رغم كل ما أتسلّح به من إيمان، وقناعة بأن الموت حقٌ وأنه نتيجة حتمية لوجود الحياة، وأنه بابٌ نعبر منه نحو الحياة الآخرة وجنة الخلود للمؤمن، إلا أن مأساة الموت تكمن في الفقدان ذاته، في الغياب، في خسارة تلك الصداقة الحميمة التي تربطنا بأقراننا وأحبائنا، من توقف الزمن، من النهايات، انتهاء ذكرياتنا وصداقاتنا ولحظات السعادة بل وحتى لحظات الشقاء والمعاناة التي جمعتنا، ناهيك عن الخوف من موتنا نحن، من غيابنا عن وجه العالم، ومغادرتنا إلى ذلك المصير المجهول، فتلك فكرة تختصر كل مخاوفنا وسائر الفوبيات التي ترافقنا في حياتنا، وصدق غسان كنفاني حين قال: (أرهقتني فكرة أن أموت... أن أنتهي، ويستمر كل شيء!!)
كنت في الثامنة والعشرين حين غادرنا أبي، ولا زلت أذكر كل تفاصيل تلك المأساة التي عشناها، ولا أخفي سراً إن قلت، إن آثارها ما زالت عالقة في نفسي أو لربما أخفيتها في عقلي الباطني وتركت لها النافذة مفتوحة لتسيطر علي في الخفاء دون أن أشعر.
مهما ادعيت بعد ذلك، أني تصالحت مع الموت كفكرة وتقبّلتها، ومهما تسلّحت بكل تلك الإيمانيات التي تدعو لتقبّل تلك الفكرة، ومهما اعتقدت بصحة كل الفلسفات التي تنظر إلى الموت كبداية حياة، وليس نقيضاً للحياة ذاتها، إلا اني أعترف أني في كل تجربة جديدة أخوضها مع الموت أجد نفسي عاجزاً عن تقبّله والتعامل معه من منظور فلسفي أو إيماني متعالٍ عن الحدث.
يحتاج الفرد فينا مهما وصل إلى فكرٍ فلسفيٍ راقٍ، وإيمانٍ راسخ، إلى جهد كبير ومتجدد كي يستمر في صراعه مع فكرة الغياب، والتغلّبِ على آثار تلك التجربة المريرة. يقول الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا (توفي عام 2004) (المهمة الأساسية للفلسفة أن تساعدنا على تقبّل الموت كخسارةٍ مطلقة بلا تعويض ولا عزاء!).
الموت يدعونا لطرح كل تلك الأسئلة الجوهرية عن الحياة وأسلوب العيش، ويرغمنا على إعادة النظر في أسباب وجودنا، وإلى طرح الأسئلة المتعلقة بها ومناقشة تلك الأفكار قبل فوات الأوان.
الحقيقة أننا وفي خضم حياتنا نخوض تجربة الموت مراراً وتكراراً بشكل أو بآخر دون أن نلاحظ، نخرج منتصرين حيناً وخاسرين أحياناً؛ لحظات الوداع، الهجرة والفراق، كل الغيابات التي تؤدي إلى موت شيء ما في داخلنا، مع كل تجربةٍ من هذه التجارب يكبر خوفنا، ويتعربش على حيطان مُخيّلاتنا، نخاف من الوحدة من تغيير الوظيفة والسكن، نخاف من تجربة كل نمط جديد في الحياة، نخاف من المخاطرة، من السفر ... نخاف من الغياب.
وهكذا نعيش مع الموت "الصغير" ونقترب من تجربة الموت أكثر، مع فقدان كل عزيز، أو خسارة صديق أو غياب حبيب، فمع كل خسارة من هذا النوع يموت فينا شيء ما وتنكسر في داخلنا رغبة أو أمل خفي، وهكذا فأننا لا نموت دفعة واحدة، بل نموت ببطىء، ومع كل محطة نخلع عن ذواتنا رداءً من رداءات الحياة الزاهية، حتى إذا مضينا قدماً خلعنا رداء الخوف ذاته، وبتنا نحتمل الغياب، مستعدين له!!.
شئنا ام أبينا فالموت جزء لا يتجزأ من حياتنا، من طبيعتنا، بل جزء من أنفسنا، والانتصار عليه يكون في إتقان مهارة الحياة وتقبّل الموت كجزء منها، وتلك معادلة أعترف أنني برعت فيها مرات كثيرة، أو لعلي نجحت في خداع نفسي بها ببراعة كافية!
ابن عربي- الشيخ الأكبر للصوفيّة- يصف الحب بالموت الصغير في مقولته الشهيرة (الحبُّ موتٌ صغير) فالحب نهاية عهد وبداية عهد جديد، وكل ما هو زائل إنما هو خطوة على طريق الموت، أما الحب الدنيوي فهو خطوة تقرّبنا من الحب النهائي الأبدي (العشق الالهي) والذي يكتمل بالموت الكبير، لذا كان الفقدان والخسران والقلق والحيرة والاضطراب وكل ما يعتري نفس المحب العاشق الولهان، والألم عند الفراق والاغتراب، موتاً صغيراً!!
وكأني بابن عربي يقول إننا عندما نتقبل فكرة الموت النهائي، فهذا يعني أن نتقبل الميتات الصغرى التي نتعرض لها في الحياة، لحظات الوداع، الغياب، الفراق المحتوم ومن ثم الزوال، وما وجودنا في الحياة إلا موت صغير انتقل بنا من رحم أمهاتنا إلى فضاء هذه الدنيا الواسعة، (كانت الأرحام أوطاننا فاغتربنا عنها في الولادة).
وهكذا فإن الانتصار على الموت، والتغلّب على فكرة الغياب، لا يكون إلا من خلال احترام حياتنا وتقديرها، والتشبّث بأسبابها، على اعتبار أنها قيمة وجودنا، وهذا يتطلب اتقاننا لمهارة العيش، وفن ممارسة الحياة، وعدم الخوف من الميتات الصغيرة.
إن فن العيش أو فن ممارسة الحياة، يتطلب منا وضع هدف سام لوجودنا وقيمة عظمى نعيش من أجلها، كي لا نعيش على هامش الحياة، وهذا الهدف هو ما يجعل لحياتنا ووجودنا معنىً وليس مجرد مرور عبثي.
كما أن فن العيش يساعدنا على تقدير كل لحظات السعادة التي تمر بنا، وتقديرها وابداء الامتنان للحياة على منحنا إياها، ذلك يساعدنا على تقدير أصدقائنا واللحظات الجميلة التي تجمعنا بهم، يساعدنا على التعبير عن مشاعرنا بحرية، وصدق دون خجل أو استحياء، أو مكابرة.
إن إتقان فن العيش يعني أن نتقبل الحياة كما هي، بفرحها وترحها، حينها سنشعر بجودة الحياة، وبقيمة كل لحظة سعادة تمنحنا إياها الحياة، ولو كانت ضئيلة، وسوف نحتفي بتلك اللحظات إلى أقصى حد.
وهكذا، ومع إتقاننا لفن العيش، يقل مقدار خوفنا من الموت بمقدار ما نحرّر أنفسنا من الرغبة في الاستدامة الوجودية، وتعويض ذلك بتعزيز حضورنا من خلال إرثنا الفكري والانساني الذي خلّفناه، عندها وفقط عندها، سنهزم الموت، ولن نعاني من الغياب!
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
23-7-2020