كانت النظراتُ كلُّها مُودِّعة ، والعيونُ التي رافقتني ، وهي تستجمعُ
آخر الصور لي لتُبقيها في ذاكرتها الحيّة ، كانت أيضاً مُودِّعة ، كلُّ الأيادي
التي صافحتني كانت مُودِّعة ، تمدُّ يدايَ بدفىءِ الوداع ، و تذيبُ بعضاً من
المشاعرِ المتجمّدة.
كلُّ الأحضانِ
التي غمرتني كانت مُودِّعة ، كلُّ الأيادي التي لوّحت لي كانت مُودِّعة ، كلُّ النسماتِ
التي داعبت شعري ، كلُّ الاشجارِ التي اصطفّت على جانبِ الطريقِ ، كلُّ الابتساماتِ
التي ارتسمت على الوجوه ، كلُّ الكلماتِ ، كلُّ الاشياء ، كانت مُودِّعة.
مضى
عامانِ على الطائرة التي أقلّت جُروحي ،
وحملت همّيَ المزروعَ في حقيبتي ، مضى عامانِ
على مرورِ شريط ذكرياتي كومضاتِ نورٍ متلاحقةٍ أمامي ، تتراءى لي عبر
نافذةِ الطائرة ، هناك في المدى البعيدِ .
مضى
عامانِ على رجفةِ قلبي في إنتظار ساعةِ الرحيل ، مضى عامانِ على كلماتِ الوداع ،
سنشتاق لك ، لا تنسى أن تُطمأننا عنك ، لا تقلق على شيءٍ وراءكَ .
مضى
عامانِ على التنهّداتِ والحسراتِ ، مضى عامانِ ، على إنفطار القلب ، على البُعد ،
على فُراق الأهل والأصدقاء ، مضى عامانِ على أُمسية الوداعِ ، مضى عامانِ على
رحيلي عن أخوتي ، وأصدقائي ، مضى عامانِ عليّ هنا.
مضى
عامانِ على بُكاء ولدي الصغير ، متسائلاً لماذا تودّ السفر يا أبي !؟ ، غيرَ
مقتنعٍ بكل الأسبابِ التي ذكرتها له ، مضى عامانِ على دمعات أمي ، وبكائها ،
وصوتها المتقطِّع حُزناً ، مضى عامانِ على وداع زوجتي لي ، غير مصدقةٍ أن ساعةَ
الوداع قد حانت .
مضى عامانِ
على وداع ابنتي شهد ، كانت قد جاوزت الرابعة من عُمرها بقليل ، ولم تكن تعي ما
يحصل ، لا معنى للسفر عندها ، طلبت مني ان أحملها ، وأرفعها لتلمِسَ السقف ،
حملتها وقبّلتها ، ثم سألتني متى ستأتي الطائرة الى بيتنا لتأخذنا عندك ؟
هل ما
زالت العصافيرُ تزرو شباّك غرفتي ، هل ما زالت تذكُرني ؟ هل ما زالت أشعة الشمس
تخترق الشبابيك وتزعج النائمين كل صباح ، ماذا حلّ بالحمامة التي وضعت بيضها على
شباّك حمّامنا ؟ هل خرج صغارها الى النور ؟ كيف هو حيُّنا ؟ هل ما زالت رائحةُ المناقيشِ اللذيذة تفوحُ منه صباح كل يوم جمعة ؟ هل ما
زالت الاشياءُ الجميلةُ التي تركناها ، جميلةً كما كانت ؟ هل يفتقدني احبائي كما
أفتقدهم ، أم أن عجلة الحياة لم تُفسح لهم المجال للشعور بالفقدان ، هل يذكرني
أصدقائي كما أذكرهم ، هل يحتفظون بصورتي في قلوبهم كما أفعل أنا ؟ أم أن البُعد يُغيُّر ما في
القلوب ؟
غريبةٌ هي الدنيا ، عندما تتحكّم في مشاعرنا وفي
أحاسيسنا ، غريبةٌ هي !!
كان الطريقُ الى المطارِ موحشاً ، الوقت يمضي مُسرعاً
، وسيارة أخي هي الأخرى تنطلقُ مسرعةً ، تخترق الأزمان نحو نقطة اللا عودة ، كلّ شيء
مضى بسرعة ، وها أنذا أقف على مدخل المسافرين ، نظرتُ الى ورائي ، نظرة الوداع
الأخيرة ، تلك النظرة التي كنت أشاهدها في الأفلام السينمائية ، وأكتشفت عندها ،
في تلك اللحظة ، أنها شيءٌ مُختلفٌ عما نراه على الشاشة ، لا أكادُ أجد لها وصفاً.
شققتُ طريقي بسرعة وجلستُ في الطائرة ، مقعدي
كان بجوار النافذة ، لحظاتٌ قليلة وأصبحت النافذةُ سوداءَ مُظلمة ، منظرٌ يُضيفُ
الى الحُزن ، كآبةً اضافيةً ، كانت الساعةُ قد جاوزت التاسعة والنصف مساءً ، رويداً
رويداً اقتربنا من هدفنا ، مدينة الرياض ليلة 12 ابريل عام 2008 .
عندما اقتربت الطائرة من الأرض هالَني منظرُ
المدينة ، كان منظراً رائعاً ، أزال بعض ما في نفسي من التعاسة ، كانت الساعة
تقترب من منتصف الليل ، الاّ أن المدينةَ بدت مُشعّةً ، كانت الأنوارُ تشكّلُ لوحة
فنّان مرسومةٍ بدقة ، مربعات كبيرة ، وداخلها مربعات أصغر ، رويداً رويداً أصبحت الأنوار
أوضح وأصبحت المباني والشوارع باديةً للعيان ، كانت الشوارع ممتدّة ، وتتقاطع بدقة
لافتة ، نحن في الرياض ، بلاد الذهب الأسود ، والجبال السوداء ، بلاد السماء
الضبابية ، بلاد الخير والحرّ ، بلاد الصحراء والعُمران ، تركتُ ورائيَ الفصول الأربعة
، وذهبت الى بلاد اللا فصول ، ففصول العام هنا ليست كما نعرفها ، نحن هنا نفتقد
للربيع ، كما نفتقد للخريف ، ولدينا ما يشبه الشتاء ، والصيف هنا ليس كأي صيف ،
انه صيف حار الى درجة الغليان، انها بلاد .......... بلاد الخليج .
والان
وبعد عامين ، ما الذي حصل ؟ قد يكون الشيء الوحيد الذي واساني في غربتي ، قدوم
عائلتي الصغيرة لتشاركني شعوري بالغربة ، أصبحنا نتبادل المواساة ، والهموم فيما
بيننا ، وعندما يغرق أحدنا في بحور الوحدة والاضطراب ، نمد له يدنا ونحثه على
الاستمرار في السباحة ضد التيار، ونذكر أنفسنا دوماً أننا سنعود يوماً الى أهلنا .
ومع إشراقة كل يوم ، يزداد الحنين في قلوبنا ، و يزداد حبّنا لأحبائنا ، وحبنا للوطن ، أصبحنا
ندرك قيمة جميع المقرّبين منّا ، لانهم لم يعودوا قريبين كما تعودنا .
في
هذين العامين ، فقدنا أحباءً لنا ، ولم يُسعِفُنا القدرُ أن نُلقيَ عليهم نظرةَ
الوداع الأخيرة ، أو أن نواكبهم الى مثواهم الأخير . في هذين العامين فقدنا تلك
الحميميةَ في علاقاتنا ، وأبدلناها بقوالب من الجُمود ، فقدنا القُرب من أحبائنا ،
وشعورنا أن مكالمةً هاتفيةً واحدة ستخوّلنا رؤيتهم ، زيارتنا لهم او زيارتهم لنا ،
أصبحت المسافةُ اكثر بكثيرٍ من هذا ، إنهم على بُعد إجازةٍ صيفيةٍ قادمة .
في هذين العامين فقدنا الكثير من التواصل الإنساني
، وانشغلنا بأمور الحياة الأخرى ، في هذين العامين ، لم نعد نحسب أعمارنا ،
فأعمارنا توقفت هناك ، لحظة أن فارقنا الوطن .
أيمن
أبو لبن
11-4-2010
مضى
عامانِ يا أمّي
على
الولدِ الذي أبحر
برحلتهِ
الخرافيّه
وخبّأَ
في حقائبهِ
صباحَ
بلادهِ الأخضر
وأنجمَها،
وأنهُرها، وكلَّ شقيقها الأحمر
وخبّأ
في ملابسهِ
طرابيناً
منَ النعناعِ والزعتر
وليلكةً
دمشقية..
نزار
قباني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق