قصة فاطمة
لي صديقٌ عزيز،
زميلُ دراسة قديم وعشرة عمر، تربينا سويّةً؛ كان رفيقي في شلّة الحارة، وفي صف المدرسة، وعندما
نقع في المحظور كنا نتشارك في تلقّي "علقة ساخنة" أو "دش بهدلة"، كنت أعتبره واحداً من أهلي وهو كذلك. كبُرنا
وكَبُرت أحلامُنا معاً، سرقتنا الدنيا من بعضنا وأصبحت لقاءاتنا متباعدة ومتفرقة، هاتفني
قبل فترة وطلب مني أن أزوره، أحسست من صوته أن شيئا جللاً قد حدث.
ذهبت
لزيارته فوجدته كئيباً وحزيناً، قدّم لي كأساً من الشاي، وبدأ ينفث دخانه في أرجاء
الغرفة، وبدون أن أسأله بادرني بالحديث، أختي فاطمة يا صديقي، قلت له ما بها فاطمة،
قال حالها لا يسر عدو ولا صديق، هل تعلم ماذا صنع بها زوجها ؟ تبادرت الى ذهني
ذكرياتها السيئة مع زوجها، وعاد لي شعور الحسرة على ارتباط مصير انسانة نقية مثل
فاطمة بمصير شخص سيء الطباع وعديم الأخلاق مثل زوجها، قلت له أعلم بعض الأشياء من
بعيد ولكن حدّثني ما الذي حصل؟
أخذ
نفساً عميقا من سيجارته، و نفث دخانها وكأنه يحاول أن يخرج كل المآسي الكاتمة على
صدره، زوجها "ليث" يا عزيزي يلعب القمار ويشرب الخمر؛ يقضي ليله
الطويل في دور الملاهي وفي أحضان الراقصات، فقدَ عمله نتيجة تسيّبه، وأصبح يعتمد
على راتب فاطمة، ليس هذا وحسب، بل انه أخرج ابناءه من المدرسة كي يعملوا ويأتوا له
بالمال، ويبدو أن ابنه الكبير "علي" ذو حظوة كبيرة عنده، فهو "الرجل الثاني" في المنزل، وهو
الناقل الرسمي لتفاصيل ما يجري في غياب الوالد، والنتيجة الآن أن هناك حلفين في
البيت، حلف الأب والأبن الأكبر، وحلف فاطمة والأولاد الصغار.
بدا صديقي
وكأنه يتحدث الى نفسه، عيونه تدور في أرجاء الغرفة، دون أن يوجهها صوبي، ثم استرسل
في حديثه قائلاً : يقضي ليث نهاره في البيت وهو يغط في النوم، يصحو مع نهاية
النهار، فيعتدي على فاطمة بالضرب والشتم، يعنّف أولاده الصغار كي يشعر برجولته،
يأخذ ما بحوزتهم من أموال ويتقسامها مع ابنه الكبير، ثم يغادر الى حيث يجد متعته،
يعود مع وقت الفجر، ليعيد نفس الكرة مع زوجته وأولاده وهكذا دواليك .
أطبق
الصمت علي، بينما أشعل صديقي سيجارته الثانية، وأردف قائلاً، مؤخراً علمتُ بأنه يعاقب
من يعصي أوامره من أولاده بحبسهم في غرفهم وابقائهم دون طعام أو شراب ليوم كامل، ثم
يفرج عنهم بعد أن يجعلهم يقبًلون حذاءه ويقدّموا له بعض الرقصات التي تسعده، ثم
يطلب منهم أن يهتفوا باسمه ويمجدوه ويقدسوه!!
انتفضت
من مكاني لا شعورياً وصرخت قائلاً هذا غير معقول، هذا انسان مريض، مختل عقلياً !!!
وماذا أنت فاعل ؟ هل فكرت أن تلجأ الى الشرطة ؟
قال لي
ببرودة أعصاب يُحسد عليها اجلس ...اجلس !
استطردت في فورة الغضب وكأني لم أسمع ما يقول:
لو
ذهبت الى أي قاضي سيحكم لك بطلاقها منه؟! ولو لجأت الى عشيرتك لأقتصوا منه، يا أخي
تحلّى ببعض النخوة ودافع عن أختك، ضع له حداً، خذ فاطمة وأولادها بالقوة، أحضرهم ليعيشوا
عندك، ألست مسؤولاً عنهم ؟!
أشار
لي بالهدوء، وأشعل سيجارة جديدة؛ أحسست أن بالوناً كان منفوخاً في صدري ثم انفجر فجأة
فبات قلبي خاوياً. ما أعتدت منك هذا اللين والترفق، ما الموضوع ؟!
هل تريدني أن أطلقها منه؟ لنفترض جدلاً ان هذا
حصل، ماذا سيكون مصير فاطمة وأولادها ؟ ألا تعلم نظرة المجتمع للمرأة المطلقة ؟!
من سيعولها ويعول أبناءها وأنت تعلم بحالي ؟! أنا لن أعيش لهم للأبد، ماذا سيكون
مصيرهم من بعدي ؟
قلت
له يا أخي ضع ثقتك في الله، ولن يخيب ظنك أبداً، سيكون لها نصيب مع من يقدرها
ويحسن اليها باذن الله، على الأقل اعطها فرصة أن تختار وتعش حياتها.
هل
تضمن لي أن القادم أفضل من حاضرها ؟! ثم ألا تذكر أبناء عمومتي وعداءهم الشديد لنا،
بسبب الخلاف القائم حول قضية الارث ؟! أنا واثق أنهم سيستغلون الفرصة وسيمارسوا
ألاعيبهم كي تتزوج من أحد معارفهم ثم يجبروها على التنازل عن حقوقها ويرموها في الشارع،
أقسم لك أن ما يحصل لفاطمة الآن هو أهون علي من أن تصبح لعبة هي وأولادها في يد
ابناء عمومتي.
عندها
فقدت السيطرة على أعصابي وأنفجرت في وجهه، بأي منطق تتكلم؟! وأية أنانية تلك التي
تعتمل في صدرك، بأي حق تقوم بتحديد مصير فاطمة كما يروق لك، ومن أعطاك الحق لتحكم
على مستقبلها وقدرها ثم تقول انه سيكون أسوأ من حاضرها !! اذا كنت تتحدث عن المنطق
والصواب، فأختك فاطمة الآن تعيش في جحيم والأولى بك أن تفكر في تخليصها منه، وبعد
ذلك يكون لكل حادث حديث، أما أن تتركها تواجه مصيرها مع شخص تجرّد من كل معاني
الانسانية بحجة الخوف من المستقبل ومن كيد أبناء العمومة فهذا عذر أقبح من ذنب!!
تركته
جالساً وهممت بالمغادرة ثم عدت أدراجي وكأني لم أشف غليلي بعد، قلت له أتعلم ؟!
أنا بالفعل غير قادر على تصور أن فاطمة الآن قد تكون محبوسة أو قد تكون تداوي
جراحها أو تضمد جراح أبناءها في هذه اللحظة بالذات ، بينما أنت جالس هنا تشرب
الشاي وتدخن سيجارتك، وفوق هذا كله تحاول ايجاد الأعذار على نكوصك ونقص رجولتك !!
توجهت
الى الباب وعندما أصبحت على عتبة داره، التفت اليه قائلاً : أشعر بالخجل منك ومن
تصرفاتك، وأبرأ الى الله منك !!
عدتُ
الى منزلي، واستلقيت في فراشي، ولكني عبثاً حاولت النوم، كلما غفوتُ أيقظتني صرخة
فاطمة واستجداء صغارها، فلم أجد بُداً من مغادرة الفراش؛ جلست أشاهد التلفاز، وأتنقل
بين البرامج، استوقفني برنامج حواري يتحدث عن مأساة سوريا، وللصدفة كان هناك أحد
القومجيون العرب، الذي يروّج لنظرية المؤامرة – كما يفهمها هو - ويتحدث عن
المستقبل المجهول لسوريا اذا ما سقط نظام الأسد، ثم أنهى مداخلته قائلاً "أنا لا أساند الطغيان ولكني أقف ضد
المخطط الامريكي الامبريالي في المنطقة التي تسانده دول الخليج !!" فما كان
مني الا أن صنعت كأس شاي، وأشعلت سيجارتي، ثم جلست أنفث دخانها في أرجاء الغرفة !!!
أيمن أبولبن
18-4-2014