الأربعاء، 11 سبتمبر 2019

أزمة المُعلّمين تدقُّ ناقوس الخطر في الأردن

من يراقب الوضع في الأردن عن كثب يدرك أن الأزمة القائمة حالياً بين نقابة المعلمين والحكومة، قد حركت المياه الراكدة، وأظهرت انقساماً كبيراً بين توجهات الحكومات المتعاقبة وسياساتها العامة وبين نبض الشارع وتوجهاته.
هذا الانقسام الجلي أدى بدوره إلى تعميق حالة السوداوية التي يعيشها المواطن الأردني منذ عدة سنوات، وحاول التعبير عنها أكثر من مرة، ولكن الحلول كانت دائماً ما تأتي مؤقتة وأقرب ما تكون الى مسكنات الألم، وجرعات من الوعود المستقبلية.

لا أذكر أني قد عاينت هذه الدرجة من التشاؤم والقراءة السلبية لكل ما يحدث لدى مختلف فئات المجتمع، بقدر ما أعايشه هذه الأيام، ولعله من المؤسف أن تسمع ذات الجملة بصياغات مختلفة (البلد إلى أين؟!).

من المُقلق أن يشعر المواطن بعجز رئيس الوزراء عن الإيفاء بوعوده الإصلاحية والقيام بالمسؤوليات التي تم تكليفه بها في قرار التكليف السامي وما تلا ذلك من توجيهات وأوراق نقاشية، ولكن الأنكى من ذلك أن يوقن المواطن الأردني أن تغيير الحكومات والاتيان بطاقم حكومي جديد لن يحل مشاكل البلد، ولن يقدّم او يؤخر في شيء، فالمشاكل الاقتصادية والانقسامات في المجتمع، وأبواب الفساد المفتوحة على الجحيم، وتوغل الحيتان والمنتفعين في البلد، وقيامهم بنهب الثروات والاعتداء على مقدرات الوطن، إضافةً إلى فشل مجلس النواب في القيام بواجباته الرقابية والتشريعية، بل ودخوله في صراعات فئوية واحادية، كل ذلك جعل الصورة العامة مظلمة ولم يعد الأمر مرتبطا بأشخاص وأسماء بل أصبح فساداً مؤسساتياً ومنهجاً عاماً.

من الواضح أن الحكومة اختارت معالجة أزمة المعلمين (وأي مطالب إصلاحية أخرى) بالعقلية الأمنية، والتأكيد على أن زمن الاعتصامات والمطالب والاحتجاجات قد ولّى، وأن الدولة لن تخضع لأي ضغوطات شعبية أو نقابية.
فقامت وزارة الداخلية بالزج بقوات الدرك وأفراد الأمن في مواجهة المعلمين والمعتصمين، وأغلقت الطرق المؤدية الى مقر رئاسة الوزراء، وهو ما أدى في النهاية إلى جعل العاصمة عمان مكاناً شبه مغلق بالكامل.
ولم تراعي وزارة الداخلية مصلحة الوطن والمواطن وتأثير تعطيل الأعمال واغلاق الشوارع الرئيسية على حيوات المواطنين ومصالحهم، بل إنها ألقت باللائمة على نقابة المعلمين لعدم اختيار مكان آخر (غير حيوي) للاعتصام ولعدم اختيارها يوم عطلة لتنفيذ الاعتصام!
وأعلن وزير الشؤون السياسية والبرلمانية ان علاوة المعلمين تكلف خزينة الدولة 120 مليون دينار في العام الواحد، ولكن الوزير لم يوضح بالأرقام والإحصاءات كيف توصل الى هذا الرقم، كما تناسى الوزير ان مطالب المعلمين جاءت نتيجة اتفاق بين الحكومة والنقابة عام 2014، وأن على الحكومة ان تلتزم باتفاقياتها مع النقابات تماماً كما تلتزم مع المؤسسات الدولية، فهل يا ترى ستستنكف الحكومة عن دفع فوائد الديون الخارجية لأنها تكلف خزينة الدولة مبلغاً وقدره؟ وهل فشلت الحكومة (منذ عام 2014) في وضع خطة لتوفير هذا المبلغ أم انها لم تضعه في الحسبان أصلاً، على مبدأ كلام الليل يمحوه النهار؟

المفارقة أن مشاريع حكومية عدّة مثل القطار السريع والمدن الاقتصادية والمفاعل النووي، تكلف خزينة الدولة أموالا باهظة، ولا يتم الاعتراض على تلك المشاريع بسبب ميزانياتها الضخمة، ولكن على ما يبدو فإن تحسين حال المواطن ورفع مستوى معيشته ليس من أولويات الحكومات، ناهيك عن التقصير في محاربة الفاسدين وتحصيل الأموال المنهوبة والذي يؤدي إلى عجز أكبر في خزينة الدولة.

لقد أعلنت الحكومة قبل نحو شهر أن خط الفقر في الأردن يبلغ مائة دينار للفرد الواحد، في حين ان راتب المعلم بعد نحو عشر سنوات من الخدمة لا يصل الى 500 دينار، وهو خط الفقر لأسرة من خمس أفراد، ورغم ذلك لا ترى الحكومة من واجبها ان تجلس مع نقابة المعلمين وتعمل على رفع المستوى المعيشي للمعلمين!

لقد انحدر مستوى التعليم في الأردن بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة، وبدلاً من الوقوف على أسباب هذا الانحدار ومعالجتها والدفع بالعلم والتعليم في البلد إلى الأمام، تُصرّ الحكومة على معالجة الموضوع بالتنصّل من المسؤوليات والتذرّع بعجز الميزانية، وتغض الطرف عن أن سوء حال المعلمين سيؤدي إلى انهيار قيم التعليم والعلم في المجتمع بأكمله.

لقد دفعت الداخلية باتجاه صدام بين أبناء المجتمع، فهذا يشيد بموقف المعلمين وذاك يدافع عن أفراد الدرك، وعن مصالح الطلاب، وآخر يهاجم نقابة المعلمين بسبب أزمة السير الخانقة، وكأن القضية هي قضية خلافية بين أبناء الشعب، وليست قضية مبدئية لتحصيل حقوق أساسية كفلتها الحكومة الأردنية قبل أعوام.

الحكومة الحالية كباقي الحكومات السابقة تعيش في عزلة عن المواطن وتتعامل معه بعلو واستكبار وتهميش ونبذ حقيقي، بل انها تفتعل المواجهات معه، وتخلق أعداءً لها من داخل الوطن، كل ذنبهم أنهم يعبّرون عن رأيهم وينتقدون ويمارسون حقوقهم الدستورية.
وجاءت ازمة المعلمين لتُعرّي خداع الحكومة وتكشف عن تدني مصداقيتها، ومحاولتها خلط الأوراق ودفع المواطنين لمواجهة بعضهم البعض، في خلافات جانبية، فيما الأصل أن تقوم مؤسسات الدولة بتقديم الحلول بالطرق السلمية والقانونية، وكل هذا يؤكد من جديد عجز الحكومات المتوالية عن علاج المشاكل الأساسية، ومحاولاتهم المستمرة لإطالة أمد المواجهة الحقيقية للمشاكل، وكل هذا على حساب الوطن والمواطنين.

نشرت جريدة الغد الأردنية مقالاً الأسبوع الماضي، يتساءل فيه كاتبه عمّن يقود الحكومة، هل هو رئيس الوزراء د. عمر الرزاز أم نائب الرئيس د. رجائي المعشر بصفته المسؤول عن الملف الاقتصادي، ولكن السؤال الأهم الذي بات يتردد الآن في الشارع الأردني: من يقود الحكومة هل هو رئيس الوزراء أم وزير الداخلية سلامة حمّاد؟

أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
10-9-2019

الاثنين، 2 سبتمبر 2019

جيل البلاسيبو!





قرأتُ فيما قرأت عن العلاج بالوهم أو الايحاء، وهو دواء أو إجراء علاجي زائف (غير ضار)، ولكنه يؤدي إلى تحسّن صحّي ملموس بالنظر الى اعتقاد المريض الذاتي في إمكانية العلاج وإيمانه المًطلق في المُعالج، حيث يقودُ التأثيرُ النفسي المريضَ إلى الشفاء والتخلّص من مظاهر المرض ولو مؤقتاً، وهو ما يُعرف علمياً ب "أثر البلاسيبو" Placebo effect، والبلاسيبو هو أي عقار أو علاج يوصف للمريض دون أن يكون له علاقة بمرضه أو تأثير في علاجه.

وفي تفسير هذه الظاهرة يقول الباحثون إن الأثر السيكولوجي ومشاعر الاهتمام والرعاية والتشجيع والأمل التي يبثها الموقف العلاجي تستفز في الجسد آليات فسيولوجية (بطريقة غير مفهومة) تُفضي إلى تأثير ملموس وفيزيائي حقيقي، وقد تم في بعض الحالات توثيق نشاط عصبي ملموس، وتحفيز لجهاز المناعة.

وهذا الأثر البلاسيبي، هو باب النعيم الذي يترزّق منه الدجّالون وطاردو الأرواح ومخرجو الجن من الأجساد، والمعالجون بالرقية والزار، إذ أنهم يعتمدون على علاج الوهم بالوهم، وغالباً ما يتمكنون من النجاح في ظل الايمان المُطلق بالشفاء الموجود في صدور كل من يسعى للعلاج لديهم، ناهيك عن الايمان الأصيل بوجود عمل شيطاني خبيث يمنعهم من النجاح في العمل أو في الحب والزواج او الإنجاب وغير ذلك. وطالما تجسّد سبب الفشل أو المرض في صورة ذهنيّة أو واقعية، وفُتحَ بابُ الخلاص عن طريق الأولياء والأشخاص الصالحين، وكان ذلك مُباركاً بالذكر ومُحاطاً بالقداسة، فإن النجاةَ تكون شبه أكيدة!

ولكن الحقيقة، إن البلاسيبو في النهاية لن يشفي مريضاً من السرطان ولن يوقف نزيفاً حاداً في الدماغ، كما أنه لن يجعل من شخص فاشل في الإدارة مديراً ناجحاً أبداً، ولكن يحدث أن تأتي الأحداث السعيدة وفرص النجاح لأنها غالباً ما تكون متوفرة غير أننا لا نأخذها على محمل الجد، وتشفى الأمراض كذلك أو الحالات النفسية لأنها غالباً ما تشفى مع مرور الوقت، ولأنها تعتمد أيضاً على اعتقاداتنا الشخصية وأوهامنا الداخلية في كثير من الأحيان، ولكن البلاسيبو بالتأكيد ليس سبباً في النجاح أو الشفاء.

وقد تناولت العديدُ من الكتب الأدبية والأعمال الفنيّة، موضوع أثر البلاسيبو، بل إن تجارب علمية كثيرة أجريت على هذا الأثر، وأفضت إلى نتائج صادمة أحياناً.

وفي العقدين الأخيرين أخذ أثر البلاسيبو منعطفاً آخراً بالاعتماد عليه فيما يعرف بالتنمية الذاتية أو البرمجة العصبية وغيرها من أبواب تطوير المهارات الشخصية، التي تعتمد على بث أسباب النجاح والتفاؤل والثقة في النفس، والايمان المُطلق أن نجاح الفرد مرتبط في الأساس بالايمان الداخلي للفرد بالنجاح (أو الفشل)، فإذا استطاع الشخص إعادة برمجة شخصيته وحملها على الايمان المطلق بالقدرة على النجاح وتحمل المسؤولية والقبول لدى الآخر والتواصل الاجتماعي....الخ القائمة الطويلة فإنه سيكون قادراً على النجاح دون أدنى شك.

وخلال السنوات الماضية كنت حريصاً على متابعة هذه المناهج غير أني رغم اقتناعي بفائدتها (إذا ما اتبعنا المنهج العلمي السليم واستوعبنا طريقة عملها وأسباب نجاحها أو فشلها)، إلا أني لاحظت أنه قد اختلط الحابل بالنابل خصوصاً مع ازدياد انتشار هذه العلوم والمناهج، ودخول فئة كبيرة من أدعياء المعرفة (بحثاً عن الثراء والشهرة) وأصبحت هذه المناهج والدراسات أثراً بلاسيبياً جديداً لا يعدو كونه تسويقاً للوهم بقالب علمي نفسي جديد!

فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن أصدّق أن شخصا سويّاً يقف أمام المرآة ويقول لنفسه بصوت عال "أنت شخص ناجح"، ثم يذهب الى العمل فيصبح ناجحاً، أو أن شخصاً يذهب الى مقابلة للعمل وبدلاً من الاستعداد المهني لها يركز على لغة الجسد وقراءة الشخصية وينتظر أن ينجح في المقابلة، وحتى لو اجتاز المقابلة فكيف سينجح في أداء مهامه الوظيفية!

كيف تصبح مديراً ناجحاً، اعرف شخصيتك، كيف يكون زواجك ناجحاً، افهم نفسك أولاً وغيرها من العناوين الرنّانة الخالية من المضمون، والتي تعتمد في النهاية على تسويق الوهم اعتماداً على القدرة الايمانية للمتلقي بالشفاء أو النجاح أو التغيير.

الشيء الذي يخفونه عنك أن النجاح يحتاج الى تخطيط وإرادة وشغف وتنفيذ مهام متعددة، وتنمية قدرات ومعارف قبل أن يحتاج إلى إيمان وثقة بالنفس أو برمجة عصبية، وإذا غابت عناصر النجاح لن يكفيك أن تكون مؤمنا وراغباً في النجاح.

وكما يحاول بعض خبراء التنمية الذاتية أو البشرية اليوم بيع الوهم بالاعتماد على أثر البلاسيبو فإني أجزم أن جيلاً كاملاً قد ترعرع على الايمان المطلق بأننا أفضل الأمم أخلاقاً وتاريخاً وحضارةً، وكل ما علينا فعله هو انتظار التاريخ ليعيد نفسه أو ظهور المهدي المنتظر ليقودنا في المعركة الفاصلة، وهذا لعمري لهو الوهم الكبير الذي عاشه جيلنا.

لقد زرعوا في نفوسنا وفي كتب التاريخ والتراث، رمزية القائد وتقديس الأشخاص، والقصص الأسطورية والمعجزات الخارقة، حتى بتنا نؤمن أن التغيير يأتي من السماء وليس من أنفسنا، وأن كل ما وصلت له الحضارات الغربية هو غثاء كغثاء السيل، وأن الخير فينا نحن دون الآخرين.

والأدهى والأمر أن نعزو أسباب فشلنا إلى قلة عدد المصلين في صلاة الفجر والنساء العاريات، في حين نغض الطرف عن سوء التعليم والفساد والتبعية للخارج ونهب الأموال والبلاد والتخلف الفكري والعصبية الدينية والفقر والجهل والواسطة والمحسوبية وعدم المساواة ومحاربة الديمقراطية وعدم حماية الحريات الفكرية وعدم احترام الرأي الآخر وعدم الايمان بالعدل والمساواة وأن القانون فوق الجميع.

نحن جيل يؤمن أننا سنهزم تخلفنا الحضاري بمعجزة، وسنحرر فلسطين بالمهدي المنتظر، وسننتقل من أدنى الأمم إلى قمتها بما يشبه عصا موسى ودون أن نبذل في سبيل ذلك قطرة عرق، متغافلين عن الأخذ بالأسباب ومحاربة الفساد وعدم قبول الظلم وتقديس العلم بدلاً من الجهل والخرافة، والأهم من ذلك كله، الايمان أن عصر المعجزات قد انتهى وأن رسالة سيدنا محمد تدعو الى الأخذ بالأسباب والاعتماد على الذات ثم طلب النصر، لا العكس!

تاريخنا مليء بالقصص السردية والخطب العصماء والشعر والنثر والغزل، ولكنه لا يتحدث عن عظماء العلوم والفلسفة والفكر بقدر ما يفرد صفحات طويلة للحديث عن الفرق الدينية والعصبيات وجمال البادية ونساء العرب، بل أنه لا يحدثنا عن القفزة العلمية الحضارية التي واكبت ظهور الإسلام وانتشاره في بقاع الأرض، وكيف أصبح المسلمون سادة علماء عصرهم.

وجلُ كتب الدين وعلومه تدور في فلك العبادات والشعائر والطهارة، مع مرور الكرام على الأخلاق ومنظومة القيم الإنسانية ومبادئ حقوق الانسان واحترام الآخر وأصول التعايش السلمي وبناء المجتمعات المدنية القائمة على العدل والمساواة.

إننا باختصار يا سادة، جيل البلاسيبو، جيل الوهم الذي زرعوه في نفوسنا كي نركن ونستكين ونحيا بانتظار المعجزة، ثم نموت قبل أن ندرك أن عصر المعجزات قد انتهى، واليوم يحاول البعض إقناعنا أن النجاح بحاجة فقط إلى قراءة كتاب عن النجاح أو حضور دورة لاكتشاف مكامن قدراتك!

أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
1-9-2019