تعرضت
حركاتُ الاسلام السياسي في منطقتنا العربية للتهميش خلال العقود ِالأخيرة، ولم يُعطَوْا
الفرصةَ الكاملةَ للمشاركةِ في العملية ِالسياسيةِ، سواءً في التمثيلِ الحكومي أو
الرئاسي في أيّ من دولنا العربية، مما وضع َهذه الحركات في قالب " المعارضة
" بشكلٍ شبه دائم .
بعد ثوراتِ الربيعِ العربيّ وجدت هذه الحركات
نفسَها بين ليلةٍ وضحاها، تنتقل’من صفوفِ المعارضةِ الى سدّةِ الحكمِ، هذا
الانتقال المفاجىء كان مربكاً لمجتمعاتنا، بل ومربكاً لهذهِ الحركات نفسها، حالةُ
الارباكِ هذه وعدم الثقةِ المتبادلةِ بين القوى السياسيةِ المدنيةِ و تيار الاسلام
السياسيّ تجلّت ووصلت الى ذروتها خلالَ الأحداثِ الأخيرةِ التي شهدتها الساحة
المصرية.
ناقوسُ
الخطرِ هذا يضعنا جميعاً أمام َتحد ّغايةً في الأهميةِ، فاما أن نغتنمَ هذه الفرصةِ
التاريخية للنهوضِ من جديد، واستكمال مشوار الثورات ِالعربيةِ والتقدم باتجاهِ
البناءِ وترسيخ مبادىء الحريةِ والعدلِ والمساواة، ومن ثم بناء مؤسساتِ الوطن، أوالوقوع
من جديد في فخّ الطائفيةِ والمصالح الفئوية "وكأنك يا ابو زيد ما غزيت" .
ولعلَ النقطةَ الأولى التي تتبادر’ الى الأذهانٍ
هي التساؤلِ عن حقيقة مشاعر القلق والتخوّفِ من وصولِ حركاتِ الاسلام السياسيّ الى
الحكم . لماذا نخاف’ منَ الاسلاميين ؟ وهل الاسلام السياسي ّيقبل’ الآخر أم أنه’
يتفرّد’ في السلطةِ ؟ هل الاسلام السياسي غالباً ما يعتمد’ على العنفِ ؟
لو
راجعنا تاريخَ الاسلامِ السياسيّ في المنطقةِ لوجدنا أن حركاتَ الاسلامِ السياسيّ
لم تقم بأي ثورة ٍمسلحةٍ او أيّ انقلابٍ عسكري ضدَ أي نظامِ حكمٍ، فهيَ لم تستعمل
القوةَ للوصولِ الى الحكمِ، على العكسِ من ذلك، كانت هذه الحركات الكاسبَ الأكبر
في كل انتخاباتٍ حرة ٍونزيهةٍ تم اجراؤها في أيّ بلد ٍعربيّ من المحيط ِالى الخليج،
قبلَ الثوراتِ العربيةِ وبعدَها.
في
عام 1989 وبعد الانتفاضةِ الشعبية ِفي جنوبِ الأردن، حصلت حركةُ الاخوانِ المسلمين
على ربعِ مقاعد البرلمان، كما حصلَ عدّة ’اسلاميين مستقلين على عددٍ لا ِبأسَ به من
المقاعدِ النيابيةِ، مما سمحَ بتشكيلِ
جبهة معارضةٍ قويةٍ داخلَ البرلمان، أدى هذا التوازن في النهايةِ الى تشكيِلِ
حكومةٍ وطنيةٍ تضم’ الحركةَ الاسلاميةَ لأول ِمرة. وبدلاً من ان تكونَ هذه
الانتخابات خطوةً أوليّة في طريق ِالديمقراطية، تليها خطواتٌ جريئةٌ لاثراءِ
الحركةِ السياسيةِ والدفع ِباتجاه ِبناءٍ مؤسّساتيّ حزبيّ للدولة، تم ّاجهاضُ
المشروعِ الديمقراطيّ في البلادِ، بتعديل قانون الانتخاب الى قانون الصوتِ الواحد،
بل وتعداها الى تزويرٍ لنتائج الانتخابات، مما دفع بالحركة الاسلامية الى الانسحاب
من الانتخابات في عدة مناسبات، لتبقى ذكرى انتخابات 89 في الأذهانِ على أنها
الانتخابات النزيهة الوحيدة التي جرت في الأردن .
في
بدايةِ التسعينات وبعد انتفاضةٍ شعبيةٍ في الجزائر، فازت جبهة ’الانقاذ ِالجزائريةِ
بأغلبيةٍ مطلقة ٍفي الانتخاباتِ التشريعية، تعبيراً عن رغبةِ الشعب بالتغيير
"السلمي ّ" للنظامِ، وبدلاً من احترام ِارادة الشعب
قامَ النظامُ الجزائريّ بمساعدة ِالجيش، بالغاءِ الانتخابات وحلّ جبهة ِالانقاذ،
مما أدى لاحقاً الى أعمالِ عنفٍ جعلت البلادَ مفتوحةً على كل ِانواع الميليشيات
المسلحة، حيث’ دخلت البلاد ’في حربٍ أهليّةٍ عرفت ب " العشريّة السوداء"، ومما يُذكر أن النظامَ الجزائريّ نفسه’
قامَ باستخدامِ بعضَ المرتزقة ِللقيامِ باعمالِ عنفٍ وقتلٍ وترويعٍ للناسِ باسمِ
الجماعاتِ الاسلاميةِ .
وفي مصرَ تعرّضَ الاخوان المسلمون على مدارِ
سنواتٍ طويلةٍ لحملةِ ملاحقاتٍ أمنية ومضايقاتٍ سياسية وحملاتِ اعتقالٍ وسجن ٍوتعذيب،
حتى أن النظام تآمر على اغتيال مؤسس الجماعة "حسن البنا"، كما تم حظر
"الجماعة" من ممارسة العمل السياسي، وتعرضت الجماعة
لحملةٍ اعلاميةٍ بشعة استهدفت تشويهَ صورةِ الاسلاميين عموماً، واتهامهم بالتطرّفِ
والعمالةِ ولهثهم وراءَ المالِ والمناصب والتجارة بالدين من أجلِ الوصولِ الى
منافعهم الخاصةِ والشخصيةِ .
ومن الطريف أن الأجهزة الأمنية قامت باعتقال
جميع أفراد "الجماعة" بعد اغتيال البنا مباشرة، فخرجت جنازتهُ تُشيّعُها
النساء !! بالاضافة الى والده وصديقٍ مسيحي .
في
فلسطين، فازت "حماس" بأغلبيةٍ مطلقة ٍفي الانتخاباتِ التشريعية ِعام 2006،
وهي أول’ انتخاباتٍ تشريعية ٍتخوضها حماس، وكان انتصار’ حماس وتفوقها على "فتح"
الحركة الأم مفاجأةً للجميع حتى لحماس نفسها. صدمةُ الخسارة ِأدّت الى انسحابِ فتح
من الساحةِ السياسيةِ ورفضها دخولَ حكومة ٍوطنيةٍ تحتَ ظلّ حماس. وجدت حماس نفسها
أمام َاختبارٍ حقيقي، فهيَ لا تحظى بتأييدٍ دوليّ ولا حتى عربيّ، ولا يوجد’ لديها
قنوات اتصال ٍمع اسرائيل عدا عن أن الأجهزةَ الأمنيةَ جميعها في قبضة فتح، ناهيك
عن انقطاع المساعدات المالية، وكانت النتيجة’ الحتميّة فشلَ حماس، وانقساماً
فلسطينياً حاداً، ما زلنا نعاني من نتائجه لغاية الآن، ليس هذا وحسب بل ان بعض
الأنظمة العربية وبالتواطؤ مع اسرائيل ساهموا بمحاصرة حماس في غزة واسقاط شرعيتها
.
هذه
التجارب القليلة في المنطقة، تؤكّدُ أنّ جميعَ الأنظمةِ العربيةِ تخشى من
الاسلاميين، ومن التعبيرِ الحرّ لارادةِ الشعوب، ولكن من المؤسفِ أن الاعلامَ
النمطيّ والموجّه الذي استخدمته معظم الأنظمةِ البائدة ِعلى مدى سنواتٍ طويلةٍ قد
نجحَ في تأليبِ مشاعرنا نحنُ ضدّ حركات ِالاسلام السياسيّ، ونجحَ في ايجادِ حالة ٍمن
القلقِ في صفوفِ الحركاتِ المدنيةِ للمجتمع، وحالة توجسٍ ورهبةٍ من وصولٍ هذهِ
الحركات الى سدةِ الحكمِ، ناهيكَ عن عدم تقبل التيار العلماني اليساري و رفضهم
التام للحوارِ والتواصل مع هذه الحركات .
حالةُ
القلقِ والخوف هذه، عزّزتها الذكرياتُ المؤلمة والمتعلقةَ بالجماعاتِ اليمينيةِ
المتطرّفة أو ما يعرف بجماعات الاسلام الأصوليّ، خصوصاً بعد ما عانيناهُ جميعاً من التجربةِ الجهاديةِ في
أفغانستان، وما وصلت اليه الأمور تحتَ شعار "الحرب’ على الارهاب" .
حركات
الاسلام السياسي الآن على المحك، و نحن’ الآَن أماَم مسؤوليٍةٍ تاريخيٍة أفراداً و
جماعات، تتمثّل في عبور هذه المرحلة الصعبة من تاريخ هذه الأمة. فشَلُ الأنظمِة
الحاليِة التي جاءت بعد الربيِع العربي أو نجاحُها سواءً كانت من التيار الاسلامي
أو أي تيارٍ آخر هو منوطٌ بنا جميعاً، فالنجاح نجاحٌ للجميع والفشل’ هو فشلٌ
للجميع .
ما
زال َالطريقُ طويلاً لنحكم على مسيرتهم، ولكن علينا ان نعطيهم الفرصة أولاً، وأن
نتعاون معهم من أجلِ انجاح هذه المرحلةِ والانتقالِ الى مرحلة الاستقرار في هذه
ِالبلاد، لا أن نعيدَ تجاربَ الماضي التي ذكرناها آنفاً، نريدُ أن نكونَ منصفين مع
هذه الحركات، ونريد’ ان يُنصفهم التاريخ وأن يُسجّل ما لهم وما عليهم دون زيادةٍ
أو نُقصان، لن نقبلَ منهم تجاوزاً، ولن نرضى بأن يعودوا بنا الى الوراء، ولكن
علينا اولاً أن نتقبّلهم ونعترف بشرعيتهم وأحقيتهم في الحكم ووصولهم الى ما وصلوا اليه، وأن نعترفَ بالقاعدةِ
الجماهيريةِ الكبيرةِ التي يتمتعون بها، وبالعملِ المؤسّسيّ الكبير الذي قدموهُ خلال
سنواتٍ طويلة، بالرغم من استهدافهم من قِبَلِ كلِّ الأجهزةِ الأمنيةِ والمخابراتية.
ولكي نكون منصفين علينا ان نكون بعيدين عن التأييد الأعمى، وعن المعارضة من أجل
المعارضة .
وفي النهايةَ، ألم نطالب بالحرية ِواحترام ِالرأيّ
وقَبِلنا بالتعدّدية ِواحترام ِالآخر ؟! فلماذا نستثني هذه الحركات من حرية ِالرأيّ
والتعبير وممارسةِ الحكم !؟
هذه
دعوة للخروج من قوقعة الخوف والقلق التي تغلّفنا، هي دعوة للانفتاح نحو هذه
الجماعات ضمن نطاق اللعبة الديمقراطية وحرية التعبير عن الرأي، مع الأخذ بعين
الاعتبار الحرص على احترام الحريات العامة والحقوق المدنية للمجتمع، بما يضمن
مشاركة كافة أطياف المجتمع في التجربة الديمقراطية الجديدة التي نعيشها، والتي لا
تزال حديثة العهد وناشئة في دولنا العربية .
أيمن أبولبن
10-1-2013
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق