الاثنين، 30 يوليو 2018

مجتمعاتنا العربية عندما تواجه أسوأ كوابيسها!



منذ عام 2013 وبعد نحو عامين على انطلاق شرارة المظاهرات الشعبية في بلادنا العربية -والتي عرفت اصطلاحاً ب "الربيع العربي"-، بدى واضحاً للعيان أن ما كان يبدو حلماً جميلاً، ومشعل نورٍ لاح في نهاية نفق مظلم طويل، قد انقلب رأساً على عقب، وتعرّض لطفرة عجائبية جعلت منه وحشاً كاسراً، ومسخاً يثير الرعب والفزع، ويهدّد بخلخلة بنيان المجتمعات العربيّة وإعادتها الى حقبة ما قبل التاريخ.

بعيداً عن التحليلات السياسية -والتي ناقشناها من قبل-، يجدر بنا إلقاء نظرة عميقة الى دواخل نفوسنا وما يوجد فيها من أفكار ومعتقدات، وأن نعيد النظر فيما نحمله من مبادئ وقيم، نعتز بها ونظن بأنفسنا خيراً من خلالها.

لقد ثبت بالوجه القاطع، أن هذه الثورات والحركات الشبابية، ودعوات المطالبة بتحقيق العدالة والحرية، قد استفزّت وحرّضت كل التيارات المجتمعية، لإظهار كل ما في داخلها، بل كل ما هو مكدّس في عقلها الباطن، من مشاعر دفينة مكبوتة، بحيث طفت على السطح دفعة واحدة، دون وعي منا ولا ترتيب أو تخطيط مسبق.
ولعلنا في تلك اللحظات ولأول مرة في عمرنا، شاهدنا أنفسنا على حقيقتها دون مكياج ولا صورة تجميلية، ودون عناية بانتقاء الكلمات او رسم الابتسامات وتبادل المجاملات، ودون أن نضحك كي (تطلع الصورة حلوة!)

الأهم من كل هذا، أننا –ولأول مرة في عمرنا أيضاً-وقفنا امام المرآة ونظر الواحد فينا إلى داخله فأبصر بوضوح تام، نوازعه ورغباته وأفكاره وكل ما كان يحاول أن يخفيه حتى عن نفسه، فكان بصرنا يومئذ حديد!

لم يحتمل الواحد فينا الاختلاف مع الآخر، لقد كنا على متن سفينة يتلاطمها الموج، والواحد فينا لا يكاد يثق بأحد سوى نفسه لقيادة تلك السفينة الى بر الأمان، كلٌ منا أراد السيطرة على الدفّة والدفع بالآخرين بعيدا عنها، وفي سبيل ذلك لم تكن الوسيلة ذات معنى أو ذات أهمية، فالمهم هو الغاية التي صوّرها كل واحد منا لنفسه، على أنها نبيلة تحمل طابع الإنسانية وخدمة الغير.
وهكذا، كان الحق مع كل واحد فينا، والباطل هو الآخر ولا أحد سواه، فالنظام السياسي القائم هو الوطن، وهو التعويذة اللازمة للأمن والأمان في نظر البعض، فيما سقوط النظام والقضاء على رموزه هو الحل الوحيد للنهوض بالبلد، في نظر البعض الآخر، وفي وسط هذه "الهوجة" وجد فيها المنافقون والطابور الخامس والسادس والسابع فرصة ملائمة لاقتناص الفرصة وتحقيق أهدافهم، سواء بالحصول على مركز في السلطة أو رفعة في المجتمع أو مكاسب اقتصادية ومادية وشهرة إعلامية...الخ القائمة الطويلة.

لقد تغلّب المشاكس الصغير المختفي فينا على ديبلوماسيتنا، وعلى الأنموذج الذي كنا نظن أننا نمثله، وحاول هذا المشاكس المنفلت، بكل ما أؤتي من قوة التغلب على الآخرين وعلى كل النماذج الأخرى بل والقضاء على كل من يختلف معه، وهذا يستدعي بالضرورة النزاع والعداء، ولم لا القتال!
أصبحت الأرض العربية ساحة قتال لتصفية حسابات تاريخية لم نكن نلق لها بالاً من ذي قبل، لقد تخندقنا خلف هوياتنا والتي بدى وكأننا اكتشفناها للتو، فأنا سنّي وذاك شيعي، وهذا مسلم وذاك قبطي، وهذا من صنعاء وذاك من عدن، هذا يساري وذاك إسلامي، وهذا إخونجي وأنا ناصري!

لقد تحركت المياه الراكدة لتظهر أبشع وأوسخ ما فينا، الى درجة القرف من أنفسنا وفقداننا الأمل في القادم، وهذا هو بيت القصيد.
لن أتحدث عن السياسة -ليس في هذا المقال على الأقل-، ولن أقول إن هذا مخطط ومقصود وإن خطة الإنقاذ التي وضعتها، الأنظمة السلطوية لاستعادة زمام الأمور قد تم تمريرها ونجحت بالفعل، ولكني سأعود وأتكلم عن المجتمع ودور الفرد.

يعتمد "فرويد" في نظريته الأساسية للتحليل النفسي، على أن العلاج النفسي، يتم من إخلال إحداث صدمة نفسيّة عميقة تهز كيان المريض صاحب العلاج، وتحدثُ هذه الصدمة عندما يتواجه وعي هذا الشخص مع لا وعيه، بمعنى عندما يواجه كل واحد فينا كابوس الخوف الذي يهرب منه، عندما يتواجه مع نفسه ويقرّ بأخطائه ويتعلّم منها، عندما نكشف الغطاء عن عقلنا الباطن ونرى ما في ظلمات ذلك الصندوق العميق، فنخرجه الى النور ونتعامل معه.

في روايته الأخيرة (حرب الكلب الثانية) يطرح الأديب إبراهيم نصر الله، فكرة استشرافيّة عن حروب العالم العربي المستقبلية، وأخطرها فتكاً، تلك التي تشتعل بين الأشباه لا الفرقاء!
وأقتبس هنا النص التالي: (أتعرفين ما الذي يثير دهشتي؟ ما يثيرها حقاً، هو أن الانسان يمكن أن يتقبّل وجود شبيه لغيره، لكنه لا يتقبل وجود شبيه له، فالذين يقتلون بعضهم بعضاً منذ الظهيرة السوداء هذا اليوم، هم الأشباه لا المختلفون.... لأن البشر لا يريدون المختلف ولا يريدون الشبيه، وعلى أحدهم أن يقول لنا بوضوح، ما الذي يريده الانسان!) 
وكأن الكاتب يقول، إن الأصعب من قبول الآخر الذي يخالفك، هو قبول الآخر الذي يتشبّه بك، فيصبح شبيهك حقيقة وواقعاً، ليس بالتفكير وروح الشخصية فقط بل وبالملامح أيضاً!

أعتقد أننا اليوم، كمواطنين في بلاد أقل ما يقال فيها أنها تفتقد لاحترام الفرد لذاته، بل هي مجتمعات تحترم السلطة والجاه والنسب والحسب، وتراعي النفوذ ورجال المال والأعمال، على حساب القيم والقانون والدستور، أقول إذا كنّا ما زلنا نؤمن بكل ما عبّرنا عنه في شوارع بلادنا، وإذا كنا ما زلنا نؤمن بضرورة تحرَرنا من قيودنا، وألا نرضى بأنصاف الحلول مجدداً، فنحن أمام فرصة تاريخية لمواجهة كل مخاوفنا ومجابهة أسوأ الكوابيس التي لم نكن نجرؤ الحديث عنها، وتجاوزها نحو إعادة الحلم من جديد.
لقد جرّبنا وأخطأنا وفشلنا، نعم فشلنا جميعنا، ولكننا خسرنا معركة ولم نخسر الحرب، نحن اليوم أقوى من ذي قبل، بتنا نعلم أن اختلافاتنا قوة وليست ضعفاً، وأن السفينة لن تعبر الموج بفعل ربّان سفينة منفرد، بل بفعلنا جميعاً.
لقد اجتزنا أصعب اختبار وأكثره ظلمة، ولم نعد نخاف من "الغول"، لأننا رأيناه بأم عيننا، رأيناه في مرايانا وشاركناه ليلنا الطويل!

 أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
29-7-2018


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق