمدراء، فهناك مدير يستمد القوة من المنصب الذي يشغله والصلاحيات الممنوحة له، دون  أن تتوافر لديه المهارات اﻻدارية اللازمة للنجاح، وهناك بعض المدراء المتميزين ولكنهم يفتقدون للكاريزما ولصفات القائد ، وهؤلاء يفرضون الأوامر فرضاً ويلوّحون بالعصا والجزرة (سياسة الثواب والعقاب) لتنفيذ برامجهم. أما المدير الناجح فهو من يستطيع أن يجمع بين صفات القائد المُلهم والالمام بكافة الجوانب الفنيّة والمعلوماتيّة ضمن نطاق مسؤولياته، بالاضافة الى الالتزام ،وهذه الوصفة تُعرف ب Lead By Example .

  محدودة هذه الفئة من المدراء الى أبعد مدى ، ولذلك نجد العلاقة شائكة بين الموظفين والمدراء وتبدو خالية من الكيمياء الجاذبة ، وعلى اﻷغلب يشعر الموظفون بفجوة بينهم وبين مسؤوليهم ويظهر هذا واضحاً في الشكوى والتذمر الدائمين للموظفين بشكل عام .

   في حياتنا اليومية، وخارج النطاق المهني ، نحن نعمل تحت ادارة مدراء أيضاً ولكن من نوع آخر فهؤﻻء يديرون  شؤون حياتنا ويقودون مجتمعاتنا ومؤسسات الدولة، انهم القادة السياسيون والمسؤولون الرسميون ، وهم يمارسون الادارة ولكن بمفهوم أشمل وأعم .

   في دول العالم المتقدمة، نجد أن معظم الذين يتولون المناصب العامة بشكل أو بآخر هم خبراء في مجالهم، والأهم من ذلك أنهم يتحلّون بروح المسؤولية ويتخذون من مناصبهم وسيلة لتحقيق أهداف مجتمعاتهم والرُقي ببلادهم وهو ما يجعلهم محط احترام وتقدير الناس والمجتمع . لذلك نجد أن أي مسؤول يشغل منصباُ عاماً في هذه الدول ، يكون لديه أهدافاً واضحةً ومحددة ، وخارطة طريق لتحقيق هذه الأهداف خلال فترة زمنية محددة ومعروفة، ويتم الحُكم على هؤلاء المسؤولين بمقدار نجاحهم في تطبيق الخطة الموضوعة والوصول الى الأهداف المرجوّة منهم.

   بناءً على هذه المُعطيات، من الطبيعي أن نسمع في نشرات الأخبار اليومية عن استقالة مسؤول رفيع من منصبه "طوعاً" لعدم تمكنه من ادارة أزمة ألمّت بالبلاد، أو أن رئيس وزراء بلد ما دعى الى انتخابات مُبكّرة لانخفاض شعبيّة حكومته، أو أن مسؤولاً "طلّق" الحياة السياسية وآثر الانزواء الى حياته الخاصة بعد أن ثارت حوله شبهات فساد مالي أو اداري. في بعض الثقافات قد لا يكون الفشل مقبولاً في أي حال من الأحوال، ففي اليابان على سبيل المثال يكون الانتحار هو الخيار الأنسب بدﻻً من تحمل "عار" الفشل أو الفساد والرشوة.

  أما في بلادنا العربية فمفهوم المسؤولية مختلف تماماً ، فنحن العرب لنا خصوصية في كافة مفاهيمنا كما تعلمون، فنحن ننظر إلى المسؤولية والمنصب  من باب الجاه والوجاهة و المنافع التي تجلبها لنا ، بالاضافة الى العوائد المالية والصلاحيات والتسهيلات التي توفرها  . فالسياسات العامة لمجتمعاتنا غائبة والشفافيّة مفقودة.

   المسؤولية عندنا تعني أن يكون لديك القدرة على تجاوز القانون والحصول على منافع شخصية " بحماية القانون" ، أما نجاح المسؤول فيُقاس بمدى النجاح في استغلال المنصب والخروج غانماُ سالماً معافى !!! الا من رحم ربي .
 
   الغريب أنه اذا انخفضت شعبية مسؤول ما، ارتفعت أسهمه في "سوق المناصب" وارتقى عالياً في سلّم المناصب العليا، وكلما ثارت حوله شبهات فساد اذا به يتوسّع في الصلاحيات والنفوذ، وبمجرّد دخوله الى عضوية نادي المسؤولين فليس من الوارد مغادرته طالما بقي على قيد الحياة !! الفجوة بين المواطن والمسؤول أصبحت عظيمة جداً ﻻ تقارن بالتوتر والحساسية التي تشهده علاقة الموظف بمديره ويمكن تصور مدى اتساع هذه الفجوة من خلال الحملات الشعبية للمواطنين الغلابة  والتي تحمل شعارات تعكس نظرة المواطن للمسؤول، وآخر هذه الحملات تحمل شعار لماذا يكرهوننا ؟!

      لم يكن من المُستغرب اذاً أن تشهد بلادنا موجات متلاحقة من الثورات العربية في السنوات الأخيرة، بالنظر الى أحوال المسؤولين في بلادنا، ولكنه بالتأكيد من سابع المستحيلات ان تشهد دولة مثل اليابان أو سويسرا، أو السويد مثلاً ثورات مُشابهة، حتى ولو بفعل مؤامرة كونية حقيقية !!
 
 يراودني حُلمٌ بين الحين والآخر، أن مسؤولاً في بلادنا استقال من منصبه لعدم تحقيقه الأهداف المأمولة منه ، أو أن مسؤولاً عقد مؤتمراً صحافياً أعلن فيه أنه مُصابٌ بمرض عضال يمنعه من مزاولة مهنته ، أو أن أحد المسؤولين رمى بنفسه من سطح أحد البنايات الشاهقة لثبوت تعاطيه رشوة ولتورطه في قضايا فساد عامة ، لا أدري أن كان حلماً قابلاً للتطبيق ؟!

   قرأت ذات يوم مقولة منسوبة إلى  هتلر يقول فيها " لا توجد أعذار، اذا كنت ناجحاً فلست بحاجة الى أعذار، أما اذا فشلت فالأفضل أن لا تكون موجوداً كي لا تختلق الأعذار"  عندما ما سقطت برلين انتحر هتلر ومعه ثُلّة من قادة الجيش وعائلاتهم ، هرباً من الفشل ومواجهة مصير الخاسر، وعندما ألقى امبراطور اليابان خطاب الاستسلام في نهاية الحرب العالمية الثانية ، انتحر عدد كبير من جنرالات الجيش لشعورهم بالفشل ، وعجزهم عن حماية بلادهم ، ولكم أن تستعيدوا من ذاكرتكم ما حصل في بلادنا العربية بعد خسارتنا لمعارك فاصلة في تاريخنا لتعرفوا معنى المسؤولية "بالعربي" !!!
   


أيمن أبولبن
1-1-2014
ayman_abulaban@yahoo.com