الأربعاء، 23 أبريل 2014

قصص من الواقع (3)

قصة فاطمة

      لي صديقٌ عزيز، زميلُ دراسة قديم وعشرة عمر، تربينا سويّةً؛ كان رفيقي في شلّة الحارة، وفي صف المدرسة، وعندما نقع في المحظور كنا نتشارك في تلقّي "علقة ساخنة" أو "دش بهدلة"، كنت أعتبره واحداً من أهلي وهو كذلك. كبُرنا وكَبُرت أحلامُنا معاً، سرقتنا الدنيا من بعضنا وأصبحت لقاءاتنا متباعدة ومتفرقة، هاتفني قبل فترة وطلب مني أن أزوره، أحسست من صوته أن شيئا جللاً قد حدث.

   ذهبت لزيارته فوجدته كئيباً وحزيناً، قدّم لي كأساً من الشاي، وبدأ ينفث دخانه في أرجاء الغرفة، وبدون أن أسأله بادرني بالحديث، أختي فاطمة يا صديقي، قلت له ما بها فاطمة، قال حالها لا يسر عدو ولا صديق، هل تعلم ماذا صنع بها زوجها ؟ تبادرت الى ذهني ذكرياتها السيئة مع زوجها، وعاد لي شعور الحسرة على ارتباط مصير انسانة نقية مثل فاطمة بمصير شخص سيء الطباع وعديم الأخلاق مثل زوجها، قلت له أعلم بعض الأشياء من بعيد ولكن حدّثني ما الذي حصل؟

   أخذ نفساً عميقا من سيجارته، و نفث دخانها وكأنه يحاول أن يخرج كل المآسي الكاتمة على صدره، زوجها "ليث" يا عزيزي يلعب القمار ويشرب الخمر؛ يقضي ليله الطويل في دور الملاهي وفي أحضان الراقصات، فقدَ عمله نتيجة تسيّبه، وأصبح يعتمد على راتب فاطمة، ليس هذا وحسب، بل انه أخرج ابناءه من المدرسة كي يعملوا ويأتوا له بالمال، ويبدو أن ابنه الكبير "علي" ذو حظوة كبيرة عنده، فهو "الرجل الثاني" في المنزل، وهو الناقل الرسمي لتفاصيل ما يجري في غياب الوالد، والنتيجة الآن أن هناك حلفين في البيت، حلف الأب والأبن الأكبر، وحلف فاطمة والأولاد الصغار.

  بدا صديقي وكأنه يتحدث الى نفسه، عيونه تدور في أرجاء الغرفة، دون أن يوجهها صوبي، ثم استرسل في حديثه قائلاً : يقضي ليث نهاره في البيت وهو يغط في النوم، يصحو مع نهاية النهار، فيعتدي على فاطمة بالضرب والشتم، يعنّف أولاده الصغار كي يشعر برجولته، يأخذ ما بحوزتهم من أموال ويتقسامها مع ابنه الكبير، ثم يغادر الى حيث يجد متعته، يعود مع وقت الفجر، ليعيد نفس الكرة مع زوجته وأولاده وهكذا دواليك .

  أطبق الصمت علي، بينما أشعل صديقي سيجارته الثانية، وأردف قائلاً، مؤخراً علمتُ بأنه يعاقب من يعصي أوامره من أولاده بحبسهم في غرفهم وابقائهم دون طعام أو شراب ليوم كامل، ثم يفرج عنهم بعد أن يجعلهم يقبًلون حذاءه ويقدّموا له بعض الرقصات التي تسعده، ثم يطلب منهم أن يهتفوا باسمه ويمجدوه ويقدسوه!!

  انتفضت من مكاني لا شعورياً وصرخت قائلاً هذا غير معقول، هذا انسان مريض، مختل عقلياً !!! وماذا أنت فاعل ؟ هل فكرت أن تلجأ الى الشرطة ؟

  قال لي ببرودة أعصاب يُحسد عليها اجلس ...اجلس !

استطردت في فورة الغضب وكأني لم أسمع ما يقول:

   لو ذهبت الى أي قاضي سيحكم لك بطلاقها منه؟! ولو لجأت الى عشيرتك لأقتصوا منه، يا أخي تحلّى ببعض النخوة ودافع عن أختك، ضع له حداً، خذ فاطمة وأولادها بالقوة، أحضرهم ليعيشوا عندك، ألست مسؤولاً عنهم ؟!  

  أشار لي بالهدوء، وأشعل سيجارة جديدة؛ أحسست أن بالوناً كان منفوخاً في صدري ثم انفجر فجأة فبات قلبي خاوياً. ما أعتدت منك هذا اللين والترفق، ما الموضوع ؟!

    هل تريدني أن أطلقها منه؟ لنفترض جدلاً ان هذا حصل، ماذا سيكون مصير فاطمة وأولادها ؟ ألا تعلم نظرة المجتمع للمرأة المطلقة ؟! من سيعولها ويعول أبناءها وأنت تعلم بحالي ؟! أنا لن أعيش لهم للأبد، ماذا سيكون مصيرهم من بعدي ؟

   قلت له يا أخي ضع ثقتك في الله، ولن يخيب ظنك أبداً، سيكون لها نصيب مع من يقدرها ويحسن اليها باذن الله، على الأقل اعطها فرصة أن تختار وتعش حياتها.

   هل تضمن لي أن القادم أفضل من حاضرها ؟! ثم ألا تذكر أبناء عمومتي وعداءهم الشديد لنا، بسبب الخلاف القائم حول قضية الارث ؟! أنا واثق أنهم سيستغلون الفرصة وسيمارسوا ألاعيبهم كي تتزوج من أحد معارفهم ثم يجبروها على التنازل عن حقوقها ويرموها في الشارع، أقسم لك أن ما يحصل لفاطمة الآن هو أهون علي من أن تصبح لعبة هي وأولادها في يد ابناء عمومتي.

  عندها فقدت السيطرة على أعصابي وأنفجرت في وجهه، بأي منطق تتكلم؟! وأية أنانية تلك التي تعتمل في صدرك، بأي حق تقوم بتحديد مصير فاطمة كما يروق لك، ومن أعطاك الحق لتحكم على مستقبلها وقدرها ثم تقول انه سيكون أسوأ من حاضرها !! اذا كنت تتحدث عن المنطق والصواب، فأختك فاطمة الآن تعيش في جحيم والأولى بك أن تفكر في تخليصها منه، وبعد ذلك يكون لكل حادث حديث، أما أن تتركها تواجه مصيرها مع شخص تجرّد من كل معاني الانسانية بحجة الخوف من المستقبل ومن كيد أبناء العمومة فهذا عذر أقبح من ذنب!!

   تركته جالساً وهممت بالمغادرة ثم عدت أدراجي وكأني لم أشف غليلي بعد، قلت له أتعلم ؟! أنا بالفعل غير قادر على تصور أن فاطمة الآن قد تكون محبوسة أو قد تكون تداوي جراحها أو تضمد جراح أبناءها في هذه اللحظة بالذات ، بينما أنت جالس هنا تشرب الشاي وتدخن سيجارتك، وفوق هذا كله تحاول ايجاد الأعذار على نكوصك ونقص رجولتك !!

  توجهت الى الباب وعندما أصبحت على عتبة داره، التفت اليه قائلاً : أشعر بالخجل منك ومن تصرفاتك، وأبرأ الى الله منك !!

   عدتُ الى منزلي، واستلقيت في فراشي، ولكني عبثاً حاولت النوم، كلما غفوتُ أيقظتني صرخة فاطمة واستجداء صغارها، فلم أجد بُداً من مغادرة الفراش؛ جلست أشاهد التلفاز، وأتنقل بين البرامج، استوقفني برنامج حواري يتحدث عن مأساة سوريا، وللصدفة كان هناك أحد القومجيون العرب، الذي يروّج لنظرية المؤامرة – كما يفهمها هو - ويتحدث عن المستقبل المجهول لسوريا اذا ما سقط نظام الأسد، ثم أنهى مداخلته قائلاً  "أنا لا أساند الطغيان ولكني أقف ضد المخطط الامريكي الامبريالي في المنطقة التي تسانده دول الخليج !!" فما كان مني الا أن صنعت كأس شاي، وأشعلت سيجارتي، ثم جلست أنفث دخانها في أرجاء الغرفة !!!

   أيمن أبولبن 
18-4-2014


الجمعة، 18 أبريل 2014

إقرأ حتى وإن كنت تغرق !



   في فنلندا، هناك نصبٌ في حديقة عامة كُتب عليه عبارة " إقرأ حتى وإن كنت تغرق" تم تصميمه على هيئة رجل يقرأ بكتاب وسط الماء، وهي فكرة لطيفة تشير الى أهمية القراءة والثقافة بشكل عام للمجتمعات، وكيف أن الدول الغربية مهتمة بتحفيز وحثّ شعوبها على القراءة، ووضع القراءة والمعرفة على قائمة أهم أولوياتها.

   من باب التذكير فقط أذكر أن أول كلمة نزلت من القرآن الكريم كانت كلمة "اقرأ"، يقول الله تعالى (اقرأ باسم ربك الذي خلق) وهذه اشارة جليلة لحرص الاسلام على جعل الفكر والثقافة السبيل الأول للايمان بالله، فالايمان الحقيقي لا يكون الا بالعلم وادراك مراد الله في الكون، والايمان الأعمى أو المتعصب ينمّ عن ضعف أو نقص في الايمان، ومن هنا تأتي عظمة المعجزة الكبرى لنبينا محمد "القرآن الكريم"، فالحرص على التديّن والتعمق في منهج الله يكون من خلال "القراءة" وتطوير أدواتها، وبدون اتقان مهارة القراءة تختل مفاهيم الايمان.

   لعل الشعوب العربية لا تقل اهتماماً بالقراءة عن باقي الشعوب الغربية، ولكن الفارق يمكن في اهتمام المؤسسات الحكومية والمدنية على رعاية الثقافة في المجتمعات، فمجتمعاتنا الشرقية والعربية خصوصاً تفتقد للمسة الرعاية والاهتمام هذه، مما يجعل تجربة القراءة والثقافة في مجتمعاتنا لا تعدو كونها اجتهادٌ شخصي للأفراد وللأُسَر، مما يجعلها عُرضة لكثير من النواقص والعيوب، ومنها حصر مفهوم القراءة في متابعة " الرواية العربية" وهذا خطأ جسيم تقع فيه فئة كبيرة من القُرّاء وخاصة الفتيات، فبرغم أهمية الرواية في شحذ الخيال وفتح باب التأمل والتفكير ، الا أنها لا تعدو كونها فصلاً واحداً من فصول القراءة والثقافة، فالاهتمام بالقراءة والثقافة يتعدى المجال الأدبي ليصل الى كافة مجالات الحياة العلمية والسياسية والمهنية والاجتماعية ومجالات تطوير الذات والتاريخ ...... الخ، وبقدر التنوع الذي يحرص عليه الشخص بانتقاء مصادر القراءة بقدر ما تتسع مداركه ويصبج قادراً على مواكبة الأحداث الجارية حوله، بل والتأثير في سيرها ولعل هذا هو الهدف الأسمى من القراءة.

      تتدرّج القراءة من قراءة بسيطة عابرة مثل قراءة الجريدة الرسمية، الى متابعة المقالات التحليلية والدراسات الاجتماعية ومن ثم الانطلاق نحو المزيد من القراءة التفصيلية للمواضيع التي يهتم بها الفرد، والتي عادةً ما تكون مرتبطة باهتماماته الخاصة سواءً المهنية أو السياسية أو اهتماماته الشخصية، ثم يأتي بعد ذلك تخصيص وقت للقراءة العامة بحيث لا يمضي يوم دون قراءة جزء من كتاب أو البحث عن موضوع أو قضية عامة والتعمق فيها، وأنا شخصيا أحبذ أن لا أركز على كتاب واحد حتى الانتهاء منه على عكس كثيرين، فأنا أبدأ بقراءة كتابين أو ثلاثة في مواضيع مختلفة، على أوقات موزعة خلال أيام الأسبوع حتى لا يتسلل الملل لي،  فأنا لست من الذين ينغمسون في القراءة وينهون قراءة الكتاب في وقت قياسي، أشعر أن القراءة البطيئة والمتمعنة وما يتبعها من تحليل لما قرأت والبحث بين السطور أهم من انجاز القراءة بحد ذاتها.

   أذكر أن مُدرّسة في معهد اللغات الامريكي نصحتني ذات يوم بأن أحمل معي كتاباً وأستغل الوقت "المستنزف" في المواصلات العامة بالقراءة، لم آخذ بنصيحتها بالطبع رغم اقتناعي بالفكرة، لأسباب تعود الى عدم توفر سبل الراحة في المواصلات العامة على عكس الحال في بلاد الغرب، ولكني أعجبت بالفكرة وأستوقفتني كثيراً وقتها، وعجبت من الاهتمام الكبير  لهذه المُدرّسة في القراءة واستغلال الوقت، لذا بدأت بتطبيق هذه الفكرة لاحقاً لاستغلال الوقت الضائع في غُرف الانتظار  وفي السفر وغيرها.

   الحياة البشرية عبارة عن دورة متكاملة، ونواميس الكون علمتنا أن الحياة كالعجلة تدور ولا تتوقف، كما أن العلم أثبت أن جسم الانسان يعتمد على دورات عدة مثل الدورة الدموية والتنفسية والهضمية، وكذلك هي القراءة، فهي بمثابة الغذاء الروحي الذي نعيش عليه، وكي تكتمل الدورة علينا أن "نهضم" هذا الغذاء ونستفيد منه ثم نعكسه على شؤون حياتنا، ومع اكتمال دورة القراءة سنساعد أنفسنا على التخلص من الأفكار السلبية الكامنة في نفوسنا واستبدالها بأفكار ايجابية مفيدة وممتعة، وهكذا دواليك، فالهدف هو أن نرقى بأنفسنا من خلال القراءة والرقي بمجتمعاتنا وصولاً الى تحقيق حياة أفضل لنا ولأبنائنا، وبدون هذا لا يكون هناك معنى للقراءة فالبشر لم يُخلقوا للتخزين والتكديس بل للتدوير .

  اقرأ حتى لو كنت تغرق، أعجبتني هذه العبارة ودفعتني للكتابة حال قراءتي لها، ولعلي أضيف تعديلاً لها أو بُعداً آخر بالربط بين الغرق والتوقف عن القراءة، فمفهوم القراءة يعتمد على التجدّد المستمر وعدم الركون، فالقراءة يجب أن تبقى مصاحبة لنا في شتى الأوقات وباختلاف أحوالنا وحتى في ذروة انشغالنا، وفي اللحظة التي نتوقف فيها عن القراءة "سنغرق" في آتون الحياة، وهذا ما سيحدث لنا لو توقفنا عن العوم في الماء ولو للحظة، لو سمح لي القائمون على هذا التمثال لوضعت عليه عبارة " اقرأ حتى لا تغرق ! "

  هذه دعوة لجعل القراءة نشاطاً يومياً، واضعين في اعتبارنا أنها ليست هدفاً في ذاتها فالقراءة جزءٌ من دورة الحياة ولا تكتمل بذاتها.


أيمن أبولبن
10-4-2014






السبت، 5 أبريل 2014

السينما حين لا تثير الدهشة



   يقول أنتوني كوين الممثل الامريكي، والذي أشتهر بتجسيده شخصية "زوربا" اليوناني، و"عمر المختار" في فيلم  "أسد الصحراء" للراحل مصطفى العقاد، يقول أنه تعلم حكمة في بداياته الفنيّة، كان لها الدور الكبير في نجاحاته اللاحقة، وكانت بمثابة البوصلة التي عملت على توجيهه في اختياراته الفنية، هذه الحكمة أو النصيحة أخذها عن أحد عمالقة صناعة السينما حينها وتقول "يا بني، الجمهور لا يأتي الى السينما لتكرار مشاهد الحياة اليومية، بل للهروب من واقعهم؛ قدّم لهم شيئا مُدهشاً يهرب بهم الى حيث أحلامهم ".

  في بداية ظهور الأفلام السينمائية، كان مجرد مشاهدة شخصيات واقعية تؤدي أدواراً على الشاشة بالصورة ثم بالصوت والصورة، كافياً لخلق الدهشة والانبهار لدى الجمهور، ورويداً رويداً بدأت السينما باحتلال مرتبة أساسية للترفيه عن الشعوب، وتأدية دور ايجابي بالتأثير في المجتمع، ومن هنا بدأت الدوائر صاحبة القرار باستغلال الفن وصناعة السينما بالذات في بث رسائل للجماهير وتحقيق أهداف خفية من خلالها.

  ومع تقدم التكنولوجيا وصناعة السينما، أصبح المجال مُتاحاً لتجسيد أفكار خيالية، وتطويعها لتعرض على شاشة السينما فيتلقاها المشاهد و يصدقها ويتأثر بها، وتنجح بالتالي في اثارة الدهشة والاعجاب وتصل الى النجاح المنشود سواءً على مستوى الاقبال الجماهيري والايرادات، أو على مستوى المسابقات الفنية والجوائز. ولكن العنصر الأهم لنجاح أي فيلم وتميزه، هو تبنيه لفكرة غريبة ونادرة، تثير الفضول لدى المشاهد وتطلق العنان لمخيلته الفكرية، وتفتح له باب التأمل على مصراعيه، وتترك عنده بصمة عميقة ترتبط بهذا الفيلم، وأذكر هنا ثلاثة أفلام حُفرت ذكراها في ذهني خاصة، ويشاركني بها -على ما أعتقد-  متابعو الأفلام وعشاق الفن السابع، فيلم "الشبح “ Ghost ، " الحاسة السادسة 6th Sense " وأخيرا فيلم " الايحاءInception ".

   بعيداً عن ابهار الفكرة والابهار التكنولوجي، من اللافت للانتباه لدى معظم المتابعين أن أكثر الأفلام تأثيرا في الجماهير وأكثرها نجاحاً على مستوى تقييم النقاد والحصول على الجوائز الفنية وعلى رأسها الأوسكار، هي تلك الأفلام التي تنقل الواقع وتجسده بشكل درامي مؤثر، أو تلك الأفلام التي تحيك قصصاً تحاكي فيها الواقع وتُسقط الخيال السينمائي على أحداث واقعية فتصدم الجمهور وتثير الدهشة بصدقها وتحليلها للواقع بطريقة فنية، بحيث تجعلنا نرى الأمور من زاوية أخرى كانت غائبةً عنا وسط الضغوطات التي نعيشها في حياتنا اليومية، فتتيح لنا هذه الأفلام مجالا للتأمل والتفكير، أو مراجعة أنفسنا فيما نفعله.

   لعل فيلم "انقاذ الجندي رايان Saving Private Ryan " من انتاج واخراج ستفين سبيلبيرغ، أفضل مثال على هذه النوعية من الأفلام، بعد النجاح الكبير الذي حققه وجعله مرجعاً للأفلام الحربية بعد حصوله على 5 جوائز أوسكار، ولم يأت هذا النجاح من فراغ بل كان ثمرة عمل دؤوب من صانعي الفيلم حيث قام فريق الاعداد برسم الخط الدرامي للفيلم بصياغة قصة سينمائية مثيرة، ثم قاموا باجراء لقاءات مع عدد كبير من الجنود والضباط الذين شاركوا في الحرب العالمية الثانية ومن خلال هذه اللقاءات قام معدّو الفيلم بتوثيق تفاصيل أكثر من 20 معركة حقيقية، وأخيراً قاموا بربط شهادات المحاربين ونسجها مع القصة السينمائية المُفترضة، لتكون النتيجة قصة درامية مؤثرة بقالب فني ابداعي من حيث استخدام المؤثرات الصوتية والبصرية، والأداء التمثيلي الراقي، بالاضافة الى وجود مخرج مُبدع استطاع أن يستخدم الكاميرا بذكاء، فكانت النتيجة ابهار وادهاش للمشاهد ما بعده ابهار.

    في افتتاح الفيلم قال سبيلبيرغ "هدفي هو أن أعرض للناس ولأصحاب القرار بشاعة وفظاعىة الحروب على البشرية، وأن أجعلهم يفكروا جيداً قبل أن يؤيدوا حرباً أو يشاركوا فيها".

   ان أكثر ما يؤثر فينا كمُشاهدين، هو ربط أحداث الفيلم بمعاناتنا اليومية وبأحداث حدثت بالفعل لنا أو لأناس عايشناهم وخالطناهم، وبذلك يترك الفيلم بصمةً عميقةً في وجداننا. ما زلت أذكر والدي كيف كان يُبدي تأثره عند مشاهدته لأي فيلم يتحدث عن معاناة القضية الفلسطينية، وأذكر كيف كان يربط بين مشاهد فيلم "الرسالة"  على سبيل المثال و المعاناة التي عاشها في ظل المآسي التي ما زالت عالقة في ذاكرته عن التعذيب والقتل والتهجير والاضطهاد، كنت أراقبه وعيناه تدمعان بصمت، ثم أسأله بعد ذلك فيجيب: "تذكرت حالنا أيام البلاد" !!

  هذه هي الدهشة التي تحدث عنها أنتوني كوين، بأن نرى أنفسنا في شخصية معينة في الفيلم، أو أن نتفاعل مع الفيلم وكأننا نعيشه، وهذا هو الدور الذي يفترض أن يلعبه الفن في حياتنا عموماً والسينما خاصة، وهذا ما أفتقده أنا شخصياً
في السنوات الأخيرة، حيث غابت الدهشة وغاب الابهار عن الافلام السينمائية ولم تعد تعرض ما يبهرني او يشد انتباهي لا لشيء سوى أن حياتنا اليومية التي نعيشها باتت مليئة بالابهار والدهشة، بالانكسار وبالخوف، ولا تخلو من الكوميديا السوداء أيضاً.

   أذكر أني كنت حريصاً على تجنيب أبنائي مشاهدة الأفلام التي تحتوي على الكثير من العنف والقتل ومشاهد الدماء، ولكني وجدت نفسي لا أكترث لذلك مؤخراً، لسهولة اقناعهم بأن هذا مجرد تمثيل أو خداع سينمائي، ولكني صرت أكثر حرصاً على عدم متابعتهم لنشرات الأخبار، وصرت قلقاً من الأسئلة التي يمكن أن يطرحها ابني البكر من خلال متابعته لمواقع التواصل الاجتماعي، ماذا سأجيبه يا ترى ومن أين سأجد له مبررات لدوامة العنف التي نعيشها !!

   السينما برأيي باتت بحاجة الى ثورة وطفرة جديدة كي تستطيع أن تُدهشنا من جديد، وتجذبنا اليها، أو ربما تكون بحاجة للتركيز على أحلامنا الضائعة وحقوقنا المفقودة، كما قال أنتوني كوين، أعتقد أننا جميعا نصبو الى رؤية أحلامنا تتحقق حتى لو كان ذلك مجرد فيلم سينمائي، قد يكون هذا مُدهشا حقاً !

  كم أتوق الآن لمشاهدة المشهد الأخير من فيلم " Papillon  " ورؤية ستيف ماكوين وهو يقفز من أعلى الجبل باتجاه البحر محققاً حلم الحرية الذي أمضى سنين عمره وهو متمسكٌ به، متشبثٌ بالأمل في تحقيقه ولو بعد حين، فالحريه هي اخر وأفضل أمل على ظهر الارض، كما قال ابراهام لينكولن.


أيمن أبولبن
25-3-2014