الجمعة، 30 أبريل 2010

ماذا تعني خسارة "البارشا"



   عندما يخسر فريقك المفضل احدى المباريات المهمة ، فإنك بالتأكيد ستكون عرضة للهجوم من أصدقائك " المتشمتين " والمتعصبين لفرق أخرى ، وهذا يعني أنك ستعاني طويلاً من "المسجات" المزعجة ، وامتلاء موبايلك بها ليلة المباراة ، وحتى صبيحة اليوم التالي ، وعندما تجلس أمام كمبيوترك الشخصي ، فإنك ستجد بالتأكيد عددا من الايميلات ، التي "تبارك" لك الخسارة ، وعندما تدخل على صفحتك على موقع الفيسبوك ، فستجدها مليئة بالمداخلات ، وبالتعليقات المستفزة.

  يقول هتلر : "لا تُقدّم التبريرات ، فعندما تكون منتصراً ، لن يطلب احد منك تبريرات للنجاح ، وعندما تكون مهزوماً ، فالأفضل لك أن لا تكون موجوداً ، كي لا تبرر هزيمتك ".  ولذلك لن اخوض في سرد تبريرات الهزيمة ، الموجودة بالفعل ، لأن ذلك لن يغير شيئاً من الواقع ، ولن يخفف من آثار  الهزيمة النفسية ، فبعد انتظار انطلاقة المباراة قبل أيام من انطلاقتها ، وانحباس الأنفاس طيلة تسعين دقيقة واكثر بعد انطلاقتها ، وما يتخللها من قفزات وتأوهات على كل فرصة ضائعة ، وما يجتاحك من عصبية على أداء سيء لأحد اللاعبين ، أو على قرار مجحف من حكم المباراة ، وما تشعر به من انقباضات في القلب مع مضي كل دقيقة ، وترقب مصحوب بجلسة القرفصاء في اللحظات الحرجة ، مع الدعاء بالتوفيق ، تأتي صافرة النهاية ، لتدق ساعة الحقيقة ، وتكتشف ان فريقك المفضل خرج خاسراً ، وفقد أحد أهم الألقاب لهذا الموسم .

   شعور بالإحباط ، وفقدان الرغبة بالكلام ، وشعور عارم بالهزيمة ، وفقدان الرغبة في التواصل مع الآخرين ، وميول جارف للوحدة ، هذا ما يسيطر عليك ، بعد سماعك لصافرة النهاية، وتستمر هذه الحالة لأجل ليس بقريب .

   وعندما يكون فريقك المفضل هو "البارشا" ، فإن هذه الخسارة ، ليست كأي خسارة ، وآثارها ستمتد لأيام ، وليس لمجرد ساعات .

   تقول لي زوجتي مُحاولةً اخراجي من هذه الحالة "انها مجرد مباراة !!"  ولكنها في الحقيقة أكثر من ذلك ، بالنسبة لي هي إدمان كروي جارف ، بدأ منذ زمن بعيد ، منذ الصغر ، ومنذ بدء عشقي لهذه الكرة ، ما زلت أذكر أول مباراة أتابعها لهذا الفريق ، كانت في بداية الثمانينات ، ضمن بطولة اوروبا (دوري ابطال اوروبا حالياً)، كنت صغيراً ، وكانت تلك الايام هي بدايات متابعتي لهذه اللعبة ، كان التلفزيون الأردني وقتها ينقل مباريات الدوري الألماني ، وبعض المباريات الاوروبية ، ما شدني في هذه المبارة ، هو اعلان التلفزيون الاردني ، انه سيقوم باعادة بث مباراة برشلونة ( ولا أذكر الفريق الآخر الآن ) بناءً على رغبة الجمهور في اعادة هذه المباراة المميزة ، شدّني هذا الاعلان ، وقررت متابعة المباراة ، وما زلت أذكر دهشتي ، وانبهاري بهذه المباراة ، وبأداء هذا الفريق الذي لم أكن أعلم عنه شيئا ، ولا اعرف أحدا من لاعبيه ، كان أداؤهم مبهراً بمعنى الكلمة ، كانوا يتمتعون بمهارات فردية خارقة ، ولكن الأجمل من ذلك ، أن هذه المهارات يتم تسخيرها لمصلحة الفريق ، وهذا ما لم يكن مألوفاً في عالم كرة القدم أنذاك ، أذكر أن المباراة كانت باللونين الابيض والاسود ، رغم ان التلفزيون الذي نملكه كان ملوناً حينها ، ولكن التلفزيون الاردني قام ببثها بالابيض والاسود ، ولم اعرف وقتها ما هو لون فانيلة هذا الفريق ، الذي اصبح الفريق رقم واحد في قلبي بعدها، لا يشاركه هذه المنزلة سوى المنتخب البرازيلي ، الذي أبهر العالم في عام 82 ، وما زال حتى الآن .

   ومن المفارقات أن برشلونة عندما أراد أن يحتفل بالذكرى المئوية على تأسيسه في عام 1999 ، قام بدعوة المنتخب الأول على العالم وقتها ، المنتخب البرازيلي ، وكانت فرصة نادرة ولم تتكرر حتى الآن ، لمشاهدة فريقي المفضل ، ضد المنتخب المفضل لدي ، وانتهت وقتها المباراة بالتعادل بهدفين .

 فريق برشلونة هو عبارة عن مدرسة كروية ، استطاعت ان تحافظ على ارثها ، منذ فترة السبعينات وحتى الان ، تقوم على اساس انجاب وتأهيل الناشئين من ابناء النادي ليصبحوا لاعبين مميزين ليس على مستوى النادي وحسب ، بل وعلى مستوى العالم ، واصبح هذا النادي يُقدم لنا جيلاً كروياً يتلوه جيلٌ كروي آخر ، يحمل نفس الرسالة ، اللعب الجميل الأخاذ والمحافظة على المتعة الكروية ، متبنياً مبدأ اللعب الهجومي المفتوح .
   على مدى السنوات الماضية لعب لهذا الفريق افضل اللاعبين على مستوى العالم ، امثال كرويف ، مارادونا ، روماريو ، رونالدو ، ريفالدو ، رونالدينهو ، وآخرين ، والشيء المميز ، ان هؤلاء اللاعبين عندما لعبوا للبارشا ، تطور اداؤهم للافضل ، وقدموا افضل ما لديهم ، وهذا دليل على قوة هذه المدرسة الكروية ، ولعل الظاهرة ميسي ، الذي نشأ وترعرع في مدرسة برشلونة منذ كان عمره ثلاثة عشر عاما ، ليصبح افضل لاعب في العالم ، هو اقوى دليل على نجاح هذه المدرسة . 

      قبل يومين ، خسر البارشا مباراة النصف النهائي لدوري ابطال اوروبا (في مجموع المباراتين) ، امام انتر ميلان الايطالي ،و قبل عام واحد وفي نفس الدور (النصف النهائي) ، تأهل برشلونة على حساب تشلسي في مباراة عصيبة ، ومثيرة للجدل وقتها ، في عدم احتساب الحكم لضربة جزاء لصالح تشلسي ، وكلنا نذكر كيف قام لاعبو تشلسي بالاحتجاج على الحكم ، بل وحاولوا الاعتداء عليه في الملعب وخارجه .

    قبل يومين ، تغاضى الحكم عن احتساب ضربة جزاء لبرشلونة ، وكلنا شاهدنا قميص ابراهيموفيتس الممزق نتيجة الشد من لاعبي الخصم ، وفي الدقائق القاتلة ، سجل برشلونة هدفاً ثانياً كان كفيلاً بنقله الى المباراة النهائية ، ولكن الحكم قام بالغاء الهدف ، وبعد الاعادة والتحليل (التحكيمي) على قناة الجزيرة الرياضية ، تأكدت صحة الهدف وصحة ضربتي جزاء لمصلحة البارشا ، وتأكد أن برشلونة حُرم من تأهل مستحق للمباراة النهائية .

  الفارق بين هاتين الحادثتين ، أننا لم نشاهد اي اعتراض من لاعبي برشلونة على الحكم ، لم يصرخوا في وجهه ، ولم يعتدوا عليه ، ولم يلاحقوه في جنبات الملعب ، ولم يهددوه ، لانهم يدركون انهم يمثلون ناديا ، هو اكثر من مجرد نادي ، انه برشلونة .

   عندما يخسر برشلونة امام فريق الانتر الايطالي ، والذي بالمناسبة لم يلعب له اي لاعب ايطالي في هذه المباراة ، ولكنه ما زال يحمل اسم " الايطالي " ، في احدى مفارقات الكرة العالمية الحالية ، التي اصبحت تعتمد على المادة والتسويق واصبحت صناعة وتجارة مقاولات . اقول عندما يخسر برشلونة ، فان هذه الخسارة ، هي خسارة للكرة الهجومية امام الكرة الدفاعية ، خسارة للمتعة ، امام القوة البدنية ، خسارة لجمال الكرة امام سلبية الفريق الآخر ، هي خسارة ليس لبرشلونة فقط ، انها خسارة لعشاق كرة القدم الحقيقية.

   عندما يتأهل فريق الى اهم مباراة نهائية في الموسم ، ولا يستحوذ على الكرة لاكثر من 30% ، ولا يقوم  بتمرير اكثر من 70 كرة خلال 90 دقيقة ، مقابل 555 تمريرة ، و 70% نسبة استحواذ على الكرة للفريق الآخر ، عندما يتأهل هذا الفريق دون ان يكون له اي هجمة على المرمى ، ولا يقوم بتسديد اي كرة على المرمى ، فهذا يعني ان أكبر خاسر في هذه المباراة هي لعبة كرة القدم نفسها ، وعشاق هذه الكرة .

   واذا خسر برشلونة بطولة الدوري الاسباني هذا العام لملصلحة مدريد ، فهذا يعني ايضا ، خسارة كرة القدم ، وانتصار التجارة والصناعة ، والمقاولات الرياضية ، التي يعتمدها النادي المدريدي ، والذي يعتمد على جلب اللاعبين القادرين على رفد خزينة النادي ، على حساب اللاعبين الذين يقدمون كرة قدم جميلة ، هذا ما تعنيه خسارة البارشا ، ولهذا ما زلت اشعر بالحزن العميق على هذه الخسارة .

   في النهاية ، أبارك لجميع من شعر بالسعادة الغامرة بخروج البارشا ، اقول لهم هنيئاً لكم خروج الكرة الجميلة ، اهنئكم بفوز فريق الانتر الايطالي الذي لا يلعب له اي لاعب ايطالي ، ابارك لكم اللعب السلبي ، واللعب الدفاعي ، وابارك لكم عنجهية المدرب مورينهو ، الذي لم يصدق نفسه عقب الانتصار ، لانه فاز على  الفريق الافضل والاجمل والاحلى ، فريق البارشا .

    وأخيرا أبارك لكم قدرتكم على البقاء متسمرين امام التلفاز طيلة 90 دقيقة دون ان يصل فريقكم المفضل الى المرمى ، ودون ان يُسيطرعلى الكرة ، ودون ان يمرر اكثر من تمريرتين او ثلاثة في المرة الواحدة ، ودون ان يسدد اي كرة على المرمى ، وأن تكونوا مستمتعين برغم كل ذلك ، فعلا أهنئكم على هذه المقدرة التي يفتقدها الكثيرون ، وافتقدها انا شخصيا.

 أيمن أبو لبن
30-4-2010

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق