عندما يخسر فريقك المفضل احدى المباريات المهمة
، فإنك بالتأكيد ستكون عرضة للهجوم من أصدقائك " المتشمتين " والمتعصبين
لفرق أخرى ، وهذا يعني أنك ستعاني طويلاً من "المسجات" المزعجة ، وامتلاء موبايلك بها ليلة المباراة ،
وحتى صبيحة اليوم التالي ، وعندما تجلس أمام كمبيوترك الشخصي ، فإنك ستجد بالتأكيد
عددا من الايميلات ، التي "تبارك" لك الخسارة ، وعندما تدخل على صفحتك على موقع
الفيسبوك ، فستجدها مليئة بالمداخلات ، وبالتعليقات المستفزة.
يقول
هتلر : "لا تُقدّم التبريرات ، فعندما تكون منتصراً ، لن يطلب احد منك
تبريرات للنجاح ، وعندما تكون مهزوماً ، فالأفضل لك أن لا تكون موجوداً ، كي لا
تبرر هزيمتك ". ولذلك لن اخوض في سرد
تبريرات الهزيمة ، الموجودة بالفعل ، لأن ذلك لن يغير شيئاً من الواقع ، ولن يخفف
من آثار الهزيمة النفسية ، فبعد انتظار
انطلاقة المباراة قبل أيام من انطلاقتها ، وانحباس الأنفاس طيلة تسعين دقيقة واكثر
بعد انطلاقتها ، وما يتخللها من قفزات وتأوهات على كل فرصة ضائعة ، وما يجتاحك من عصبية
على أداء سيء لأحد اللاعبين ، أو على قرار مجحف من حكم المباراة ، وما تشعر به من انقباضات
في القلب مع مضي كل دقيقة ، وترقب مصحوب بجلسة القرفصاء في اللحظات الحرجة ، مع
الدعاء بالتوفيق ، تأتي صافرة النهاية ، لتدق ساعة الحقيقة ، وتكتشف ان فريقك
المفضل خرج خاسراً ، وفقد أحد أهم الألقاب لهذا الموسم .
شعور
بالإحباط ، وفقدان الرغبة بالكلام ، وشعور عارم بالهزيمة ، وفقدان الرغبة في التواصل
مع الآخرين ، وميول جارف للوحدة ، هذا ما يسيطر عليك ، بعد سماعك لصافرة النهاية،
وتستمر هذه الحالة لأجل ليس بقريب .
وعندما يكون فريقك المفضل هو "البارشا" ، فإن هذه الخسارة ، ليست
كأي خسارة ، وآثارها ستمتد لأيام ، وليس لمجرد ساعات .
تقول لي زوجتي مُحاولةً اخراجي من هذه الحالة
"انها مجرد مباراة !!"
ولكنها في الحقيقة أكثر من ذلك ، بالنسبة لي هي إدمان
كروي جارف ، بدأ منذ زمن بعيد ، منذ الصغر ، ومنذ بدء عشقي لهذه الكرة ، ما زلت
أذكر أول مباراة أتابعها لهذا الفريق ، كانت في بداية الثمانينات ، ضمن بطولة اوروبا
(دوري ابطال اوروبا حالياً)، كنت صغيراً ، وكانت تلك الايام هي بدايات متابعتي
لهذه اللعبة ، كان التلفزيون الأردني وقتها ينقل مباريات الدوري الألماني ، وبعض
المباريات الاوروبية ، ما شدني في هذه المبارة ، هو اعلان التلفزيون الاردني ، انه
سيقوم باعادة بث مباراة برشلونة ( ولا أذكر الفريق الآخر الآن ) بناءً على رغبة
الجمهور في اعادة هذه المباراة المميزة ، شدّني هذا الاعلان ، وقررت متابعة
المباراة ، وما زلت أذكر دهشتي ، وانبهاري بهذه المباراة ، وبأداء هذا الفريق الذي
لم أكن أعلم عنه شيئا ، ولا اعرف أحدا من لاعبيه ، كان أداؤهم مبهراً بمعنى الكلمة
، كانوا يتمتعون بمهارات فردية خارقة ، ولكن الأجمل من ذلك ، أن هذه المهارات يتم
تسخيرها لمصلحة الفريق ، وهذا ما لم يكن مألوفاً في عالم كرة القدم أنذاك ، أذكر
أن المباراة كانت باللونين الابيض والاسود ، رغم ان التلفزيون الذي نملكه كان
ملوناً حينها ، ولكن التلفزيون الاردني قام ببثها بالابيض والاسود ، ولم اعرف
وقتها ما هو لون فانيلة هذا الفريق ، الذي اصبح الفريق رقم واحد في قلبي بعدها، لا
يشاركه هذه المنزلة سوى المنتخب البرازيلي ، الذي أبهر العالم في عام 82 ، وما زال
حتى الآن .
ومن المفارقات أن برشلونة عندما أراد أن يحتفل
بالذكرى المئوية على تأسيسه في عام 1999 ، قام بدعوة المنتخب الأول على العالم
وقتها ، المنتخب البرازيلي ، وكانت فرصة نادرة ولم تتكرر حتى الآن ، لمشاهدة فريقي
المفضل ، ضد المنتخب المفضل لدي ، وانتهت وقتها المباراة بالتعادل بهدفين .
فريق
برشلونة هو عبارة عن مدرسة كروية ، استطاعت ان تحافظ على ارثها ، منذ فترة
السبعينات وحتى الان ، تقوم على اساس انجاب وتأهيل الناشئين من ابناء النادي ليصبحوا
لاعبين مميزين ليس على مستوى النادي وحسب ، بل وعلى مستوى العالم ، واصبح هذا
النادي يُقدم لنا جيلاً كروياً يتلوه جيلٌ كروي آخر ، يحمل نفس الرسالة ، اللعب
الجميل الأخاذ والمحافظة على المتعة الكروية ، متبنياً مبدأ اللعب الهجومي المفتوح
.
على
مدى السنوات الماضية لعب لهذا الفريق افضل اللاعبين على مستوى العالم ، امثال
كرويف ، مارادونا ، روماريو ، رونالدو ، ريفالدو ، رونالدينهو ، وآخرين ، والشيء
المميز ، ان هؤلاء اللاعبين عندما لعبوا للبارشا ، تطور اداؤهم للافضل ، وقدموا
افضل ما لديهم ، وهذا دليل على قوة هذه المدرسة الكروية ، ولعل الظاهرة ميسي ،
الذي نشأ وترعرع في مدرسة برشلونة منذ كان عمره ثلاثة عشر عاما ، ليصبح افضل لاعب
في العالم ، هو اقوى دليل على نجاح هذه المدرسة .
قبل يومين ، خسر البارشا مباراة النصف النهائي
لدوري ابطال اوروبا (في مجموع المباراتين) ، امام انتر ميلان الايطالي ،و قبل عام
واحد وفي نفس الدور (النصف النهائي) ، تأهل برشلونة على حساب تشلسي في مباراة
عصيبة ، ومثيرة للجدل وقتها ، في عدم احتساب الحكم لضربة جزاء لصالح تشلسي ، وكلنا
نذكر كيف قام لاعبو تشلسي بالاحتجاج على الحكم ، بل وحاولوا الاعتداء عليه في الملعب
وخارجه .
قبل يومين ، تغاضى الحكم عن احتساب ضربة جزاء
لبرشلونة ، وكلنا شاهدنا قميص ابراهيموفيتس الممزق نتيجة الشد من لاعبي الخصم ،
وفي الدقائق القاتلة ، سجل برشلونة هدفاً ثانياً كان كفيلاً بنقله الى المباراة
النهائية ، ولكن الحكم قام بالغاء الهدف ، وبعد الاعادة والتحليل (التحكيمي) على
قناة الجزيرة الرياضية ، تأكدت صحة الهدف وصحة ضربتي جزاء لمصلحة البارشا ، وتأكد أن
برشلونة حُرم من تأهل مستحق للمباراة النهائية .
الفارق بين هاتين الحادثتين ، أننا لم نشاهد اي
اعتراض من لاعبي برشلونة على الحكم ، لم يصرخوا في وجهه ، ولم يعتدوا عليه ، ولم
يلاحقوه في جنبات الملعب ، ولم يهددوه ، لانهم يدركون انهم يمثلون ناديا ، هو اكثر
من مجرد نادي ، انه برشلونة .
عندما
يخسر برشلونة امام فريق الانتر الايطالي ، والذي بالمناسبة لم يلعب له اي لاعب ايطالي في هذه المباراة ، ولكنه
ما زال يحمل اسم " الايطالي " ، في احدى مفارقات الكرة العالمية الحالية ،
التي اصبحت تعتمد على المادة والتسويق واصبحت صناعة وتجارة مقاولات . اقول عندما
يخسر برشلونة ، فان هذه الخسارة ، هي خسارة للكرة الهجومية امام الكرة الدفاعية ،
خسارة للمتعة ، امام القوة البدنية ، خسارة لجمال الكرة امام سلبية الفريق الآخر ،
هي خسارة ليس لبرشلونة فقط ، انها خسارة لعشاق كرة القدم الحقيقية.
عندما يتأهل فريق الى اهم مباراة نهائية في
الموسم ، ولا يستحوذ على الكرة لاكثر من 30% ، ولا يقوم بتمرير اكثر من 70 كرة خلال 90 دقيقة ، مقابل
555 تمريرة ، و 70% نسبة استحواذ على الكرة للفريق الآخر ، عندما يتأهل هذا الفريق
دون ان يكون له اي هجمة على المرمى ، ولا يقوم بتسديد اي كرة على المرمى ، فهذا
يعني ان أكبر خاسر في هذه
المباراة هي لعبة كرة القدم نفسها ، وعشاق هذه الكرة .
واذا
خسر برشلونة بطولة الدوري الاسباني هذا العام لملصلحة مدريد ، فهذا يعني ايضا ،
خسارة كرة القدم ، وانتصار التجارة والصناعة ، والمقاولات الرياضية ، التي يعتمدها
النادي المدريدي ، والذي يعتمد على جلب اللاعبين القادرين على رفد خزينة النادي ،
على حساب اللاعبين الذين يقدمون كرة قدم جميلة ، هذا ما تعنيه خسارة البارشا ،
ولهذا ما زلت اشعر بالحزن العميق على هذه الخسارة .
في النهاية ، أبارك لجميع من شعر بالسعادة
الغامرة بخروج البارشا ، اقول لهم هنيئاً لكم خروج الكرة الجميلة ، اهنئكم بفوز
فريق الانتر الايطالي الذي لا يلعب له اي لاعب ايطالي ، ابارك لكم اللعب السلبي ،
واللعب الدفاعي ، وابارك لكم عنجهية المدرب مورينهو ، الذي لم يصدق نفسه عقب
الانتصار ، لانه فاز على الفريق الافضل
والاجمل والاحلى ، فريق البارشا .
وأخيرا أبارك لكم قدرتكم على البقاء متسمرين
امام التلفاز طيلة 90 دقيقة دون ان يصل فريقكم المفضل الى المرمى ، ودون ان يُسيطرعلى
الكرة ، ودون ان يمرر اكثر من تمريرتين او ثلاثة في المرة الواحدة ، ودون ان يسدد اي كرة على المرمى ، وأن تكونوا مستمتعين برغم كل ذلك ، فعلا
أهنئكم على هذه المقدرة التي يفتقدها الكثيرون ، وافتقدها انا شخصيا.
أيمن أبو لبن
30-4-2010