الفن وأشياء أخرى
قديماً،
كان الفن وسيلة للرقي بالمجتمعات ، كان للفن رسالة ذات قيمة. كان الفنان يعمل جاهداً
لايصال رسالته الى الجمهور من خلال أعماله الفنية، سواءً من على خشبة المسرح او من
خلال شاشات السينما او من خلال الموسيقى أو عبر لوحة فنية او كلمات تحتضنها قصيدة
شعرية، وفي المقابل كان المُتَلقّي يشعر بأن الفن ينقله من حياته الضيّقة الى أفق واسع لا حدود له،
سوى حدود خياله هو، كلما توغل المُتَلقّي عميقاً في خياله وأطلق العنان لأفكاره
ومشاعره، كلما استطاع أن يبلغ مدىً أوسع وأعمق من التأملات، والوصول الى حالة
سامية من نشوة العقل والروح، هذه الحالة من السمو لا تتحقق الا اذا تلاقى الفنان
مع المُتَلقّي من خلال فن راق وجميل، كما تلتقي الأرض مع السماء في يوم شتاء
دافىء، لتُعانق أمطار الخير حبّات التراب، ويرتسم قوس قزح في الأفق، في لوحة فنية خلاّبة.
الفن الجميل هو رسالةٌ تحمل فكرة ما، يرسلها
الفنان ويتلقاها المستمع أو المشاهد، وكلما ارتقى الفنان بفنه وبرسالته، كلما
ارتقى المجتمع، والعكس صحيح، فكلما تردّى الفن تردّت المجتمعات وانحدر المستوى الثقافي
العام فيها. وما الفنون الا واجهة او انعكاس حقيقي لثقافات الشعوب، من موسيقى وأدب
وفنون سينمائية ومسرحية .... الخ
أذكر أني كنت في ندوة شعرية للشاعر الفلسطيني
الكبير محمود درويش، ومنذ اللحظة الأولى التي اعتلى فيها خشبة المسرح، وخيّم
السكون فيها على المكان، وبدأت الكلمات والصور الشعرية تنساب من بين شفتيه، وتنتشر
في أرجاء المسرح، انتقلتُ لحظتها من حدود المكان والزمان وسافرتُ بعيداً الى
"اللامكان"
. حالة النشوة هذه وصلت الى قمتها مع
اختتام الندوة والقائه قصيدته الشهيرة "الجدارية"
هذا البحرُ لي
هذا الهواءُ الرَّطْبُ لي
هذا الرصيفُ وما عَلَيْهِ
من خُطَايَ ِ … لي
ومحطَّةُ الباصِ القديمةُ لي . ولي
شَبَحي وصاحبُهُ . وآنيةُ النحاس
وآيةُ الكرسيّ ، والمفتاحُ لي
والبابُ والحُرَّاسُ والأجراسُ لي
غادرتُ الندوة، وانتقلت بجسدي الى خارج القاعة
وتوجهت عائداً الى المنزل، ولكن شيئاً ما في داخلي كان ما زال عالقاً هناك في
"اللامكان".
أحسست باضطراب ولم أستطع أن أخرج من حالة النشوة هذه، وأمضيت بقية الليل شارد
الذهن، تائهاً بين المكان واللامكان .
الحقيقة انه عند بداية متابتعتي للشعر وللفن
التشكيلي في صغري، كنت أجد صعوبة في استيعاب المعنى المختبىء بين السطور، أو
استنباط جمالية الصور الشعرية ومراد الشاعر، وكان هذا دافعاً بالنسبة لي الى مزيد
من القراءة والبحث والسؤال، أما الفن التشكيلي فكان لغزاً مُحيّراً بالنسبة لي، لم
أدرك جماليته، الا بعد دخول أخي لكلية الفنون الجميلة، حيث ساعدني ذلك في التعرف
على أساسيات الفن التشكيلي و تذوق هذا النوع من الفنون. ما أريد قوله أن هناك حاجة
الى أن نرقى بانفسنا كي نستوعب مختلف أنواع الفنون، ونتحاور معها داخلياً، فتؤثر
فينا، ونؤثر فيها، وهذا هو المقصد الرئيسي من الفن "من وجهة نظري".
فما بال حال الفن في أيامنا هذه ؟! لم يعد
الفنان يسعى للرُقيّ بالمُتَلقّي، بل أصبح همّهُ الوصول الى المُتَلقّي بأسهل
وأسرع الطرق، لجمع أكبر عدد ممكن من المعجبين والمتابعين. ضاعت الرسالة وضاعت
القيم الجميلة للفن، الا من فئة قليلة ومحدودة من الفنانين المُلتزمين. أصبح الهم
الوحيد للفنان هو "النزول"
بفنه الى مستوى عامة الناس كي يضمن أكبر عدد من المشاهدات والمتابعات واللايكات
على صفحات التواصل الاجتماعي. أصبح شعار الفنان هذه الأيام للأسف "بَسّط
حياتك وخليك كوول" !!
الفن في
أيامنا هذه أصبح يجاري الموضة، فهو فن خفيف أو "دايت"
خوفاً من أن يُثقلَ على الجمهور، قهوة بدون كافيين ان جاز التعبير، أو وجبة خفيفة
خالية من "الدسم"،
أغاني أيام الزمن الجميل كانت تداعب عقولنا قبل أن تداعب قلوبنا ومشاعرنا، أما
أغاني هذه الأيام فهي تداعب خصورنا وأقدامنا ، وقس على ذلك باقي الفنون !!
حتى ان لغة المذيعين ولغة الحوارات الاعلاميّة،
أقتربت من اللغة العامية الدارجة، وقليلةٌ جداً تلك البرامج الحواريّة التي تستدعي
منك أن تُشنّفَ آذانك أو أن تتسمّرَ في مكانك خوفاً من ان تضيع منك كلمة في الزحام
أو تغفل عن مصطلح ما أستخدمه المحاور، أو تعبير مجازي أستخدمه الضيف.
نحن نعيش في مجتمعات وصل فيها الفساد الى منابت
الفن، واذا أردنا ان نرتقي بمجتمعاتنا وبثقافاتنا من جديد، علينا أن نبدأ رحلة
عكسيّةَ هذه المرة، علينا جميعا أن نحارب الفن الهابط والفاسد، علينا أن نمتنع عن
المتابعة والترويج لكل أنواع الفن الهابط،علينا ان نشجّع ونهتم بالمسرح الجاد ومهرجانات
المسرح التي تنظمها النقابات الفنية، علينا أن نعيد الاهتمام الى المسرح الجامعي،
وبالحركات الثقافية داخل الجامعات، علينا الاهتمام بالمواهب الشابة المُثقفة والتي
تحمل رؤية ثقافية بعيدة عن الفن التجاري،علينا ان نهتم بالقراءة ومتابعة
المهرجانات الثقافية ومعارض الكتب، باختصار علينا ان نوصل رسالة للقائمين على
الفنون في مجتمعاتنا نقول فيها احترموا عقولنا، وقدموا لنا فنّاً يرقى بنا لا
فنّاً ينحدر بكم وبنا .
أيمن
أبولبن
10-1-2014
ayman_abulaban@yahoo.com
فيديو يوضح تدهور الأغاني العاطفية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق