يقول
أنتوني كوين
الممثل الامريكي، والذي أشتهر بتجسيده شخصية
"زوربا" اليوناني، و"عمر
المختار" في فيلم "أسد
الصحراء" للراحل مصطفى العقاد، يقول أنه تعلم حكمة في
بداياته الفنيّة، كان لها الدور الكبير في نجاحاته اللاحقة، وكانت بمثابة البوصلة
التي عملت على توجيهه في اختياراته الفنية، هذه الحكمة أو النصيحة أخذها عن أحد
عمالقة صناعة السينما حينها وتقول "يا بني، الجمهور لا يأتي الى السينما
لتكرار مشاهد الحياة اليومية، بل للهروب من واقعهم؛ قدّم لهم شيئا مُدهشاً يهرب
بهم الى حيث أحلامهم ".
في بداية ظهور الأفلام السينمائية، كان مجرد
مشاهدة شخصيات واقعية تؤدي أدواراً على الشاشة بالصورة ثم بالصوت والصورة، كافياً
لخلق الدهشة والانبهار لدى الجمهور، ورويداً رويداً بدأت السينما باحتلال مرتبة
أساسية للترفيه عن الشعوب، وتأدية دور ايجابي بالتأثير في المجتمع، ومن هنا بدأت
الدوائر صاحبة القرار باستغلال الفن وصناعة السينما بالذات في بث رسائل للجماهير
وتحقيق أهداف خفية من خلالها.
ومع تقدم التكنولوجيا وصناعة السينما، أصبح
المجال مُتاحاً لتجسيد أفكار خيالية، وتطويعها لتعرض على شاشة السينما فيتلقاها
المشاهد و يصدقها ويتأثر بها، وتنجح بالتالي في اثارة الدهشة والاعجاب وتصل الى النجاح
المنشود سواءً على مستوى الاقبال الجماهيري والايرادات، أو على مستوى المسابقات
الفنية والجوائز. ولكن العنصر الأهم لنجاح أي فيلم وتميزه، هو تبنيه لفكرة غريبة
ونادرة، تثير الفضول لدى المشاهد وتطلق العنان لمخيلته الفكرية، وتفتح له باب
التأمل على مصراعيه، وتترك عنده بصمة عميقة ترتبط بهذا الفيلم، وأذكر هنا ثلاثة أفلام
حُفرت ذكراها في ذهني خاصة، ويشاركني بها -على ما أعتقد- متابعو الأفلام وعشاق الفن السابع، فيلم "الشبح
“ Ghost
، " الحاسة
السادسة 6th Sense " وأخيرا
فيلم " الايحاءInception
".
بعيداً عن ابهار الفكرة والابهار التكنولوجي،
من اللافت للانتباه لدى معظم المتابعين أن أكثر الأفلام تأثيرا في الجماهير وأكثرها
نجاحاً على مستوى تقييم النقاد والحصول على الجوائز الفنية وعلى رأسها الأوسكار،
هي تلك الأفلام التي تنقل الواقع وتجسده بشكل درامي مؤثر، أو تلك الأفلام التي
تحيك قصصاً تحاكي فيها الواقع وتُسقط الخيال السينمائي على أحداث واقعية فتصدم
الجمهور وتثير الدهشة بصدقها وتحليلها للواقع بطريقة فنية، بحيث تجعلنا نرى الأمور
من زاوية أخرى كانت غائبةً عنا وسط الضغوطات التي نعيشها في حياتنا اليومية، فتتيح
لنا هذه الأفلام مجالا للتأمل والتفكير، أو مراجعة أنفسنا فيما نفعله.
لعل فيلم "انقاذ
الجندي رايان Saving Private Ryan " من انتاج واخراج ستفين سبيلبيرغ، أفضل مثال على هذه
النوعية من الأفلام، بعد النجاح الكبير الذي حققه وجعله مرجعاً للأفلام الحربية
بعد حصوله على 5 جوائز أوسكار، ولم يأت هذا النجاح من فراغ بل كان ثمرة عمل دؤوب
من صانعي الفيلم حيث قام فريق الاعداد برسم الخط الدرامي للفيلم بصياغة قصة
سينمائية مثيرة، ثم قاموا باجراء لقاءات مع عدد كبير من الجنود والضباط الذين
شاركوا في الحرب العالمية الثانية ومن خلال هذه اللقاءات قام معدّو الفيلم بتوثيق
تفاصيل أكثر من 20 معركة حقيقية، وأخيراً قاموا بربط شهادات المحاربين ونسجها مع
القصة السينمائية المُفترضة، لتكون النتيجة قصة درامية مؤثرة بقالب فني ابداعي من
حيث استخدام المؤثرات الصوتية والبصرية، والأداء التمثيلي الراقي، بالاضافة الى
وجود مخرج مُبدع استطاع أن يستخدم الكاميرا بذكاء، فكانت النتيجة ابهار وادهاش
للمشاهد ما بعده ابهار.
في
افتتاح الفيلم قال سبيلبيرغ "هدفي هو أن أعرض للناس ولأصحاب القرار بشاعة
وفظاعىة الحروب على البشرية، وأن أجعلهم يفكروا جيداً قبل أن يؤيدوا حرباً أو
يشاركوا فيها".
ان
أكثر ما يؤثر فينا كمُشاهدين، هو ربط أحداث الفيلم بمعاناتنا اليومية وبأحداث حدثت
بالفعل لنا أو لأناس عايشناهم وخالطناهم، وبذلك يترك الفيلم بصمةً عميقةً في
وجداننا. ما زلت أذكر والدي كيف كان يُبدي تأثره عند مشاهدته لأي فيلم يتحدث عن
معاناة القضية الفلسطينية، وأذكر كيف كان يربط بين مشاهد فيلم "الرسالة" على
سبيل المثال و المعاناة التي عاشها في ظل المآسي التي ما زالت عالقة في ذاكرته عن
التعذيب والقتل والتهجير والاضطهاد، كنت أراقبه وعيناه تدمعان بصمت، ثم أسأله بعد
ذلك فيجيب: "تذكرت حالنا أيام
البلاد" !!
هذه هي الدهشة التي تحدث عنها أنتوني كوين، بأن
نرى أنفسنا في شخصية معينة في الفيلم، أو أن نتفاعل مع الفيلم وكأننا نعيشه، وهذا
هو الدور الذي يفترض أن يلعبه الفن في حياتنا عموماً والسينما خاصة، وهذا ما
أفتقده أنا شخصياً
في السنوات
الأخيرة، حيث غابت الدهشة وغاب الابهار عن الافلام السينمائية ولم تعد تعرض ما
يبهرني او يشد انتباهي لا لشيء سوى أن حياتنا اليومية التي نعيشها باتت مليئة
بالابهار والدهشة، بالانكسار وبالخوف، ولا تخلو من الكوميديا السوداء أيضاً.
أذكر أني كنت حريصاً على تجنيب أبنائي مشاهدة الأفلام
التي تحتوي على الكثير من العنف والقتل ومشاهد الدماء، ولكني وجدت نفسي لا أكترث
لذلك مؤخراً، لسهولة اقناعهم بأن هذا مجرد تمثيل أو خداع سينمائي، ولكني صرت أكثر
حرصاً على عدم متابعتهم لنشرات الأخبار، وصرت قلقاً من الأسئلة التي يمكن أن
يطرحها ابني البكر من خلال متابعته لمواقع التواصل الاجتماعي، ماذا سأجيبه يا ترى
ومن أين سأجد له مبررات لدوامة العنف التي نعيشها !!
السينما برأيي باتت بحاجة الى ثورة وطفرة
جديدة كي تستطيع أن تُدهشنا من جديد، وتجذبنا اليها، أو ربما تكون بحاجة للتركيز
على أحلامنا الضائعة وحقوقنا المفقودة، كما قال أنتوني كوين، أعتقد أننا جميعا نصبو
الى رؤية أحلامنا تتحقق حتى لو كان ذلك مجرد فيلم سينمائي، قد يكون هذا مُدهشا
حقاً !
كم أتوق الآن لمشاهدة المشهد الأخير من فيلم " Papillon " ورؤية ستيف ماكوين وهو يقفز من أعلى
الجبل باتجاه البحر محققاً حلم الحرية الذي أمضى سنين عمره وهو متمسكٌ به، متشبثٌ
بالأمل في تحقيقه ولو بعد حين، فالحريه هي اخر وأفضل أمل على ظهر الارض، كما قال ابراهام
لينكولن.
أيمن
أبولبن
25-3-2014