الجمعة، 24 يوليو 2020

الخوفُ من الغياب

في الفترة الأخيرة، عانيت من تجربيتين مؤلمتين للموت أو بالأحرى للفقدان، إحداهما لقريبٍ عزيز بمنزلة الأخ، والأخرى لصديق وزميل عزيز وعتيق، قريب من القلب.


رغم كل ما أتسلّح به من إيمان، وقناعة بأن الموت حقٌ وأنه نتيجة حتمية لوجود الحياة، وأنه بابٌ نعبر منه نحو الحياة الآخرة وجنة الخلود للمؤمن، إلا أن مأساة الموت تكمن في الفقدان ذاته، في الغياب، في خسارة تلك الصداقة الحميمة التي تربطنا بأقراننا وأحبائنا، من توقف الزمن، من النهايات، انتهاء ذكرياتنا وصداقاتنا ولحظات السعادة بل وحتى لحظات الشقاء والمعاناة التي جمعتنا، ناهيك عن الخوف من موتنا نحن، من غيابنا عن وجه العالم، ومغادرتنا إلى ذلك المصير المجهول، فتلك فكرة تختصر كل مخاوفنا وسائر الفوبيات التي ترافقنا في حياتنا، وصدق غسان كنفاني حين قال: (أرهقتني فكرة أن أموت... أن أنتهي، ويستمر كل شيء!!)


كنت في الثامنة والعشرين حين غادرنا أبي، ولا زلت أذكر كل تفاصيل تلك المأساة التي عشناها، ولا أخفي سراً إن قلت، إن آثارها ما زالت عالقة في نفسي أو لربما أخفيتها في عقلي الباطني وتركت لها النافذة مفتوحة لتسيطر علي في الخفاء دون أن أشعر.

مهما ادعيت بعد ذلك، أني تصالحت مع الموت كفكرة وتقبّلتها، ومهما تسلّحت بكل تلك الإيمانيات التي تدعو لتقبّل تلك الفكرة، ومهما اعتقدت بصحة كل الفلسفات التي تنظر إلى الموت كبداية حياة، وليس نقيضاً للحياة ذاتها، إلا اني أعترف أني في كل تجربة جديدة أخوضها مع الموت أجد نفسي عاجزاً عن تقبّله والتعامل معه من منظور فلسفي أو إيماني متعالٍ عن الحدث.


يحتاج الفرد فينا مهما وصل إلى فكرٍ فلسفيٍ راقٍ، وإيمانٍ راسخ، إلى جهد كبير ومتجدد كي يستمر في صراعه مع فكرة الغياب، والتغلّبِ على آثار تلك التجربة المريرة. يقول الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا (توفي عام 2004) (المهمة الأساسية للفلسفة أن تساعدنا على تقبّل الموت كخسارةٍ مطلقة بلا تعويض ولا عزاء!).


الموت يدعونا لطرح كل تلك الأسئلة الجوهرية عن الحياة وأسلوب العيش، ويرغمنا على إعادة النظر في أسباب وجودنا، وإلى طرح الأسئلة المتعلقة بها ومناقشة تلك الأفكار قبل فوات الأوان.


الحقيقة أننا وفي خضم حياتنا نخوض تجربة الموت مراراً وتكراراً بشكل أو بآخر دون أن نلاحظ، نخرج منتصرين حيناً وخاسرين أحياناً؛ لحظات الوداع، الهجرة والفراق، كل الغيابات التي تؤدي إلى موت شيء ما في داخلنا، مع كل تجربةٍ من هذه التجارب يكبر خوفنا، ويتعربش على حيطان مُخيّلاتنا، نخاف من الوحدة من تغيير الوظيفة والسكن، نخاف من تجربة كل نمط جديد في الحياة، نخاف من المخاطرة، من السفر ... نخاف من الغياب.


وهكذا نعيش مع الموت "الصغير" ونقترب من تجربة الموت أكثر، مع فقدان كل عزيز، أو خسارة صديق أو غياب حبيب، فمع كل خسارة من هذا النوع يموت فينا شيء ما وتنكسر في داخلنا رغبة أو أمل خفي، وهكذا فأننا لا نموت دفعة واحدة، بل نموت ببطىء، ومع كل محطة نخلع عن ذواتنا رداءً من رداءات الحياة الزاهية، حتى إذا مضينا قدماً خلعنا رداء الخوف ذاته، وبتنا نحتمل الغياب، مستعدين له!!.


شئنا ام أبينا فالموت جزء لا يتجزأ من حياتنا، من طبيعتنا، بل جزء من أنفسنا، والانتصار عليه يكون في إتقان مهارة الحياة وتقبّل الموت كجزء منها، وتلك معادلة أعترف أنني برعت فيها مرات كثيرة، أو لعلي نجحت في خداع نفسي بها ببراعة كافية!


ابن عربي- الشيخ الأكبر للصوفيّة- يصف الحب بالموت الصغير في مقولته الشهيرة (الحبُّ موتٌ صغير) فالحب نهاية عهد وبداية عهد جديد، وكل ما هو زائل إنما هو خطوة على طريق الموت، أما الحب الدنيوي فهو خطوة تقرّبنا من الحب النهائي الأبدي (العشق الالهي) والذي يكتمل بالموت الكبير، لذا كان الفقدان والخسران والقلق والحيرة والاضطراب وكل ما يعتري نفس المحب العاشق الولهان، والألم عند الفراق والاغتراب، موتاً صغيراً!!


وكأني بابن عربي يقول إننا عندما نتقبل فكرة الموت النهائي، فهذا يعني أن نتقبل الميتات الصغرى التي نتعرض لها في الحياة، لحظات الوداع، الغياب، الفراق المحتوم ومن ثم الزوال، وما وجودنا في الحياة إلا موت صغير انتقل بنا من رحم أمهاتنا إلى فضاء هذه الدنيا الواسعة، (كانت الأرحام أوطاننا فاغتربنا عنها في الولادة).


وهكذا فإن الانتصار على الموت، والتغلّب على فكرة الغياب، لا يكون إلا من خلال احترام حياتنا وتقديرها، والتشبّث بأسبابها، على اعتبار أنها قيمة وجودنا، وهذا يتطلب اتقاننا لمهارة العيش، وفن ممارسة الحياة، وعدم الخوف من الميتات الصغيرة.


إن فن العيش أو فن ممارسة الحياة، يتطلب منا وضع هدف سام لوجودنا وقيمة عظمى نعيش من أجلها، كي لا نعيش على هامش الحياة، وهذا الهدف هو ما يجعل لحياتنا ووجودنا معنىً وليس مجرد مرور عبثي.


كما أن فن العيش يساعدنا على تقدير كل لحظات السعادة التي تمر بنا، وتقديرها وابداء الامتنان للحياة على منحنا إياها، ذلك يساعدنا على تقدير أصدقائنا واللحظات الجميلة التي تجمعنا بهم، يساعدنا على التعبير عن مشاعرنا بحرية، وصدق دون خجل أو استحياء، أو مكابرة.


إن إتقان فن العيش يعني أن نتقبل الحياة كما هي، بفرحها وترحها، حينها سنشعر بجودة الحياة، وبقيمة كل لحظة سعادة تمنحنا إياها الحياة، ولو كانت ضئيلة، وسوف نحتفي بتلك اللحظات إلى أقصى حد.


وهكذا، ومع إتقاننا لفن العيش، يقل مقدار خوفنا من الموت بمقدار ما نحرّر أنفسنا من الرغبة في الاستدامة الوجودية، وتعويض ذلك بتعزيز حضورنا من خلال إرثنا الفكري والانساني الذي خلّفناه، عندها وفقط عندها، سنهزم الموت، ولن نعاني من الغياب!



أيمن يوسف أبولبن

كاتب ومُدوّن من الأردن

23-7-2020

الخميس، 2 يوليو 2020

لم يعد وجودُكَ يُربكني!




في الثقافة الغربية يستخدمون عبارة (I love you, but I don’t like you anymore) للتعبير عن حالة عدم الرضا أو الاختلاف مع شخص عزيز، حيث يُبدي قائلُ هذه العبارة عدم تقبّله لتصرفات ذلك الشخص واختياراته، أو أسلوبه في الحياة، دون أن يفقد مشاعر الحب والعاطفة تجاهه.
هي حالة معقدة وغامضة من الأحاسيس، التي تعبر عنها هذه العبارة والتي قد تبدو للوهلة الأولى غير مفهومة وغامضة، إلا إنها في الحقيقة غاية في المنطقية والشاعرية في آن.

لا يتحرّج الفرد في الثقافة الغربية من التصريح والتعبير عن مشاعره وأحاسيسه، ويشعر أن ذلك هو حق من حقوقه كإنسان، لذلك ترى الإبن يصارح أباه أو أمه أو عمه أو صديقه بحقيقة مشاعره السلبية من عدم الاعجاب بقراراته وتصرفاته، أو حتى الاختلاف معه في وجهة نظر ما، دون أن يؤثر ذلك على المشاعر الانسانية الأساسية والأولية من حب الأهل أو عاطفة الأبوة والأمومة أو مشاعر الصداقة والشراكة العاطفية، أنا أحبك، لا شك في ذلك، ولكني لست راضياً عن كذا وكذا.

مشكلتنا في الثقافة العربية أننا عاطفيون لدرجة أننا لا نُفرّقُ بين عواطفنا وتصرفاتنا، فجميع أفكارنا وأفعالنا مبنية على العواطف والمشاعر، السلبية منها أو الايجابية، ونحن وإذ نتعامل مع الدوائر المحيطة بنا، بدءاً من العائلة الصغيرة مروراً بالعائلة الكبيرة وصولا إلى المجتمع ككل نتأثر سلباً أو إيجاباً بمشاعرنا وحالتنا العاطفية، ونتصرف بناء على حالتنا تلك.

على سبيل المثال، نحن نحب أبناءنا ونتغاضى عن سلبياتهم وسوء تصرفاتهم، بل لا نكاد نستوعبها أو نسلّم بخطأها، فأبناؤنا منزهون عن الخطأ أو الزلل، لذا نسعى جاهدين لتفسير أي انحراف أو سوء تصرف بتفسير إيجابي يبعد أي صفة سلبية أو تقصير عنهم، وعلى النقيض تماماً ننظر بعين النقد إلى تصرفات الآخرين وأبنائهم، وقس على ذلك.

أما حين تدبّ الخلافات مع أبنائنا، فلا نرى أية مشكلة في شتمهم وإهانتهم وتعنيفهم والتعبير عن كرهنا لهم، ودعائنا بأن يريحنا الله منهم! وهكذا تنقلب عواطفنا 180 درجة من الحب المفرط إلى الكره والبغض.

ولا ندرك أننا وإذ نفعل ذلك، نزرع هذا التناقض في نفوس أبنائنا من حيث لا نعلم، بل ونغرس فيهم مشاعر سلبية حول الحب والتربية لا تلبث أن تنعكس سلباً على حياتهم وتصرفاتهم وقراراتهم بل ومعاملتهم لنا حين يكبرون.

وعلى نفس المنوال، حين نختلف مع أحد المقربين، لا نعد نرى فيه سوى العيوب، ثم ما نلبث أن نقاطعه أو نعاديه، ونغلق أبواب قلوبنا فلا رحمة ولا عاطفة وكأنه عدو مبين، فإما الحب أو العداء!.

إن عدم قدرتنا على السيطرة على مشاعرنا السلبية والتحكم بها، وعدم قدرتنا كذلك على استيعاب مشاعر الآخرين واحتوائها يجعلنا مجموعة من البشر الفوضويين في علاقاتهم ومشاعرهم، غير قادرين على التفريق بين حب الآخر ومحاولة الاستحواذ والسيطرة عليه، أو بين مساعدة الآخرين على العيش بسعادة، وبين فرض مفاهيمنا نحن حول السعادة، بين النصح بالحسنى، وبين النقد الجارح والهدّام.

وهكذا يتحول الحب والحنان والعطف، ورغبتنا بتوفير أفضل سبل العيش والحياة لمن حولنا، إلى مجموعة من المشاعر السلبية والأوامر السلطوية الصارمة، التي تتحول إلى مشاكل إجتماعية مزمنة لا خلاص منها.

كم أتمنى أن نختلف مع أبنائنا وأهلنا ومعارفنا بطريقة حضارية راقية، لا نتخلى عن حبهم، ولكن نعبر لهم عن عدم رضانا عن تصرف معين أو موقف محدد، وإن حصل وأن إختلفنا معهم، فلنتفق على ألاّ يؤثر ذلك على علاقتنا، بحيث لا نخلط بين أصل العلاقة وتفرعاتها التي انحرفت عن الأصل، وقس على ذلك في باقي علاقاتنا الاجتاعية.

نشرت إحدى الناشطات هذه العبارة باللغة الانجليزية وتساءلت عن الترجمة الأنسب لها باللغة العربية، وهذا أول دليل على غرابة هذا التعبير عن ثقافتنا العربية، إلا أن الأغرب من ذلك هو أن أغلب التعليقات جاءت لتؤكد قصور مفهوم الحب في العقل العربي على العلاقة بين الرجل والمرأة، وهو ما يحول في أغلب الأحوال دون التعامل مع مشاعرنا بتلقائية وفقدان القدرة على التحكم بها والتعامل معها، لأننا لم ننشأ على تقبّل هذه المشاعر الأساسية والتعبير عنها.
أعجبني أحد التعليقات على التغريدة، رغم مسحة الانكسار التي فيه، وكان على النحو التالي: " لا زلت أحبك ولكنك لم تعد تبهرني ولم يعد وجودك يربكني!"

هذا التعليق بالذات، قادني للتأمل في حال مجتمعاتنا التي ترفض فكرة الطلاق وتعتبرها خطيئة أو قصوراً، بل إن معظم العائلات تعتبر الطلاق فضيحة، مما يجبر المتزوجين على تقبّل العيش مع شريك قد فقد شغف الحياة معه، ولم يعد يثير فيه أي مشاعر أو يحرك ساكناً، كي لا يتسبب بفضيحة أو يظهر بمظهر الفاشل عاطفياً، ولكم أن تعاينوا كم العلاقات السلبية التي نراها في مجتمعاتنا، وكم التناقضات النفسية التي تورثها هذه العلاقات للأبناء، وكل هذا في سبيل المحافظة على تقاليد المجتمع وعادات العائلة. ألم أقل لكم إننا فاشلون في إدارة مشاعرنا وعواطفنا!

لم أجد أبلغ من المثل الشعبي الذي يصوّر حالة العقل الجمعي العربي، والذي تربينا عليه وأصبح جزءاً من ثقافتنا (أنا وأخوي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب) فكل علاقاتنا وتحالفاتنا وتصرفاتنا مبنية على العاطفة، وعلى الحميّة للدم وصلة القرابة، أما المنطق والعقل والعدل والاحسان، فهي صفات خارجة عن الوعي قلّما تؤثر فينا، إلا في الخطابات والشعارات والدعايات الانتخابية.

أحلم ذات يوم أن أصحو على مجتمع لا يتحرّج أفراده من البوح بمشاعرهم والتعبير عنها بكل انسيابية وأريحية، وفي ذات الوقت لا يتورعون عن تقديم النصح وتقبّل النقد بشكل إيجابي دون أن يؤثر ذلك على علاقاتهم ومشاعرهم الأساسية، نحب بعضنا البعض ولكننا نختلف وننتقد بعضنا، ولسنا مرغمون على تقبّل كل تصرفاتنا وحماقاتنا. هذا ليس تناقضا إطلاقاً، بل هو عين المنطق، أحبك ولكن وجودك لم يعد يُربِكني!    

أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
1-7-2020