تصادفت بداية متابعتي "الواعية"
للدراما العربية (المصرية والسورية على وجه الخصوص)، في منتصف الثمانينات وبداية
التسعينات، مع اهتمام الدراما اللافت بانعكاس الفساد السياسي-الاقتصادي على
المجتمع، والذي أنتج فساداً اجتماعياً بالضرورة، فكان أن طفت على السطح التغييرات
الاجتماعية المرافقة للفساد، مثل قضايا الرشوة، بيع الذمم، المخدرات، ارتفاع نسبة
الجرائم، التجارة بالأغذية الفاسدة...الخ، بحيث أصبحت الدراما آنذاك منصبّة على عرض
وتجسيد تلك القضايا وآثارها على المجتمع.
وقد
شهدت مصر في تلك الفترة انعكاسات "عهد الانفتاح"
إبان عصر الرئيس السادات، والذي استمرت نتائجه الى عهد مبارك، مع استمرار الزواج
غير الشرعي بين المال والسلطة، وتعاظم انخراط العسكر في إدارة شؤون البلاد.
بينما
كانت سوريا تعاني من سلطة الحزب الواحد التي كانت تُطبق على البلاد بقبضتها
الأمنية القمعيّة وتفرض رؤيتها الأحاديّة، فيما يستأثر أتباع الحزب بالحصة الأكبر
من الكعكة، مما أغرق البلاد في ظلماتِ بحرٍ واسعٍ من الفساد، كان زَبَدُه الملوّث
بادياً للعيان لكل من زار البلاد ولو حتى مرور الكرام.
لا
أدري ما الذي جعلني أسترجع تلك الحقبة، بل وأستعيد أسماء الأعمال الدراميّة سواء
السينمائية أو المسرحيّة او التلفزيونية، التي عرّت تلك الحقبة وعرضت غسيلها
الوسخ، الذي طال المجتمعات رغماً عنها، وأنا أتابع مجموعة من الأخبار المحليّة
المتواترة خلال الأيام الماضية في العاصمة الأردنيّة عمّان : الكشف عن أكبر سرقة
كهرباء في البلاد، إطلاق نار على موظفي سلطة المياه خلال محاولتهم منع تجاوزات في
خطوط المياه، تمرّد في سجن "سواقة" واكتظاظ في
الزنازين نظراً لارتفاع أعداد المحكومين، مع تورط أفراد من الأمن العام في أعمال
الشغب، انتشار تعاطي المخدرات بين فئة الشباب بشكل غير مسبوق، اعتداء البحث
الجنائي على دكتور جامعي في مكان عام واقتياده الى الحجز دون تهمة...الخ الأخبار
المُحبطة والمثيرة للعديد من التساؤلات.
كنّا
في السابق نتناول موضوع الفساد، وكأنه موضوع معزول عن فئات الشعب، وكنّا نظن
"لسذاجتنا" أن فئة الفاسدين هي فئة
متنفذة تستغل صلاحياتها وسلطتها، لتمرير صفقات مشبوهة كي تحصل على بعض الامتيازات
هنا وهناك، وتكتسب أموالا غير مشروعة. ولكن يبدو أننا كنا نحسن الظن، وما ذلك الا
قمّة جبل الجليد الذي يُخفي تحته ما هو أسوأ وأبشع!
من
الواضح أننا لم نعد نتحدث عن فاسدين معزولين، وإنما عن فساد مؤسساتي ناخر في
العظم، نحن نتحدث عن فساد مستشري في المجتمع في كافة قطاعاته ومستوياته!
وما
نراه حالياً من مشاهد متكررة من العنف الجامعي والمجتمعي بشكل عام، وارتفاع معدل
الجرائم بشكل كبير، وانتشار تعاطي وتجارة المخدرات، وظاهرة سرقة السيارات ثم
المطالبة بفدية (إن جاز التعبير)، إلا ظواهر ونتائج هذا الفساد، بل إن هذا العام
شهد أكثر من 500 محاولة إنتحار فردية!
إذا
كانت سرقة الكهرباء التي تم اكتشافها مؤخراً في مزرعة خاصة ضخمة تحتوي على مصنع،
هي أضخم سرقة كهرباء في تاريخ المملكة، فماذا عن باقي السرقات التي لم يتم الإعلان
عنها؟ وكيف يمكن تركيب مولّدات كهرباء ضخمة دون التنسيق الفني مع أخصائيين داخل
شركة الكهرباء، وما هي الكيفية التي بقيت فيها هذه السرقة بعيدة عن أعين المراقبين
لسنوات عديدة، وكم بلغ حجم الطاقم الفني لمشروع السرقة من مهندسين وفنيين وإداريين
واستشاريين وعمّال، ولسان حالهم (يا عزيزي كلّنا لصوص!)، أضف الى ذلك أن المولدات
مسروقة أصلا من ميناء العقبة من عدّة سنوات!
كيف
يمكن لفريق من البحث الجنائي التهجم على مواطن واحتجازه دون إذن وتصريح أمني مُسبق
من مسؤول مفوّض، وما هو حجم تورّط أفراد الأمن في تجاوز القانون، وارتباط ذلك
بأعمال فساد؟
ما
هو حجم التعديّات على ممتلكات الدولة تحت غطاء العشائرية والمحسوبيّة والمصالح
الشخصية؟! وما هو حجم الفساد الذي ستسفر عنه التحقيقات وأعداد المتورطين، وما هي أحجام
قضايا السرقات المشابهة التي بقيت حبيسة الأدراج؟!
تقول
إحدى شخصيات الرواية المُبهرة "عدّاء الطائرة الورقيّة"
للكاتب الأمريكي من أصل أفغاني "خالد حسيني"
((هناك إثمٌ واحدٌ فقط، هو السرقة، كل إثمٍ آخر هو سرقة من نوع ما. عندما تقتل
رجلاً فأنت تسرق حياة، تسرق حق زوجته في أن يكون لها زوج، تسرق من أطفاله أباهم. عندما
تكذب، تسرق حق شخص في معرفة الحقيقة. عندما تغش، تسرق الحق في المنافسة الشريفة))
آن
لنا ان ندق ناقوس الخطر ونعترف أن السرطان الخبيث قد انتشر بين ظهرانينا، مما يحتم
علينا أن نتوقف عن التستّر وراء شعارات مكافحة الفساد، وممارسة النزاهة والشفافية،
والاستمرار في الاعتقاد بأننا معزولين عن هذا الفساد. لن يفيدنا أن ندفن رؤوسنا في
الرمل، ونخدع أنفسنا بالقول إن الحياة ما زالت"بمبي"!
قال
لي أحد زملاء العمل ذات مرّة، إن كل صاحب قرار له "مفتاح"،
وتمّة أشخاص يبرعون في اكتشاف ماهية هذا المفتاح، ويبرعون أيضاً في كيفية استخدامه،
مما يضمن لهم الوصول الآمن الى منطقة التأثير في تلك القرارات!
قد
يكون المفتاح الذي تحدث عنه زميلي، هو ببساطة مكالمة من أحد المعارف، أو اسم
عشيرة، هدية بسيطة، أو مصلحة متبادلة، ولكنها رغم بساطتها، إلا أنها تمثّلُ الخطوة
الأولى في رحلة الفساد الممتدة لألف ميل!
لكم
أن تتخيلوا الى أي درجة يمكن أن ينطبق هذا الكلام على كل صاحب قرار في مؤسسات البلد،
صغيراً كان أم كبيراً، دون أن نستثني حتى أنفسنا، حينها سندرك حجم المعاناة التي
نعيش!
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
13-10-2017
رابط المقال على القدس العربي