الاثنين، 27 يناير 2014

بعض الناس "خطايا فادحة"






      "المُجرمون مصيرهم الى النار"، قال خطيبُ المسجد ذات مرة، كنت ولداً صغيراً قد بدأٌ للتو حضور خطبة الجمعة بصحبة أولاد الحي. لم يكن مصطلح "المُجرم" من المفردات الدارجة ضمن قاموس لغتي الخاصة، كانت العبارة مُبهمة بالنسبة لي !! "بعد الموت، إما جنة و إما نار"، قال الشيخ ابراهيم مُدرسُّ اللّغة الانجليزية في مدرستي الابتدائية، كان شخصيةً محبوبةً عند الطلاب، يدُرّسُ اللغة الانجليزيّة ولكنه شيخٌ وداعية في الأساس، أسلوبه لطيف ومُحبّب في التدريس، ولكن مواعظه كانت حادّةً في بعض الأحيان.

      كنت صغيراً غضاً، ولمّا تعتركني الحياةٌ بعد، لأدركَ أن هناك ظلماً وجرائم في هذه الدنيا يستحق فاعلُها مصير النار، لم أكن أتخيل أن أحد هؤلاء البشر الذين أعرفهم واتعامل معهم قد يدخل النار !! كنت أنظر حولي كلما سمعتُ  مثل هذه العبارات، وأتمعّنُ في الأشخاص الذين يحيطون بي، وأدعو ببراءة الأطفال لهم جميعاً بأن لا يكونوا من أصحاب النار، ألتمس لهم العذر ان قصّروا في أدائهم لواجباتهم الدينية، وأقول في داخلي طالما أنهم يؤمنون بالله فلا خوفٌ عليهم، لأن الله غفورٌ رحيم.

   كنت اتمنى السلامةَ للجميع، للقريب وللبعيد، بما فيهم أولئك "الأولادُ المشاغبون" ولو أساؤوا التصرف معي. كنتُ أفكرُ مليّا عند سماعي لخبر وفاة أحد الأقارب أوالمعارف؛ تُرى كيف سيكون مصيره وكيف سيلاقي ربه؟! أفكر مليّاً وأدعو له بالرحمة.

   مرّت الأعوامُ؛ دخلتُ المرحلة الاعداديّة، وأطل علينا صيفُ عام 82، حاملاً معه أخبار الاجتياح الاسرائيلي للبنان، بهدف التخلص من براثن المقاومة الفلسطينية، استعرت الحربُ وزادَ البطشُ الاسرائيلي، المدينةُ تسقطُ تلو المدينة، المخيمات تحاصرُ وتُدكّ بالقذائف، وصل الزحف الى بيروت، بيروت تحت الحصار والقصف، اسرائيل تستخدم أسلحةً مُحرّمة دولياً، الأبرياءُ والمدنيون يُقتلون أو يشرّدون، رائحة الدم  تنتشر في المكان، لا استثناءات للقتل، الاذاعاتُ تنقلُ الجرائمَ أولاً بأول، كأنها قصةٌ روائيةٌ طويلةٌ في عالم افتراضي !!

 وزاد الطين بلّة عندما انضوت بعض الميليشيات العميلة تحت لواء الجيش الاسرائيلي، وأنبرت لتصفية الفلسطينيين في المخيمات تحت حماية الجيش الاسرائيلي، كانت الميليشيات تتعمّدُ استهدافَ النساء الحوامل، والأجنّة في بطون أمهاتهم ، انها حرب "بَقْر البطون"، مصطلحٌ جديدٌ يضاف الى قاموس لغتي !!







   بدأت أدركُ مدى الفظائع التي يُمكنُ أن يفعلها الانسان في حق أخيه الانسان. وبعد أن وضعت الحربُ أوزارها، قرأتُ ديوان محمود درويش "مديح الظل العالي" الذي يؤرخُ فيه مآسي هذه الحرب، أذكر مطلع القصيدة جيداَ :
                                



بحرٌ لأيلولَ الجديدِ

خريفُنا يدنو من الأبوابِ

 آه ، خريفنا يدنو من الأبواب، وربيع عمري لم يبدأ بعد !! لم يكن عقلي أو حتى خيالي يتصورُ أن تقع كل هذه الفظائع والمآسي في يوم من الأيام، وها هي تحدثُ على مرأى ومسمع الجميع،  ولكن لا حياةَ لمن تُنادي، كان عليّ أن أتعود على شعور الضحيّة هذا، لأنه سيلازمني طويلاً !

   برز حينها اسم "ارييل شارون" وزير الدفاع الاسرائيلي، "السفّاح" ، عرّاب حرب لبنان، والمُنسّق العام لكافة الفظائع والجرائم التي شهدتها هذه الحرب. أصبحت هذه الشخصية بالنسبة لي رمزاً للاجرام والشر، أصبح الأنموذج الذي أقيس به فظاعةَ الآخرين وقُبحهم، حتى أن أسمه قد أشتُقّ من كلمة "الشر". كلما أقترب شخصٌ ما من بشاعة شارون، كلما أدركتُ سوادَ قلب هذا الشخص، وقُربه من المصير الذي حذّرنا منه خطيب الجمعة ذات مرة.





   لاحقاً قمتُ بالبحث عن تاريخ شارون لأجد أنه مجرمُ حرب باقتدار غير مسبوق، فمن "قبية" مروراً بحرب أكتوبر وقتل الأسرى في سيناء، الى صبرا وشاتيلا. لم يرفّ لهذا المُجرم جفن، وكأنه يُقرّبُ قرباناً الى الآلهة كي ترضى عنه وعن شعبه، كان يقوم بكل هذه الأفعال وهو يظن في داخله أنه يعملُ عملاَ وطن
ياً يستحق عليه أن ينال الأوسمة !! قال له رؤساؤه عندما كان ضابطاً صغيراً : " لا تُرهق نفسك بالقراءة، فأنت لا تنفع الا للقتل" !!


  
رويداً رويداً بدأتُ أدركُ أن النار مصيرٌ حتميّ لكثير منا، وأنها جزاءٌ طبيعي لأفعال كثير من الناس، تماماَ كضرورة الجنة والنعيم للأبرياء والمظلومين.

   ومرت السنين، وكنتُ شاهداَ مرة أخرى على جرائم متتالية موقعّة باسم شارون؛ قمع انتفاضة الأقصى التي دججها هو بنفسه، وما تضمنها من مجازر بحق الشعب الفلسطيني، وعلى رأسها مجزرة "جنين"، وانتهاءَ بآخر جرائمه "على ما أذكر" اغتيال الشيخ أحمد ياسين، بعد الافراج عنه والتعهد بعدم استهدافه، ولكن لا عهد مع اسرائيل، كما يعترفُ شارون نفسه. كانت صور اغتيال الشيخ ياسين قاسية للغاية، شيخٌ مُقعَد يتم استهدافه وهو خارجٌ من المسجد بعد صلاة الفجر، بصاروخ جو أرض من طائرة هليوكبتر مقاتلة، لكم أن تتخيلوا المشهد !!

  "بعض الناس خطايا فادحة"، قال مظفر النواب في احدى قصائده، للوهلة الأولى، لم أستطع أن أهضم هذه العبارة القاسية، رأيت فيها خروجاً عن سياق الانسانيّة، واصرارٌ على  جلد الذات البشريّة. ولكني أصبحتُ اليوم "وللأسف" أدركُ أكثر من أي وقت مضى، أن بعض الناس خطايا فادحة في حق البشرية!!

قبل أيام قليلة، استرجعتُ وبشكل عفوي، هذه العبارة، بمجرد سماعي خبر وفاة ارييل شارون.

ارييل شارون الى جهنم وبئس المصير.




أيمن أبولبن
14-1-2014


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق