في
روايته الخالدة "الحب في زمن الكوليرا" يُمجّد الكاتب الكولومبي الكبير "غابرييل غارسيا ماركيز" مبدأ الحب من
أجل الحب، عبر قصة حُب تجمع بين شابٍ فقير من الطبقة الكادحة وفتاة
أرستقراطية في بلاد الكاريبي التي تصارع الموت مع مرض الكوليرا وترزح في ذات الوقت
تحت وطأة الحرب الأهلية. ويُجسّد بطل الرواية "فلورينتينو" كل معاني الإصرار في
سبيل تحقيق هدفه الذي سخّر كل لحظة من حياته لتحقيقه، وهو الظفر بمحبوبته التي
هجرته وتزوجت من طبيب ثري ومرموق من علية القوم. ورغم الفراق فإن "فلورينتينو" يحتفظ بكل مشاعر الحب
الفيّاضة سراً ولا يكشف ذلك لأحد بل إنه يرفض الزواج ويمضي حياته البائسة في
إنتظار موت غريمه الطبيب، غير آبه بإحتمال أن يفارق الحياة هو شخصياً قبله، وبعد
إنتظار نصف قرنٍ من الزمان يتحقق مراده في إعادة المياه إلى مجاريها مع محبوبته
"الأرملة" التي عاش حياته بطولها
وعرضها وهو يتابعها في الخفاء، ولم يكن طيفها يفارقه في صحوه أو نومه.
في رحلة الخمسين عاماً يعيش "فلورينتينو" في الظل وحيداً
منبوذاً لا قيمة له في المجتمع دون أن يلفت الأنظار أو يأبه له أحد، هو (الموجود الذي لا وجود له)، حتى أن ملبسه ومظهره
يوحي بالبؤس وواقع حاله يقول "يا لهذا الرجل البائس !" ولكنه يُحدّد لنفسه
هدفاً واحداً في الحياة، الكفاح كي يستحق حب فتاة أحلامه والإبقاء على بصيص أمل في
أن تبادله نفس المشاعر يوماً وأن يجمعهما سقفٌ واحد ولو كانا على حافة القبر، وهو
ما يتحقق له في النهاية بعد ان يتجاوز العقد السابع من العمر !.
"فلورينتينو" هو مثال كل المُحبّين
الصامتين، الرابضين على جمر الحب الذي لا ينطفأ. هو نصير العاشقين الغلابا الذين
يؤمنون بحظوظهم الى النهاية، حتى لو عاندتهم الحياة، وأختارت أن تُعكّر صفو
أحلامهم وقت الكرى.
لا ادري لماذا قفزت
شخصية "فلورينتينو"
الى ذهني وانا أتابع
تسريبات وثائق بنما، التي كشفت عن الثروات الهائلة التي يكدّسها أثرياء العرب في
الخفاء بعيداً عن أعين الناس، باستخدام الشركات الوهمية لغايات التهرب الضريبي
وغسيل الأموال، ففي الوقت الذي يعتبر فيه عامة الناس أن الحب والمشاعر الإنسانية هما
قارب النجاة الوحيد من هموم الحياة وهدفاً سامياً يعيشون من أجله، حيث تمتزج
حياتهم بمشاعر الوفاء والتضحية ويشاركون الآخرين أفراحهم وأتراحهم محتفظين بالألم
الذي يعتصر في داخلهم - جرّاء تجاربهم الفاشلة ونتيجةً لتضحياتهم التي لا يُلقي
لها البعض بالاً – في السر، حتى لا يفضحوا جرحهم وهوانهم على الناس، ويرضىون أن
يعيشوا في بؤسٍ على هامش الحياة منبوذين لا وزن لهم. في ذات الوقت نرى رجال الدولة
من سياسيين ورجال أعمال ومشاهير يتصدرون المشهد ويستحوذون على إهتمام عدسات
الكاميرا، والصفحات الأولى للصحف والمجلات، وفي الخفاء يكرّسون حياتهم لجمع
الثروات بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة وتكديسها بعيداً عن أعين الناس.
لكل من "فلورينتينو" وأصحاب الشركات الوهمية
في بنما عالمه السري الخاص النقيض للآخر، ولكل واحد فيهما حُلمه الذي يطمح لتحقيقه
ولو كان آخر يوم في حياته، ففي الوقت الذي كان يأمل فيه "فلورينتينو" لقاء محبوبته باعتبارها
البلسم الشافي لكل مآسيه وآلامه، كان أمل هؤلاء، الإستمتاع بثرواتهم في حياتهم ولو
كانوا على شفا حفرة من النهاية، كانت هذه الثروات المنهوبة هي ما تُبقيهم مُتّقدين
مبتهجين في حياتهم. ولكن شتّان بين حب البشر لبعضهم، وحب البشر لجمع المال والثروة
على أعناق الآخرين.
لقد جمع هؤلاء ثرواتهم
من عرق جبين الشعوب، لقد تاجر معظمهم إلاّ من رحم ربي بمُقدّرات الأوطان وأعطوا
لأنفسهم الحق بالتصرف في بيع وشراء كل ما تنفذ له أيديهم من ممتلكات الوطن للحصول
على الربح السريع والعيش على ظهر المواطن الغلبان.
لقد رأينا في الغرب كيف
أن المؤسسات المدنية والحقوقية قد تحركت في سبيل الكشف عن حقيقة "وثائق بنما" ومحاسبة المتورطين في
هذه القضية، في حين أن العالم العربي للأسف يعيش في حالة نُكران لما حصل أو تجاهلٍ
تام وكأن الأمر لا يعنيهم، والحقيقة المُرّة أن أياً من بلداننا العربية لا يمتلك
نظاماً سياسياً شفافاً يضمن القيام بمحاسبة الفاسدين أو التحقق من ثرواتهم، ناهيك
عن عدم إمتلاك مؤسسات مُستقلة تراقب المال العام وتمتلك الصلاحيات اللازمة للقيام
بعملها (وانا لا أتحدث عن المؤسسات الشكليّة التي لا تحمل من وظيفتها سوى الإسم). ولهذا
فإن كل ما يقال عن السؤال والمحاسبة في عالمنا العربي أو محاولة التحقيق في قضايا
الفساد ونهب الأموال العامة، هو أشبه ما يكون بالمعركة التي خاضها دون كيشوت مع
طواحين الهواء !.
لقد قبل "فلورينتينو"الذل والهوان في سبيل
الحب، فرغم هجر حبيبته له وعدم إلتفاتها إليه طوال خمسين عاماً، إحتفظ بحبها العارم
في داخله، وعمل كل ما بمقدوره كي يحوز على رضى محبوبته في النهاية، أما الفاسدين
في عالمنا العربي فقد قبلوا الذل والهوان في سبيل جمع ثرواتهم واتخذوا من مناصبهم ومواقعهم
الإجتماعية وسيلةً لسرقة أموال الشعوب بدلاً من خدمتهم والعمل على نهضة بلادهم، لقد
إكتفوا بالإعتناء بمشاريعهم الخاصة التي ينتفعون بها، والإستثمار في شركات ما وراء
البحار، فأصبحت بلادنا العربيّة أشبه ما نكون بمفهوم "البقرة الحلوب" التي يعيش عليها
هؤلاء، وتربطها بهم علاقة مليئة بالتناقضات الإنسانية، هي حب من نوع آخر، إنه الحب
في زمن أوراق بنما !
لست
بصدد إتهام كل من ذُكرت أسماؤهم في هذه الوثائق بالفساد، فلست مخوّلاً بذلك، كما
أني لا أرفع التهمة عن أحد، ولكني كنت أتمنى من كل من يمتلك الحق في مساءلة هؤلاء
والتحقيق معهم، أن يرفع صوته عالياً ويحاسبهم على الملأ، كم كنت أتمنى أن يكون صوت
المواطن عندنا مسموعاً، وأن يكون لدينا نحن المواطنين الجرأة الكافية أن نقف ونسأل
مسؤولينا مهما علت مناصبهم (من أين لك هذا ؟! )
ولكن المواطن العربي بكل أسف هو "الموجود الذي لا وجود
له !" ، هو الذي ينطبق عليه تماماً حال بطل الرواية " يا
لهذا الرجل البائس ! "
أيمن يوسف أبولبن
19-4-2016
كاتب ومُدوّن من الأردن