في
أواخر الثمانينات من القرن الماضي، توجهتُ الى دمشق حاملاً معي شهاداتي وآمالي في
أن يحالفني الحظ في الحصول على مقعدٍ جامعيٍ في احدى جامعاتها، وفي طريقي الى دمشق
رأيت العجب العُجاب، وعُدت بخُفّي حُنين .
بدايةً وعلى الحُدود السورية
شاهدت بأم عيني موظف الحدود وهو يُقلّب جوازات السفر بحثاً عن ورقة الخمسين ليرة،
رأيته يُكدّس أمامه جميع الجوازات التي لا تحتوي على "كرت غوار"، ويقوم بتختيم الجوازات "المحترمة" بأداءٍ عالٍ وهمّة متناهية، رأيت موظف
تفتيش الجمارك يتلقّى الهدايا وباكيتات الدخان ويغُضّ النظر عن حمولة السيارة ولو
كان فيها قتيلاً !!
وقفتُ على الدور لأصادق على شهاداتي أمام احدى
الوزارات الرسمية المختصة، واكتشفت اني كنت ساذجاً جداً لاعتقادي ان الأمور تتم
على طبيعتها وأن موظف تصديق الشهادات يؤدي عمله بنزاهة. جاءني ولدٌ صغير وطلب
مني مبلغاً على ما أذكر انه كان مئة ليرة من أجل تختيم الشهادة، نهرتُهُ وظننت أنه
يريد استغفالي، سخر مني وقال : هل تعتقد انك بوقوفك في هذا الصف ستصل الى الموظف
وتختم شهادتك هكذا "مجانا" ؟! قلت له ولِمَ لا، ألسنا في وزارة حكومية
رسمية وأوراقي سليمة !! تبسّمَ وحاله يقول :انتظر وسوف ترى، وبالفعل في نهاية
الأمر لم أصل الى داخل المبنى، ولم أرَ وجه الموظف، ولكني حصلت على تصديق الشهادة
!!!
تَذكّرتُ المثل الشعبي "من لهُ ثمَن لا يُؤتَمَن" وأدركت أن نظاماً يقومُ على الفسادِ
والرشاوى والأتاوات، لا يُؤمّل عليه، وتساءلت ببراءة ما دام تصديق الشهادة يتم
بمائة ليرة سورية، فكم يكون يا ترى ثمن الحصول على شهادة جامعية دون الجلوس على
مقاعد الدراسة !؟ ماذا عن الحصول على وظيفة !؟ كل شيء وله ثمن في
هذا البلد.
عندما
تكون سائحاً في دمشق سيتهافت عليك البائعون من كل مكان، كلٌّ له بضاعة ويريد ان
يروّجها، شقة مفروشة، بائعات الهوى، ملاهي ليلية، أطلب وتمنى وعيش حياتك، وعلى
الطرف الآخر تجد المواطن السوري "الغلبان" الذي يُصارع الحياة من بزوغ الشمس حتى
غروبها ليبحث عن لقمة عيشه، المواطن السوري الذي تركَته دولته يلهث وراء الرشاوى
والأتاوات وأكل الحرام، حتى يستر على نفسه وعلى عائلته.
في طريق العودة، راجعتُ ما شاهدت هناك،وكم
شعرت بغُصّة في الحلق من أحوال هذا البلد، وكم شعرت بالسخط على نظامه وعلى حزب
البعث الأوحد، وكم شعرتُ بالأسى على حال مواطنيه البسطاء، وتذكرت ذلك الشاب
الذي التقيت به في احدى الحافلات، وأخبرني أنه طالبٌ في النهار وعاملٌ في أحد
المطاعم ليلاً، وبرغم حاجته الا أنه دفع تذاكر تلك الحافلة عني، وأصرّ على
دعوتي أنا وزملائي الذين رافقوني في الرحلة الى المطعم الذي يعمل به، كم أنت
رائع ببساطتك ايها الشعب السوري.
عندما وصلت بنا الحافلة الى منطقة
الشميساني – العبدلي، كان معنا في الباص بعض السوريين الذين يأتون الى عمان لأول
مرة، وشاهدت المفاجاة على أعينهم عندما رأوا السيارات الحديثة في الشوارع، وعندما
رأوا بنايات عمان ذات الحجر الأبيض المميز، وزادني ذلك المشهد غصة فوق غصة.
في اوائل التسعينات، هبت عاصفة السلام على
المنطقة برعاية امريكية، وجَلَست جميعُ الأطراف على الطاولة، وبعدها بسنوات قليلة،
تم توقيع معاهدات السلام بين جميع دول المنطقة باستثناء سوريا " الأبيّة " سخرت وقتها في سرّي وقلت : يبدو أن الثمن
المطلوب هذه المرة باهظٌ للغاية ويتجاوز الميزانية الامريكية المرصودة لهذه
العملية !!!! ولكني لا أُخفي أني سُررت بنشاز سوريا عن الخطة الامريكية للمنطقة،
نكاية في امريكا وفي اسرائيل .
في اواخر التسعينات، عدت الى سوريا من جديد، في
رحلة سياحية الى دمشق والمصايف، كان بادياً للعيان أن الأحوال في تحسن، على الأقل
في الأمور الظاهرية، ولكن النظام هو النظام، والسيستم ما زال يعمل ويدور كالطاحونة
الهولندية، ما زالت ملامح البؤس تطغى على المكان والأناس، هناك شيءٌ مفقود، هناك
حاجة ملحة في أذهانهم ما زالوا يبحثون عنها، وعندما ضاق بهم الأمر، أعلنوها مدوية
في شوارع درعا وانتقلت كالنار في الهشيم الى باقي المناطق، حريّة …. حريّة و
بس .
وللحديث بقية ……
أيمن أبولبن
9-2-2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق