الاثنين، 12 مارس 2018

الإنسانية حين تدمّر ذاتها




من حُسن المصادفة أن تترافق مشاهدتي لفيلم “Mother” للكاتب والمخرج الأمريكي "دارين أرونوفسكي"، مع قراءتي لكتاب الفيلسوف الألماني وعالم الاجتماع "أيريك فروم" "الإنسان بين الجوهر والمظهر". ورغم الفارق الزمني بين العَمَلين، واختلاف أرضية الأفكار والرؤية، إلا إنني وبشكل ما، وجدت أن جوهر العَمَلين هو واحد، فكلٌ منهما يحاول إرسال رسالة قوية لبني البشر: عليكم أن تقوموا بتغييرات جذرية في كيفية تعاملكم مع الطبيعة والبيئة وباقي إخوانكم في الانسانية، عليكم نبذ عقيدة التملّك والاستهلاك وتدمير الآخرين، والعودة إلى المبادئ الإنسانية الأساسية (المشاركة والتفاعل والايجابية) التي قامت عليها كل الحضارات الإنسانية والحركات الفلسفية والأديان، فهي ما يجلب السعادة الحقيقية، كونها ثمرة النشاط الإنساني الفعّال، بينما الكآبة هي ثمرة من يتشبث بالمقتنيات وبغريزة التملّك والاستهلاك.
يقول الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا))

عنوان الفيلم المذكور يرمز إلى "الطبيعة"، ويلقي الضوء على هذه العلاقة الشائكة بين الأم وأبنائها منذ خلق آدم الى عصرنا الحاضر، من خلال قصة رمزية تتوالى فيها المشاهد التي تختزل تاريخ البشرية وجرائم البشر في حق الطبيعة والبيئة، وفي حق بعضهم البعض، بل وادعاء كل فئة منهم تجسيد إرادة الله في الأرض.

يمكننا القول إن الصراع البشري على حق التملّك وادعاء القرب الى الله قد بدأ منذ خلق البشرية، حيث تجلّى في قصة هابيل وقابيل، ومنذ تلك اللحظة الى يومنا هذا استمر الصراع بين مجتمع محوره جوهر الإنسان والقيم الإنسانية، ومجتمع آخر محوره الممتلكات والنَهَمْ الاستهلاكي. يؤمن المجتمع الأخير بأن قيمة الفرد تتعاظم بمقدار ما يقتنيه ويمتلكه وبهذا تكون حلبة المنافسة على أشدّها بين جميع أفراده.
 بينما يؤمن الأول أن تحقيق الرغبات الإنسانية في حدود، والعمل على تحقيق الاحتياجات الاجتماعية، والقيم الإنسانية العليا، يؤدي في النهاية إلى السعادة المأمولة، وإلى تحقيق حياة راقية ذات جودة.

من المؤسف ملاحظة أن البشرية بمعظمها الآن قد تحوّلت إلى مجتمعات استهلاكية، تطغى عليها لذّة التملّك المادي، بحيث انحصرت أهداف أفرادها، في الحصول على وظيفة تدر دخلاً ضخماً، وشراء منزل فاخر، وسيارة فارهة. (يعلّق إيريك فروم على هذا بالقول إننا ودون أن نشعر نعبّر عن عقيدة التملّك لدينا بالقول "لدي" زوجة وأطفال!)
وفي الجهة المقابلة، خفتت عقيدة المشاركة والعطاء، التي تؤمن بالتكافل الاجتماعي والقيام بالأعمال التطوعية الخيرية، والسعي من أجل المحافظة على البيئة والموارد الطبيعية.

وبالعودة الى الفيلم، لفت نظري مشهدين مؤثرين، أولهما مشهد تخريب الضيوف منزل بطلة الفيلم (التي ترمز الى الطبيعة)، وتصرفهم بأغراضه ومقتنياته كأنها حقٌ صرفٌ لهم، متناسين أنهم في النهاية "ضيوف" وأن تواجدهم هو من باب الكرم والجود، في إشارة إلى كيفية تعامل البشر مع موارد الطبيعة، على أنها مكسب وحقٌ خاص، وهذا ينسحب على تصرفاتنا جميعاً اليوم، سواء كحكومات رسمية، أو مؤسسات عامة أو حتى بصفتنا أفراداً.

وثاني المشاهد، هو مشهد الحروب المتتالية التي تدور رحاها بين البشر، حيث نقتل بعضنا بعضاً، ونُمعن في الخراب والتدمير، وفي داخل كل واحد فينا، شعور متوهج بأنه يمثل الحق والحقيقة، وأنه في فعلته تلك يُرضي الله ويستحق على هذا الثناء والتمجيد، متناسين أن الله لم يخلقنا كي نقتل بعضنا أو نتعارك ونتخالف، بل خلقنا كي ننعم بالسلام والطمأنينة ونتعاون ونتكافل فيما بيننا، ونتشارك في نعمه وهباته، بعيداً عن العنصرية والطائفية بكل أشكالها.

للأسف، باتت أفكار المشاركة والتفاعل والتعاون، أفكاراً ساذجة في عصرنا هذا، فالدول القوية تريد أن تستأثر بالمصادر الطبيعية والموارد دون غيرها، وتخوض الحروب كي تستطيع تأمين الوصول الى هذه الموارد واستغلالها، وتعتمد في صناعتها ورقيّ مجتمعاتها على الإضرار في البيئة والمُناخ دون حسيب أو رقيب، بل إنها تقوم بتطوير أسلحة الدمار الشامل التي تهدد البشرية جمعاء، فيما تعجز الدول الفقيرة عن استغلال مواردها الطبيعية، وتظل رهينة الاستغلال السياسي والنهب الاقتصادي.

وفي داخل كل دولة معاصرة، تقوم الطبقة الغنية باستغلال الطبقات الدنيا لضمان حصولها على المادة والثروة، كي تشبع نهمها ورغباتها الدفينة في التملّك والاقتناء، فيما تُحرم الطبقات العاملة من حقوقها الأساسية.

وينطبق الأمر على رجال الدين، فكل متعصب، يعتقد بأن رسالة الله التي يؤمن بها هي ملك لطائفة من الناس، وأن الله قد حباهم بميزة التفضيل عن غيرهم، وبالتالي فإن من حقهم أن يتعاملوا معها كأداة قابلة للتملّك، كي يحققوا هدفهم في نيل رضا الله، بينما يتجاهلون ويتناسون أن الرسالة السماوية في أساسها تقوم على المشاركة والتفاعل مع الإنسانية جمعاء، وحسن الخلق في المجتمعات، والإحسان الى الحيوان والنبات والطبيعة.
ونتيجةً لسوء الفهم المتوارث هذا، يتحوّل الدين في النهاية إلى مادة استهلاكية، ومجرد مقتنيات نقتنيها ونعلّقها على جدران منازلنا أو نضعها ميدالية في يدنا أو وساماً نزين به ملابسنا، ثم لا نلبث أن نتنازع على هذه "الهوية" فنقتل بعضنا بعضاً، كي ننال نصيبنا من جنان النعيم، ونرسل "عدونا" الى الجحيم!

أما طبقة المثقفين والمفكرين، فقد أصبحت حواراتها تتمحور حول إثبات صحة أفكارها، وليس بهدف الوصول الى الحقيقة أو بنيّة خدمة الإنسانية والمجتمعات أو القضايا الإنسانية العامة، فكلّما أثبت هذا الفرد أو ذاك أن آرائه صحيحة زادت قيمة ما يملك من أفكار، وبالتالي زادت قيمته هو!
وما لبثت هذه الأفكار أن أصبحت خالية من كل القيم، ولا تحمل من مضمونها سوى الاسم والكلمات التي نرددها دون وعي أو منطق أو اقتناع حقيقي.

عندما تصبح قيمة الانسان مرتبطة بما يقتنيه وما يملكه وليس بأخلاقه وأفكاره، والقضايا الإنسانية التي يتبناها ويؤمن بها ويعمل من أجلها، فإننا نكرّس بوعي أو دون وعي هذا الخلل بين جوهر الانسان ومظهره، وهذا بدوره يؤدي إلى تعاظم مستويات القلق والخوف في مجتمعاتنا والشعور بعدم الأمن والأمان، لأن شخصياتنا قد تحولت في النهاية إلى مجرّد أشياء، عرضةً للضياع والخسران!


 أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن

11-3-2018

الاثنين، 5 مارس 2018

نتائج جوائز الأوسكار لعام 2018




 قائمة الأفلام الفائزة بجوائز الأوسكار لعام 2018:

حصد فيلم "The Shape of Water" جائزة أفضل فيلم.


وفاز مخرجه غييرمو ديل تورو بجائزة أفضل مخرج.
وفاز غاري أولدمان بجائزة أفضل ممثل عن دوره في فيلم "Darkest Hour"
فازت الممثلة الأمريكية فرانسيس ماكدورمند بجائزة أفضل ممثلة عن فيلم "Three Billboards Outside Ebbing, Missouri".
وذهبت جائزة أفضل ممثل في دور مساند إلى سام روكويل عن فيلم "Three Billboards Outside Ebbing, Missouri".
بينما ذهبت جائزة أفضل ممثلة في دور مساند إلى الممثلة أليسون جايني عن فيلم "I, Tonya".
جائزة أفضل فيلم قصير لفيلم "The Silent Child".
- جائزة أفضل فيلم وثائقي لفيلم "Icarus".
- جائزة أفضل فيلم وثائقي قصير وفاز بها فيلم "Heaven is the Traffic Jam on the 405".
جائزة أفضل فيلم أجنبي للفيلم التشيلي "A Fantastic Woman"، متفوقاً على الفيلم اللبناني "القضية 23".
جائزة أفضل فيلم رسوم متحركة "Coco".


The full list:
Best Picture
Call Me By Your Name
Darkest Hour
Dunkirk
Get Out
Lady Bird
Phantom Thread
The Post
The Shape of Water
Three Billboards Outside Ebbing, Missouri
Best Actor
Timothee Chalamet, Call Me By Your Name
Daniel Day Lewis, Phantom Thread
Daniel Kaluuya, Get Out
Gary Oldman, Darkest Hour
Denzel Washington, Roman J. Isreal, Esq
Best Actress
Sally Hawkins, The Shape of Water
Frances McDormand, Three Billboards Outside Ebbing, Missouri
Margot Robbie, I, Tonya
Saoirse Ronan, Lady Bird
Meryl Streep, The Post
Best Supporting Actress
Mary J. Blige, Mudbound
Octavia Spencer, The Shape of Water
Allison Janney, I, Tonya
Laurie Metcalf, Lady Bird
Lesley Manville, Phantom Thread
Best Supporting Actor
Willem Dafoe, The Florida Project
Woody Harrelson, Three Billboards outside Ebbing, Missouri
Richard Jenkins, The Shape of Water
Christopher Plummer, All the Money in the World
Sam Rockwell, Three Billboards outside Ebbing, Missouri
Best Director
Dunkirk, Christopher Nolan
Get Out, Jordan Peele
Lady Bird, Greta Gerwig
Phantom Thread, Paul Thomas Anderson
The Shape of Water, Guillermo del Toro
Best Animated Feature Film
The Breadwinner
Coco
Ferdinand
The Boss Baby
Loving Vincent
Original Screenplay
The Big Sick
Get Out
Lady Bird
The Shape of Water
Three Billboards Outside Ebbing, Missouri
Best Adapted Screenplay
Call Me By Your Name
The Disaster Artist
Logan
Molly’s Game
Mudbound
Original Song
“Mighty River,” Mudbound
“Mystery of Love,” Call Me By Your Name
“Remember Me,” Coco
“Stand up For Something,” Marshall
“This is Me,” The Greatest Showman
Best Foreign Language Film
The Insult, Lebanon
Loveless, Russia
On Body and Soul, Hungary
The Square, Sweden
A Fantastic Woman, Chile
Best Documentary Short Subject
Edith and Eddie
Heaven is a Traffic Jam on the 405
Heroin(e)
Knife Skills
Traffic Stop
Best Documentary Feature
Abacus
Faces Places
Icarus
Last Men in Aleppo
Strong Island
Best Production Design
Beauty and the Beast
Bladerunner 2049
Darkest Hour
Dunkirk
The Shape of Water
Best Cinematography
Blade Runner 2049
Darkest Hour
Dunkirk
Mudbound
The Shape of Water
Best Costume Design
Beauty and The Beast
Darkest Hour
Phantom Thread
The Shape of water
Victoria & Abdul
Best Sound Editing
Baby Driver
Bladerunner 2049
Dunkirk
The Shape of Water
Star Wars: The Last Jedi
Best Sound Mixing
Baby Driver
Bladerunner 2049
Dunkirk
The Shape of Water
Star Wars: The Last Jedi
Best Animated Short Film
Dear Basketball
Garden Party
Lou
Negative Space
Revolting Rhymes
Best Original Score
Dunkirk
Phantom Thread
The Shape of Water
Star Wars: The Last Jedi
Three Billboards Outside Ebbing, Missouri

Best Visual Effects
Blade Runner 2049
Guardians of the Galaxy Vol2
Kong: Skull Island
Star Wars: The Last Jedi
War for the Planet of the Apes
Best Film Editing
Baby Driver
Dunkirk
I, Tonya
The Shape of Water
Three Billboards Outside Ebbing, Missouri
Best Makeup and Hairstyling
Darkest Hour
Victoria & Abdul
Wonder
Best Live Action Short
DeKalb Elementary
The Eleven O’Clock
My Nephew Emmett
The Silent Child
Watu Wote/All of Us

رواية (أولاد الغيتو)


ترنيمات حزينة على إيقاعات صمت الضحايا



في رواية اسمي آدم-أولاد الغيتو اعتمد الكاتب والأديب اللبناني "الياس خوري" على أسلوب أدبي لافت ومميز ليس كغيره من أدب الروايات الذي اعتدنا عليه، فهو في البداية يدفع بنفسه خارج إطار الرواية أو لنقل إنه يُسقط سياسة "النأي بالنفس" على روايته، لتصبح ملكاً للقارئ وليس للمؤلف، تاركاً القارئ في مواجهة ما يشبه العصف الذهني أو التفكير بصوت عالٍ، بعيداً عن قالب الرواية الكلاسيكية التي تعتمد على شخصيات محددة تعيش في بيئة درامية مشتركة، وتربطهم خطوط درامية متجانسة.
كان مفاجئاً عدم فوز هذه الرواية بجائزة أفضل رواية في مسابقة البوكر العربية 2017. لست ناقداً فنيّاً، ولكني شخصياً أقول إنها تستحق الجائزة، خصوصاً بعد قراءتي لروايات القائمة القصيرة للجائزة العام الماضي.

تبدأ الرواية بإقحام شخصية المؤلف نفسه في الأحداث ومواجهته لآدم الكاتب "المُفترض" للرواية، وتبدأ الحكاية بخلاف بينهما في وجهات النظر، ينتهي بحصول المؤلف "خوري" على مخطوط هذه الرواية وقراره نشرها كما هي بعد انتحار صاحبها الأصلي "آدم" (مجهول الهوية)!

للوهلة الأولى تبدو نصوص الرواية متباعدة، مجموعة من الأفكار والقصص لشخصٍ فاقدٍ للهوية، يتحدث مع نفسه بصوتٍ عال، يجترح الذكريات ويجتر المشاعر السلبية ثم يبحر الى الماضي السحيق ويستخرج من أعماق الذكريات اوجاعه ومأساته التي يتضح في النهاية انها مأساة شعب بأكمله، بل إنها مأساة الإنسانية جمعاء.
رواية لا تشبه باقي الروايات، ولا هي سيرة شخصية كذلك، بل إنها أقرب ما تكون إلى مُدوّنة لكاتبٍ قرر أن يضع حداً لحياته، ولكنه قبل أن يُقدم على ذلك كان عليه أن يعترف بكل ما كبته أو عجز عن البوح به، وبعد ان أتم اعترافه الأخير، أوصى بحرق كل ما كتب لأنه لا يستحق النشر!

يأخذنا الكاتب في البداية الى رحلة عبر التاريخ مع حكاية الشاعر "وضّاح اليمن"، الذي يقع في عشق فتاة تدعى "روضة"، ما يلبث أن يصيبها الجذام وتُعزل في وادي المجذومين، وحين يتسلل لذلك الوادي (المعزول جبرياً) لرؤيتها، يتفاجأ بحالها البئيسة مع المرض ولا يستطع تحمل ذلك المنظر، فيتجاهل معاناتها ونداءاتها ويتركها ويرحل بعيداً، لتحلّ عليه لعنتها فتصيبه "لوثة الجنون" ويتيه في الأرض ولكنه يؤلّف فيها أجمل الأشعار وينشد في حبها أجمل القصائد، فيذيع صيته، وتدخل "روضة" التاريخ من أوسع ابوابه.
ثم يقوده القدر لعشق زوجة الخليفة "الوليد بن عبد الملك" التي تُخفيه في جناح قصرها داخل صندوق، وحين يشي به أحد الحراس، يقرر الخليفة دفن الصندوق بما فيه للقضاء على الفتنة دون أن يكشف ما في داخل الصندوق، فإن كانت الوشاية صحيحة مات العاشق وان كَذُبت لن يضر دفن صندوق!

وهنا يسقط الكاتب مأساة رواية غسان كنفاني "رجال في الشمس" على قصة وضاح اليمن، ويطرح السؤال الذي ما زال يحيّرنا الى اليوم: (لماذا لم يدقّوا جدران الخزّان؟!) لماذا تعمّد وضاح اليمن السكوت وإخفاء وجوده في الصندوق، وقَبِلَ أن يكون شهيد العشق داخل ما أصبح يعرف ب (صندوق الحب) ؟! هل هو إخلاصه لزوجة الوليد أم تكفيراً عن مغادرته روضة وهي تحتضر، أم استسلاماً للموت الذي لا مفر منه!

تبدو هذه القصة معزولة ظاهرياً عن الرواية الأساسية عن أهل الغيتو، سكان مدينة اللد الفلسطينية، الذين حبسهم جيش الاحتلال داخل الأسلاك الشائكة في مدينتهم المدمرة ثم أجبرهم على تنظيف المدينة من الجثث، وتفريغ البيوت من أثاثها ومقتنياتها، وحصد محاصيل مزارعهم لصالح خزينة دولة الاحتلال، وخلال تلك المحنة اضطروا للمحافظة على حيواتهم وتدبير أمور معيشتهم في ظل عزلة تامة عن العالم الخارجي.

ولكن المتمعن في الصورة، يرى ان أهل اللد (مثلهم مثل من عايش مأساة فلسطين عامة) كانوا يُساقون الى الموت وهم يعلمون ذلك جيداً، ولكنهم فقدوا الأمل وانعدمت البدائل وتبخّرت فرص الحياة أمامهم، فاختاروا الرحيل بهدوء وصمت عميقين، إنه إيقاع صمت الضحايا!
والذين عاشوا منهم، عاشوا عبيداً للذاكرة، حيث كان عليهم أن يتأقلموا مع العيش داخل ذاكرتهم، التي أصبحت بديلاً عن الواقع، محاولين التمسك بآخر خيط يربطهم بالوطن، وعبير ذكرياتهم، فأصبحوا في النهاية محبوسين داخل ذلك الصندوق، صندوق الخوف أو صندوق الذاكرة، داخل ذلك الغيتو، أو حتى داخل خزّان الماء في رواية غسان كنفاني، سمّه ما شئت!

((أنا ككل الفلسطينيين الذين فقدوا كل شيء حين فقدوا وطنهم، لا أرمي أي شيء له علاقة بالذاكرة الهاربة، فنحن عبيد ذاكرتنا. الذاكرة جرحٌ في الروح لا يندمل، عليك التأقلم مع صديده الذي ينزّ من شقوقه المفتوحة))

الأقسى من الموت أن تعيش الغربة داخل الوطن، فمن نجى من مذبحة اللد، تم تجريده من كل حقوق المواطنة، مع الاستمرار في العيش داخل الأسلاك الشائكة، داخل قفص الغيتو، وكان على هؤلاء الناجين التعايش مع حقيقة أنهم وجميع ما يملكون قد أصبحوا جزءا من دولة الاحتلال.

((حاولت أن أشرح له وأنا أتأتئ من الرهبة أن هذه الطاولة صنعها أبي بيديه ووضعناها في غرفة الطعام وهي مصنوعة من خشب زيتونةٍ مُعمّرة يَبِست في حَقْلنا، وأبي أراد لهذه الزيتونة أن ترافقنا طوال العمر لأن رائحة خشب الزيتون تفحّ منها....الرائحة يا سيدي، هذه رائحتنا وأنتم سرقتم رائحة أبي!)) 

يأتي الكاتب في الرواية على "مسيرة الموت" في اليوم الأخير من مذبحة صبرا وشاتيلا، ويقول على لسان أحد الناجين منها: (كانت مسيرة تصفيق وهتاف وقتل.. أجبرونا على التوقف وسمعنا مُكبّر الصوت يأمرنا بالرقص "ارقصوا يا أولاد الش***" لم يتحرك أحد أو يصدر صوت...
 ... وجدت نفسي أرقص، لا تسألني كم من الوقت رقصنا لأنني لا أعرف، فالوقت لا يختفي الا في لحظتين، الرقص والموت، فكيف إذا اجتمعتا !!
... هنا مات كل الناس، كل البشرية ماتت في لحظة الرقص تلك!)

الموت في هذه الرواية ليس كباقي الموت الذي نعرفه، إنه موت يمتزج بساديّة القاتل، ورفض القتيل أن يُقتل، بل يقرّر أن يموت هو!

((ربما كانت بلاغة الموت الكبرى أن أبطاله لا يستطيعون روايته))
((فيك تتخيل: منعونا نبكي! هل سمعت بجيش احتلال يمنع ضحاياه من البكاء؟
نحن مُنعنا من البكاء، وحين لا يعود باستطاعتك أن تبكي، خوفاً من أن تُقتل، يصير الكلام بلا معنى!))
  
لعل هاتين العبارتين تُلخّصان ما أراد الكاتب أن يقوله في الرواية، لقد حاول أن يستنطق الموت ويجعله يروي حكاية ضحاياه، كي يحرّرهم ويستطيعوا بعدها أن يبكوا بحرية أن يتحدثوا دون خوف من أن يموتوا ثانية، أن يدقّوا جدران الخزان، ويكسروا صندوق الخوف!

 أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
4-3-2018