تؤدي الطبقة الوسطى دوراً حيويا في إحلال التوازن الاجتماعي
وما يصاحبه من توازن سياسي واقتصادي للدولة والمجتمع، وكلما اتسعت الطبقة الوسطى
في المجتمع ونمت، كان ذلك مؤشراً إيجابياً.
فالطبقة الوسطى غالباً ما تتكون من فئة التجار وأصحاب المنشآت
الصغيرة، وموظفي القطاع الخاص، وهي طبقة غالبها من المُثقّفين والمهتمين بشؤون
المجتمع والمتذوقين للفن والأدب، الذين يتميزون بقدرة مالية على الإنفاق في مجال
التعليم الخاص، والسياحة الداخلية، وارتياد المقاهي والمسارح ودور السينما، يضاف
إلى ذلك الاهتمام بالقراءة والمطالعة، ودعم النشاطات الثقافية.
هذه الدورة المتكاملة تعمل في النهاية على دعم الاقتصاد
المحلّي واصطباغ المجتمع بحركة إنسانية راقية وجميلة، تحافظ على وهج ونبض الحياة اليوميّة،
كما تعمل أيضاً على التوازن بين طبقة الأثرياء وأصحاب السلطة من جهة، وطبقة
العمّال ومحدودي الدخل من جهة أخرى. لذلك تُعتبر الطبقة الوسطى صمام ورمز الأمان
الاجتماعي.
تكافؤ الفرص
من شروط استمرار وازدهار الطبقة الوسطى، وجود قوانين
فاعلة تضمن تكافؤ الفرص، وتوزيع الثروات بشكل عادل، وكذلك ضرورة توفر بيئة
اجتماعية تُكافح الفساد والمحسوبية. كما تبرز الحاجة أيضاً لوجود نظام ضريبي عادل،
ينظر بعين الخبير في إقرار القوانين الضريبية والاقتطاعات من الأجور.
لهذا نقول إن دور الطبقة الوسطى في الحياة السياسية هو
دور حيوي وأساسي، وتاريخياً فقد كان لهذه الطبقة دور فاعل ومؤثر في قيادة
المجتمعات نحو التغيير وإرساء الديمقراطية وتحقيق العدل الاجتماعي، ولنا خير مثال
في الثورة الفرنسية (التي تبنّتها في الأساس الطبقة الوسطى) وما تلاها من ثورات
حقوقية غيّرت وجه العالم الغربي. كما لعبت هذه الطبقة دوراً أساسياً في تعافي
الدول الأوروبية من آثار الحرب العالمية الثانية.
كما يصح القول، إن أفراد الطبقة الوسطى غالباً ما يقومون
بدعم حركات التغيير والإصلاح السياسي أينما وكيفما تطلّب ذلك، لما يتمتعون به من
حس سياسي وثقافة عالية، وإيمان مُطلق بالمبادئ الاجتماعية.
وعند النظر في واقع مجتمعاتنا العربية في العقد الماضي، نجد
العديد من المنعطفات التاريخيّة وما رافقها من متغيرّات سياسية واقتصادية (ترافقت
بدورها مع تغيّرات اجتماعية)، أدّت في النهاية إلى نشوء ظاهرة انكماش أو تآكل
الطبقة الوسطى.
قد يقول البعض إنها نتيجة طبيعية لتطوّر المجتمعات،
ولكني أقول إنها نتيجة مباشرة لخسارة صراع التغيير، واستسلامنا لواقع الحال ثم قبولنا
مُرغمين بما رسمته دوائر صنع القرار من تكريس لشكل الدولة السلطوية، القائمة على
الفساد والمصالح الخاصة، والتي تقوم على استئثار فئة معينة بخيرات البلاد، وانفرادها
بمفاتيح اللعبة.
سوء الأوضاع السياسيّة والاقتصادية، وعدم تكافؤ الفرص،
دفع أغلبية أفراد الطبقة الوسطى إلى الاهتمام بشؤونهم الخاصة لضمان استمرارهم في
نفس المستوى المعيشي، وهذا تطلّب الابتعاد عن الشأن العام، أو بمعنى آخر التقوقع على
الذات والتخلّي عن روح المشاركة الايجابية والتفاعل، فيما بحث بعضهم عن فرصة
للالتحاق بصفوف طبقة الأثرياء وأصحاب السلطة.
وقد نتج عن هذا إعلاء لقيم التملّك في المجتمع على حساب
قيم المشاركة، والأهم من ذلك هروب رؤوس الأموال الى الخارج على حساب دعم السوق
المحلي، مع فتح الطريق لدخول الشركات الأجنبية العابرة للقارات إلى السوق الوطني على
حساب المستثمر المحلّي.
تغييرات اجتماعية
ما نشهده اليوم من تغيرات اجتماعية، يتمحور في جوهره حول
ذوبان الطبقة الوسطى المعتدلة ذات السمات الإيجابية، مع طُغيان الفردية الأنانية
وحب التملّك على حساب قيم المجتمع العامة.
ما أود قوله هنا، إن تعريف الطبقة الوسطى، ليس مرتبطاً
فقط في معيار الدخل، وإن ذوبان الطبقة الوسطى ليس محدوداً فقط، في تغيّر مستوى
الدخول الاقتصادية، وما يتبعه من تغيّر في طبقات المجتمع، ولكنه يعني من وجهة
نظري: طمس الهوية الثقافية والمجتمعية لهذه الطبقة، وامّحاء السمات الشخصية لها،
ثم تحوّلها تدريجياً، الى طبقة "لا فلزيّة"، سلبية المشاعر، ضعيفة
التأثير ومحدودة الفعالية.
إن ما نشهده اليوم من خلو الساحة الثقافية والفكرية، سوى
من عدد قليل من المؤثرين الحقيقيين، بعد تحوّل العديد من المثقفين والأكاديميين
إلى "أصحاب بزنس"، يُضاف إلى ذلك قلّة الاهتمام بالشأن العام، وما
نعانيه من رغبة عالية في التملّك الفردي، واختلال حاد في تقييم البشر بناء على
أرصدتهم البنكية، وأثمان مقتنياتهم وليس بناء على مؤهلاتهم أو أخلاقهم وسلوكياتهم،
هو نتيجة مباشرة لذوبان الطبقة الوسطى، ولكننا لا ندرك أو لا نريد أن نقر بذلك!
إن ازدياد نسب الجرائم والعنف المجتمعي والانفلات الأمني،
مؤشر على خسارة الهوية الاجتماعية وتآكل الطبقة الوسطى ليس بالمفهوم الاقتصادي
البحت ولكن بالمفهوم الاجتماعي الإنساني.
فنتيجة لذوبان الهويّة الاجتماعيّة للطبقة الوسطى
وانعدام تأثيرها، أصبح المجتمع مقسوماً بين "كبار البلد"، ومواطنين من
الدرجة الثالثة!
التصحّر المجتمعي
هاجس ذوبان الطبقة المتوسطة، وما يتبعه من نتائج وخيمة
على مجتمعاتنا العربية، هو مادة دسمة يتم تناولها ومناقشتها على مستويات عديدة في العالم،
إلا أننا ما زلنا غير مدركين كأفراد، نتائج ذوبان وتآكل هذه الطبقة في مجتمعاتنا.
وهذا في الحقيقة
لا يختلف عن كيفيّة تعاملنا مع الأخطار الأخرى المُحدقة بنا، والتي نسمع ونقرأ
عنها الكثير، فمعظمنا على سبيل المثال يقرأ عن مشكلة التغيًر المناخي وذوبان القطب
الشمالي أو التلوّث البيئي، وتأثير ذلك على كوكب الأرض، وعلى الصحة ونوعيّة الحياة
التي نعيش، ولكننا لا ندرك حقيقةً أو بالتحديد ماهيّة تلك المخاطر، وحتى لو
أدركناها فإننا للأسف لا نفعل شيئا يُذكر لمنع حدوثها أو على الأقل تخفيف وطأتها.
ماذا علينا ان نفعل، لإيقاف هذا التصحّر المجتمعي إن جاز
التعبير؟
إن المطلوب هو
بكل بساطة، استعادة الإيمان بالقيم الإنسانية والمبادئ التي قامت عليها مجتمعاتنا
وآمنت بها،
والاهتمام بجوهر الانسان، وليس بمظهره ومقتنياته.
باختصار علينا أن نستمر في عضويّة "نادي الطبقة
الوسطى" بغض النظر عن وضعنا الاقتصادي، وهذه العضويّة تتطلّب منا المحافظة
على الهويّة الثقافيّة لمجتمعاتنا، والدفاع عنها واعلائها، مع استمرار النضال في
سبيل تحقيق شروط العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، لضمان الأمان الاجتماعي.
المفارقة، أن العالم اليوم مليء بالأجهزة الذكيّة ومترعٌ
بالعوالم الافتراضية، ولكنه يحتوي على إنسانيّة أقل! وأخشى إن استمررنا في المضي
قدما مع هذا التطوّر دون إدراك للقضايا العامة التي تحيط بنا، والمشاكل الجوهريّة
التي تُحدق بنا، أن ينكمش الانسان فينا، فنصبح مجرّد آلة تعمل للكسب، مع فقداننا
قيمتنا "الإنسانية"!
لنادي الطبقة الوسطى أدعوكم، فهل من مجيب؟!
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
9-9-2018